حسين عبد البصير يكتب: في وداع عالم المصريات رمضان بدري حسين
في خريف عام 1990، بعد حرب الخليج الثانية، لفت نظرى وجود طالب هادئ صامت متأمل متواضع مهذب في ساحة كلية الآثار بجامعة القاهرة. كانت تلك هي السنة الأولى لي وله في الكلية. تعرفت عليه. كان اسمه رمضان بدري حسين، وكان مقيمًا في شبرا، وكان في الأصل من مواليد منطقة “بولاق أبو العلا” في القاهرة. وتمتد جذوره إلى إدفو في أسوان في صعيد مصر.
ومنذ ذلك الحين، صرنا أكثر من أخين. وعلى المستوى التعليمي والإنساني، كان الدكتور رمضان طالبًا ذكيًا ومجتهدًا ومحبًا للجميع، ومحبوبًا من الجميع. وبعد التخرج في كلية الآثار في جامعة القاهرة، عملنا معًا كأثريين في منطقة آثار الهرم تحت قيادة أستاذنا العظيم عالم الآثار العالمي الأستاذ الدكتور زاهي حواس.
وتزاملنا في حفائر الأستاذ الدكتور زاهي حواس في منطقة سقارة، في جبانة الملك تتي، وعملنا في اكتشافات هرمي الملكتين، إيبوت وخويت، زوجتي الملك تتي من عصر الأسرة السادسة في عصر الدولة القديمة، أو عصر “بناة الأهرام”.
وكذلك تزاملنا في حفائر الأستاذ الدكتور زاهي حواس في الواحات البحرية في صحراء مصر الغربية. وكم كانت من أسعد اللحظات في حياتنا كأثريين شابين يعيشان بعيدًا عن القاهرة. وفي مجال العمل والوظيفة، كان الدكتور رمضان يمتاز بالاجتهاد والأدب والدأب والبعد عن الصراعات.
**
وعلى المستوى العلمي، كان الدكتور رمضان مختلفًا للغاية في كل شيء عن الآخرين. وكان محبًا جدًا لعلمه، ويجود فيه باستمرار. وكان مجددًا، وساعيًا لتعلم كل ما هو جديد. وكان لديه طموح كبير للنجاح والتفوق. وكان يتطلع دومًا لتطوير ذاته وإمكاناته والارتقاء بنفسه باستمرار. وعلى المستوى العائلي، كان محبًا جدًا لأسرته وأخويه وأخواته البنات، خصوصًا أمه الراحلة، رحمة الله عليها.
ونظرًا لاجتهادنا المستمر وحبنا الكبير للآثار والبحث العلمي، ساعدنا مشكورًا أستاذنا العظيم عالم الآثار العالمي الأستاذ الدكتور زاهي حواس في الحصول على منحة للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان من المفروض أن نسافر، الدكتور رمضان وأنا، للدراسة معًا في جامعة براون العريقة في الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن ورقي لم يصل إلى الجامعة. فسافر قبلي الدكتور رمضان للحصول على الدكتوراه في الآثار المصرية القديمة من جامعة براون. ثم أحضر لي أستاذي العظيم عالم الآثار العالمي الأستاذ الدكتور زاهي حواس منحة للحصول على الدكتوراه في الآثار المصرية القديمة وتاريخ وآثار الشرق الأدنى القديم في جامعة جونز هوبكنز الشهيرة في الولايات المتحدة الأمريكية. وسافرت للدراسة في هوبكنز.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، كنت أتواصل مع صديقي الغالي وزميلي المحترم وأخي الفاضل الدكتور رمضان بشكل شبه يومي، خصوصًا في نهايات الأسبوع. وبعد أن تزوج من زوجته الأمريكية العزيزة، عالمة الآثار الكلاسيكية الدكتورة أنجلا، جاء لزيارتنا، أنا وزوجتي عالمة الآثار المصرية، الدكتورة هند الشربيني، في مدينة بلتيمور في ولاية ميريلاند في الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية.
**
وكم كنا سعداء بزيارته وبزوجته الجميلة والمحبة لمصر والمصريين. وسافرنا معًا لحضور مؤتمر مركز البحوث الأمريكي في نيوجيزي في عام 2006. وكم كان من أفضل اللقاءات العلمية التي حضرناها سويًا. وكما كنا سعداء حين أخذنا نتذكر لحظات دراستنا وعملنا في منطقة آثار الهرم وفي حفائر الواحات البحرية.
وتخصص الدكتور رمضان في دراسة نصوص الأهرام في عصر الأسرة السادسة والعشرين، أو ما نطلق عليه عصر الأسرة الصاوية، في مقابر النبلاء في ذلك العصر الثري في تاريخ مصر القديمة في بداية عصر المتأخر قبل دخول الإسكندر مصر وتحولها إلى مملكة جديدة يحكمها الغرباء، ليبدأ فصل جديد من تاريخ مصر العظيمة. ومتون الأهرام هي عبارة عن مجموعة من النصوص الدينية، والتي سجلها المصريون القدماء داخل أهرامات الملوك والملكات في عصر الدولة القديمة، ابتداءً من عهد الملك أوناس، أو ونيس، آخر ملوك الأسرة الخامسة، في هرمه في سقارة.
وكان الهدف من تلك النصوص هو تأمين رحلة الملك، أو الملكة، في العالم الآخر. ويعد عصر الأسرة السادسة والعشرين من أهم الفترات التاريخية في نهايات العصور المصرية القديمة. وحصل الدكتور رمضان على درجة الدكتوراه بتفوق في نصوص الأهرام في مقابر النبلاء في العصر الصاوي في منطقة سقارة الأثرية. ونبغ وأبدع الدكتور في ذلك التخصص. وصار واحدًا من أهم المتخصصين فيه في العالم أجمع. وركز في أبحاثه على استخدام تلك النصوص في مقابر نبلاء العصر. ونشر العديد من الأبحاث والمقالات العلمية عن ذلك الفرع وهو الدراسات الدينية أو النصوص الجنائزية في العصر الصاوي واستخدام النبلاء لنصوص دينية كانت تخص الملوك قبل ذلك.
**
وعدنا إلى مصر. وعملنا معًا في المجلس الأعلى للآثار. وأثبت تفوقًا وكفاءة في عمله. وقامت ثورة 25 يناير عام 2011. وعاد الدكتور إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ثم حصل على منحة رفيعة المستوى من مؤسسة هومبولت الألمانية. والتحق بجامعة توبنجن الألمانية العريقة.
ثم حصل على منحة من أكاديمية البحث العلمي الألمانية. وبدأ استكمال مشروعه السابق في تسجيل نصوص الأهرام في مقابر العصر الصاوي في منطقة آثار سقارة. وأثناء عمله في ذلك المشروع، قام بمشروع تنظيف وحفائر في منطقة مجاورة لموقع عمله في التسجيل. وكانت المفاجأة هي اكتشاف عدة مقابر من العصر الصاوية، وبها خبيئة خاصة بالتحنيط في مصر القديمة. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتم الكشف فيها عن خبيئة من ذلك النوع. وصار ابن مصر المجتهد حديث العالم. وهز كشفه العالم كله. وصار الكشف الأثري الكبير الذي قام به حديث كل بيت في العالم. وتنافست محطات وتليفزيونات ووسائل إعلام العالم في إجراء برامج وحلقات ولقاءات من العالم الأثري المصري الشاب العصامي المجتهد حتى صار نجمًا من نجوم من الآثار في العالم كله.
وألقى محاضرات عديدة عن اكتشافه المهم في عدد كبير من الجامعات والمعاهد والمؤسسات العلمية المتخصصة في مصر والعالم. ودعوته لإلقاء محاضرة عن اكتشافه من خلال مركز أستاذنا الدكتور زاهي حواس للمصريات التابع لقطاع التواصل الثقافي بمكتبة الإسكندرية في بيت السناري الأثري في القاهرة. وحصل كشفه المهم على تقديرات عدة. وكان أهمها اختياره كواحد من أهم الاكتشافات الأثرية في العالم في ذلك العام من إحدى أهم المجلات الأمريكية المتخصصة في الآثار.
**
غير أنه مرض منذ فترة. وتعافى بفضل الله. ثم كانت الصدمة بخبر موته الصاعق لنا منذ عدة أيام. والذي لم يكن متوقعًا. وأصاب الجميع الذهول وعدم التصديق. وكم كانت جنازته حاشدة للغاية. واجتمع في جنازته أهله، وزملاؤه، وتلاميذه، وأحباؤه. وإلى الآن لا أحد يصدق خبر رحيله! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
مدير متحف الآثار-مكتبة الإسكندرية
اقرأ أيضا
«أتريبس».. العمل مستمر في المعبد الذي لم يبح بكل أسراره