حكاية «أبوزيد» آخر «شربتلي» في الفيوم

كل يوم مع اقتراب موعد الإفطار في رمضان، يقف «أبوزيد» خلف عربته التي تبيع المشروبات التقليدية الرمضانية، تماما كما كان يفعل الشربتلية منذ عقود كثيرة لإرواء عطش الصائمين في الأسواق والميادين. ورغم مرور الزمن وتغير شكل المهنة، لا تزال روح الشربتلي حاضرة في بائعي المشروبات التقليدية، وهو ما لا نراه في محال العصائر.. «باب مصر» يستعرض معكم كيف تحولت مهنة الشربتلي عبر الزمن.
الشربتلي في شوارع مصر
تعود جذور مهنة الشربتلي إلى العصر الإسلامي، فقد كانت إحدى المهن الأساسية التي تختص دون غيرها بتصنيع وبيع المشروبات الشعبية والتقليدية في الأسواق والشوارع المصرية. وتشتق كلمة “شربتلي” من الكلمة الفارسية التركية “شَربَت”، أي المشروب المحلى بالسكر أو العصير كما يُعرف الآن، وانتقلت إلينا خلال الفترة العثمانية في تاريخ مصر.
ازدهرت مهنة الشربتلي في مصر خلال العصر المملوكي والعثماني، وكان الشربتلية يتجولون في الميادين والأسواق، يحملون القرب الفخارية أو النحاسية على ظهورهم، حيث كان يرتدي كل واحد منهم زيه التقليدي الذي يميزه، وهو الجلباب الفضفاض والطربوش أو العمامة التي تلف رأسه، وفي يده كوب صغير من النحاس يقوم بإعادة ملئه لكل زبون. وكان يلف وسطه حزام عليه صندوق صغير من المعدن لوضع النقود، وفي بعض الأحزمة كان هناك مكان لوضع الأكواب. وكان أغلب الشربتلية يبيعون مشروبات الليمون، العرقسوس، الخروب، التمر هندي.
وفي شهر رمضان، كانوا يتواجدون قبيل آذان المغرب عند المساجد وفي الميادين، وبالطبع كان الصائمون يقبلون عليهم لشراء تلك المشروبات بعد عناء يوم طويل من الصيام، وكانت جميع العائلات المصرية تعتمد عليهم لشراء تلك المشروبات الطازجة.
تطور شكل الشربتلي
وذكرت لنا كتب التراث الشهيرة، أن الشربتلية كانوا جزءا هاما في المناسبات والحياة اليومية والأفراح وحتى المناسبات الدينية في مصر. وقد تطور زي الشربتلي مع مرور الوقت، فبعد أن كان يرتدي الجلباب والعمامة، أصبح يرتدي زيا مميزا يتكون من سروال واسع يضيق على أسفل القدمين، وقميص يحتوي على أزرار من الأمام، وفي بعض الأحيان والمناسبات، يرتدي فوق القميص صديري يحتوي على الزخارف بالخيوط اللامعة، ثم يضع على رأسه طاقية أو طربوش، ويلف وسطه حزام عريض من الجلد، ويساعده أيضًا في تثبيت حزام آخر يلف على الكتف لحمل إبريق المشروبات.
ثم أصبح الشربتلي يضع مشروباته في إبريق ضخم مصنوع من النحاس، يحمله على جانبه. وبعد فترة من الزمن، استبدل الإبريق النحاسي بآخر مصنوع من الزجاج، وبدأ دور الشربتلية يتراجع شيئا فشيئا. لكن المهنة ظلت رائجة ومستمرة حتى بدايات القرن العشرين، قبل ظهور العصارات الحديثة في محال العصائر. واقتصر الشربتلي على بائع العرقسوس الذي نراه الآن بشكل نادر في بعض ميادين القاهرة بزيه التقليدي، في محاولة بائسة تقاوم الاندثار المحتم.
مشروبات رمضانية
تشتهر في مصر، لاسيما في شهر رمضان، مشروبات خاصة قد لا تجدها في دول أخرى. فليس التمر والحليب هو ما يُفطر عليه المصريون في رمضان مثل ما يحدث في الدول العربية. لكن هناك مشروبات خاصة بالمصريين، ومن أهم تلك المشروبات العرقسوس، التمر هندي، والعناب. حتى مشروب السوبيا الشهير في الجزيرة العربية يتم إعداده في مصر بشكل بسيط ومختلف.
وقد ترى في شوارع القاهرة والمحافظات وحتى القرى الصغيرة من يبيعون تلك المشروبات، ويزيد وجودهم في شهر رمضان. إذ أن أغلبهم لا يعمل في تلك المهنة سوى في هذا الشهر الكريم، ومنهم أبوزيد.
أحببت تلك المهنة
يقف «أبوزيد محمد أحمد»، أمام أحد أسوار بحر يوسف الشهير الذي يشق مدينة الفيوم. وتحديدًا في منطقة “رفعت عزمي” بالنويري، مرتديًا زي بائع العرقسوس، وخلفه عربة المشروبات الرمضانية التي تكاد تكون الوحيدة في محافظة الفيوم. بعد أن فرضت محال العصائر والمرطبات وجودها.
رجل في نهاية الخمسينات من العمر، من محافظة سوهاج مركز طهطا، أتى إلى محافظة الفيوم منذ الثمانينات واستقر بها هو وأسرته. ويقول أبوزيد لـ«باب مصر» عن مشواره مع تلك المهنة: “أحببت تلك المهنة وهويتها، كنت في البداية أعمل كبائع للعرقسوس مع أحد الأصدقاء في الإسكندرية. ثم ضاق علينا الحال، فقررنا العمل بالفيوم لكننا اختلفنا على الأجر وترك كل منا الآخر. فقررت العمل وحدي، كنت أحمل “القدرة” على ظهري وأجوب الشوارع. وذلك طوال مدة تتجاوز الـ15 عامًا، إلى أن شعرت بآلام في ظهري، فلم أعد أستطيع حمل القدرة والسير بها”.
وتابع: “ربنا كرمني وقمت بشراء تلك العربية، ومن وقتها وأنا أقف لبيع المشروبات، ولا أغادر الفيوم إلا في شهري ديسمبر ويناير من كل عام لزيارة الأهل في سوهاج”.
تحضير المشروبات
يبيع «أبوزيد» العرقسوس، التمر هندي، السوبيا، وهي المشروبات الأشهر في رمضان والمفضلة لدى الجميع. ويقول: “أقوم بتحضير المشروبات في المساء لبيعها في اليوم التالي. وبالطبع كل مشروب له تحضير مختلف، بالنسبة للعرقسوس، نقوم بنقعه في كمية قليلة من الماء منذ الليل، ونضيف إليه مادة الكربونات وتركه حتى يختمر. وفي الصباح نبدأ في تجهيزه وتعبئته في الأواني الخاصة به. وهناك أنواع كثيرة في السوق مثل “شيخ العرب، الطائر، رمزي”، ويختلف النوع باختلاف السعر”.
أما السوبيا فتحتاج للضرب في الخلاط، فهي عبارة عن لب شعير يضاف إليه اللبن الساخن وجوز الهند. وبعد خلط المقادير في الخلاط، تترك مدة 5 ساعات حتى تختمر وتصفي وتكون جاهزة للبيع. التمر هندي هو الآخر له أنواع كثيرة، ونقوم بتفصيصه وغليه في الماء مدة طويلة، ثم تصفيته.
أحب الشارع والعربية
يختتم «أبوزيد» حديثه ويقول: “أحب الشارع والعربية جدا، أحب الشغلانة بشكلها كما هي، وأشعر بسعادة وأنا أنظر للشارع والناس أمامي ومن حولي، أجد نفسي في وقوفي بالشارع. فأنا لا أستطيع الجلوس في محلات أو أماكن مقفولة، وكل ما أتمنى الصحة حتى أزوج بناتي”.
بالرغم من اندثار مهنة الشربتلي، لكننا نرى روحها في «أبوزيد» وعربته التقليدية التي يرص عليها الأواني المعدنية اللامعة الممتلئة بالمشروبات التقليدية اللذيذة، في محاولة منه للإبقاء على هذه المهنة حية.
اقرأ أيضًا:
وصفه الطبيب ابن سينا ومن أهم مشروبات رمضان.. حكاية التمر الهندي