حتى لا تتكرر مأساة مقابر القاهرة: «حنكوراب».. هل يواجه تراثنا البيئي أزمة؟

تسببت أزمة الاعتداء على شاطئ «حنكوراب» الأخيرة في حالة غضب واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي. ورغم اتفاق الجميع على إدانة ما حدث، إلا أن «الإدانة» لم تكن كافية لإيقاف البلدوزات التي استمرت في العمل داخل الموقع المسجل كمحمية طبيعية. ويبدو أن وزارة البيئة -أيضًا- أخذت هي الأخرى دور المتفرج، إذ أصدرت بيانًا صحفيًا بعد انتشار الواقعة بنحو أسبوع كامل، لم توضح فيه أيًا من الإجراءات المتبعة لوقف النزيف الذي تعرضت له المحمية أو فتح تحقيق يخص المخالفات الأخيرة.
وأمام هشاشة الموقف وغياب التفسيرات، استجابت وزارة البيئة للحوار المجتمعي الذى نظمته الشبكة العربية للبيئة والتنمية «رائد»، وجمعية المكتب العربي للشباب والبيئة، لمناقشة الوضع البيئي في منطقة خليح حنكوراب بالبحر الأحمر. حيث جاء في البيان الصادر يوم الثلاثاء الماضي أن الوزارة قامت بفتح باب الحوار بين مختلف «أصحاب المصلحة» وذلك لمناقشة الوضع البيئي في المنطقة.
وأصدر الحوار المجتمعي توصياته حول الوضع البيئي في منطقة خليج حنكوراب بالبحر الأحمر، إذ أقرت التوصيات بضرورة تشكيل مجموعة عمل علمية تختص بملف المحميات، منبثقة عن الحوار المجتمعي. كما تضمنت التوصيات تقديم الخبراء للمقترحات الفنية المتعلقة بتصور التطوير الذي تم عرضه في الحوار خلال أسبوع على الأكثر لتضمينه بالمناقشات مع الجهات المنفذة. مع وقف كافة الأعمال لحين انتهاء الدراسة، ووضع دراسات تقييم الأثر البيئي للبحر الأحمر والمتوسط وخطة إدارة على الموقع الإلكتروني لوزارة البيئة لتحقيق الشفافية في إتاحة المعلومات.
ورغم التحول الإيجابي من جانب وزارة البيئة بشأن وقف كافة الأعمال لحين الانتهاء من الدراسة، إلا أنه لم يتم الإشارة إلى آلية تنفيذ القانون ومحاسبة المتسبب في الأزمة الأخيرة، الأزمة التي اعتبرها كثيرون جرس إنذار حقيقي لتراث مصري يمكن أن نفقده هو الآخر، كحال تراث القاهرة المهدد.
هنا نتحدث مع المتخصصين حول الطرق المثلى للتعامل مع محمية وادي الجمال خلال الفترة المقبلة لمنع تكرار هذه الحوادث مرة أخرى.
استدامة الموقع
سألنا الدكتور محمود دار، الأستاذ بالمعهد القومي لعلوم البحار: “ما الخصوصية البيئية التي تحملها محمية وادي الجمال بشكل عام وشاطئ حنكوراب بشكل خاص؟”. فأجاب: “محمية وادي الجمال، ونظرًا لمساحتها الشاسعة، تحوي داخلها ظواهر بيئية فريدة جدًا كتجمعات مياه السيول. هذا بالإضافة إلى أن شاطئ وادي الجمال تحتوي على أشجار منجروف فريدة ونادرة”.
ويكمل: حدثت منذ أكثر من 5 سنوات محاولات لاستغلال المحمية، لكننا تصدينا لها. فمن الضروري ضمان استدامة الموقع والمحافظة عليه، وهو أمر طبقناه مثلًا على محمية أبو جالوم في مدينة دهب من خلال عمل دراسات للحفاظ على التراث الطبيعي لتلك الأماكن. لذلك -أظن- أن هذا الجانب قد تم إغفاله عند التعامل مع محمية وادي الجمال وتحديدًا شاطئ حنكوراب مؤخرًا. «أتذكر أننا منذ سنوات ليست ببعيدة عملنا على مشروع استزراع للشعاب المرجانية في وادي الجمال ونجحنا، لكن المشكلة هي أن الاستغلال السياحي بدون إشراف جهاز شؤون البيئة وبدون وجود أية قواعد سيعود بالسلب على المنطقة ككل».
قدرة على التأقلم
سألناه عن أثر التغيرات المناخية على منطقة مرسى علم؟ فأجاب: “يجب أن نعرف أن التغيرات المناخية ظاهرة تتكرر دائمًا بل وتؤثر على الشعاب المرجانية، لكن هذا ليس معناه أنها ستختفي بشكل كامل، وهو أمر لم يحدث أبدًا في أي من التغيرات المناخية الكبرى التي عرفها كوكب الأرض. لكن ما يحدث هو أن درجات الحرارة تتغير في كل من الهواء والمياه، وهو أمر يسبب فيما يعرف باسم ظاهرة «الأقلمة».
ورغم أن الشعاب المرجانية تتأثر على المدى القصير، فإن الأجناس الأقدر على التكيف هي التي تأخذ موقع السيادة؛ أي أن الضعيف هنا ينزوي وتحل مكانه أنواع أخرى قادرة على التأقلم مع الظروف الحياتية الجديدة. فجنوب البحر الأحمر منطقة داخلها الكثير من السيول؛ وبالتالي هناك كمية كبيرة من المياه العذبة التي تدخل إلى المنطقة. وهذه الكمية تساعد على انتشار الأملاح المغذية وزيادة معدلات الانتشار والتوسع للشعاب المرجانية والكائنات البحرية الأخرى. وهذا عكس شمال البحر الأحمر، الذي يعاني من قلة السيول والمياه العذبة الساقطة على المنطقة؛ وبالتالي فهو أقل من ناحية التنوع البيئي مقارنة بمنطقة جنوب البحر الأحمر.
تحايل واضح
يرى محمود دار أنه لا يوجد تعارض بين دور وزارة السياحة ووزارة البيئة في إدارة مثل هذه المناطق. إذ يعتبر أن الدور بينهما يجب أن يكون تكامليًا. «الخطأ غالبًا يأتي بسبب تعارض مصالح الأفراد، فهناك اشتراطات وقوانين واضحة. لكن في المقابل هناك محاولات للتغافل عن القوانين كإقامة مسابقات الصيد ورحلات السفاري والغطس التي تجري خارج نطاق القانون. وأظن أن أحد أبرز المشكلات تنبع أساسًا من أصحاب رحلات السفاري والغطس. لأن ما يهمهم في المقام الأول هو توفير رحلة جيدة للزوار، وهذا الأمر يتعارض في كثير من الأحيان مع فكرة الحفاظ على طابع المنطقة وتطبيق القوانين».
يطالب «دار» بتفعيل الدور الرقابي بشكل أوسع وأكبر: «الدور الرقابي في المقام الأول دور توعوي، وبشكل صريح لا يوجد من يلتزم بهذا الجانب. وهناك أسئلة يجب أن تطرح دائمًا وهي: هل الإمكانيات المتاحة للمراقبة من جانب الموظفين في منطقة الجنوب كافية؟ وهل المراكب التي يملكونها للرقابة أيضًا كافية؟ وهل الرقابة على دخول وخروج المراكب كافية؟ هذا بالإضافة لوجود سلوكيات خاطئة وتحايل واضح من جانب الكثيرين، وهو أمر يقودنا لتسجيل مخاطر بيئية داخل تلك المناطق الفريدة.
ويضيف: «عندما نتعامل مع بيئة البحار يجب التعامل معها وفقًا لقواعدها الخاصة وليس وفقًا لقواعدنا. لذلك يجب الالتزام بقواعد تلك الأماكن، حتى وإن كانت التكلفة باهظة، فهذه الأماكن تعد مصدرًا للثروة المتجددة. ومنظومة الشعاب المرجانية حساسة للغاية وهي منظومة مترابطة ومتسلسة بشكل كامل. وأي تغيير طفيف يؤدي إلى هجرة الكائنات البحرية المحيطة لهذه الشعاب؛ وبالتالي تدهور حالة الشعاب».
سياسات خاطئة
وعن إقامة منتجعات سياحية داخل منطقة مرسى علم وأثرها على البيئة خلال السنوات الماضية، يقول: التأثير ليس فوريًا، لكن المشكلة -من وجهة نظري- أننا عندما فكرنا في تطبيق السياحة البيئية على شاطئ البحر الأحمر، طبقناها بشكل خاطئ. فقد حصرنا منتجعاتنا السياحية بشكل ملاصق للبحر، وهو أمر خاطئ وله تأثير بيئي سلبي على المدى الطويل. فالتأثير قائم حتى الآن، وكل ما نريده هو عدم إهدار ما تبقى وتقليل الحمل على البيئة البحرية. فإقامة منتجعات سياحية تساهم في زيادة الحمل على هذه المناطق. لذلك من الضروري إعادة تنظيم المناطق السياحية، وخاصة تجمعات الشعاب المرجانية التي تتواجد داخل النطاق الضوئي. أي بدءًا من متر وحتى آخر نطاق يصل إليه ضوء الشمس.
كما ينبغي تنظيم عدد المتواجدين داخل مناطق الشعاب المرجانية، مع تنظيم التخلص من المخلفات السائلة والصلبة. لأن المراكب غالبًا ما تقوم بتصريف مخلفاتها في مياه البحر، وهو أمر يؤدي لتدمير الشعاب المرجانية بشكل كامل. وهنا ينبغي تنظيم العملية بشكل أوسع وتوزيع السائحين داخل المناطق. بجانب إنشاء مواقع غطس صناعية واستزراع الشعاب المرجانية في مناطق أخرى، كمشروع إغراق المعدات الحربية الذي جرى تنفيذه في السنوات الأخيرة. فمشروع استزراع الشعاب المرجانية يتطلب مجهودًا كبيرًا. وهي ليست عملية سهلة نظرًا لنمو الشعاب المرجانية البطيء.
طبيعة فريدة
الدكتور محمود حنفي، أستاذ علوم البحار بجامعة قناة السويس، قال إن الفكرة من إعلان المواقع كمحمية طبيعية هدفها في الأساس الحفاظ على الطبيعة الفريدة للموقع. وهذا ينطبق تمامًا مع موقع محمية وادي الجمال. هذا الموقع لا مثيل له في العالم من حيث التنوع البيولوجي، لذلك يجب أن يكون هدفنا حماية المحمية واستخدامها بشكل مستدام. ويضيف: «البحر الأحمر بالنسبة لمصر والعالم بمثابة الكنز، لأن المرجان الذي تمتلكه مصر يكاد يكون الأخير في العالم ككل. ووفقًا لتقدير علماء البحار، سيختفي المرجان خلال السنوات المقبلة، ولن يتبقى سوى الموجود على ساحل البحر الأحمر وتحديدًا الموجود في مصر؛ لذلك يجب أن نتعامل معه بحرص شديد».
أمور مرفوضة
ويضيف «حنفي»: بلغة الأرقام، ووفقًا للإحصائيات، نجد أن مداخيل الإنفاق على الغوص من جانب السياح تتراوح بين ثلاثة وسبعة مليارات دولار سنويًا. ويجب هنا أن نلتفت إلى أن الإعلان عن المحميات لا يعطل الاقتصاد والتنمية. ومن يظن ذلك فهو مخطئ بنسبة 100%. فحنكوراب تعتبر ضمن أفضل 10 شواطئ على مستوى العالم. وعندما أعلنا المنطقة محمية طبيعية، كان ذلك بهدف حمايتها ودعم الاقتصاد عبر خلق نوع جديد من السياحة وجذب السائحين الأكثر ثراء. وخصوصًا المهتمين بالسياحة البيئية.
وعندما أعلنا، رفقة محافظ البحر الأحمر الراحل سعد أبو ريدة، أن وادي الجمال محمية طبيعية، كانت منطقة حنكوراب وقتها مخصصة بالكامل لمستثمرين، ووزير السياحة في ذلك الوقت كان يمتلك مليون ومائة ألف متر داخلها. وقد قام بردهم مرة أخرى للدولة. وأحد أسباب الاحتفاظ بحنكوراب هو أنه في شمال وادي الجمال يوجد ما يطلق عليه “شرم الفقير” وهو مركز سياحي. ووفقًا لمخطط هيئة التنمية السياحية، فهذا المكان من المفترض أن يضم 27 منشأة سياحية. وليس هناك شواطئ في هذه المنطقة، لذلك كان لابد من توفير شواطئ لخدمة تلك المنتجعات السياحية. وبالتالي وقع الاختيار على حنكوراب وشرم اللولي لاستخدامهم كشواطئ خدمية لهذه المنتجعات.
ويستطرد: إذا كانت هناك رغبة في استخدام الشاطئ، فمن الممكن إضافة خدمات خفيفة وحمامات عمومية ومظلات شمس وخدمات بسيطة، ومن المؤكد أن وزارة البيئة ستدعم ذلك ما دامت الفكرة لا تستهدف بناء فنادق ومنتجعات سياحية على أطراف الموقع. فحنكوراب شاطئ عام لا يجب بأي حال تحويله لشاطئ خاص. وأعتقد أنه سيتم الوصول لصيغة ما، لأن إقامة فندق داخل موقع حنكوراب أمر مرفوض تمامًا، وسيعرض المنطقة كلها للدمار.
مشكلات عديدة
يعتبر أستاذ علوم البحار أن السياحة البيئية داخل مصر لم تصل بعد إلى النضج الكافي. يقول عنها: «هناك مشكلات عديدة يتعرض لها القطاع نظرًا للتضارب بين الهيئات المسؤولة عن الموضوع. والمفترض أن وزارة البيئة مسؤولة عن صيانة وحفظ الموارد الطبيعية الحية، والمفترض أيضًا إن العمل يكون تكامليًا. فأزمة حنكوراب يجب الاحتكام فيها لوزارة البيئة لأنها المسؤولة عن المنطقة ككل، وتجاهل وزارة البيئة أمر يخالف القانون».
إجهادات بيئية
أيمن طاهر، استشاري السياحة البيئية والغوص، يقول إن مشكلات البناء والتشييد على ساحل البحر الأحمر لها العديد من المخاطر. وخاصة داخل المحميات الطبيعية نظرًا لتأثر الشعاب المرجانية بشكل كبير. «الأتربة والجسيمات الدقيقة (مثل غبار الأسمنت) تتسبب في تعكر المياه. وهذا يقلل من وصول الضوء إلى الشعاب المرجانية، ويؤثر على عملية التمثيل الضوئي التي تقوم بها الطحالب التكافلية «Zooxanthellae» داخل أنسجة المرجان. كما أن بعض الجسيمات، خاصة غبار الأسمنت. يمكن أن تحتوي على مواد قلوية تؤثر على كيمياء المياه وتتسبب في إجهاد بيئي للشعاب».
يرى «طاهر» أن هناك مجموعة من الحلول يجب توفرها في البناء داخل المحيمات الطبيعية مع العلم أنه يجب الالتزام بالقوانين والاشتراطات المحلية والدولية للتعامل مع مناطق المحميات الطبيعية. ومن هذه الحلول:
- استخدام «ستائر الطمي» Silt Curtains: يستخدم هذا الأسلوب بشكل شائع في المناطق الساحلية لتقليل الرواسب والملوثات إلى المياه المفتوحة. وهي تتكون من قماش غير منفذ يمتد من سطح الماء إلى القاع، وهو مثبت بأوزان وأعمدة عائمة. وهذا الأسلوب يقلل من انتشار الجسيمات الدقيقة ويسمح بترسيبها في منطقة محددة دون التأثير على الشعاب المرجانية.
- استخدام أكياس الرمل أو الحواجز الخرسانية: يمكن استخدامها على الشواطئ أو في مواقع البناء القريبة من المياه لحجز الأتربة. ومنعها من الانجراف إلى البحر.
- التحكم في موقع خلط الأسمنت والتخزين: من خلال استخدام مناطق بعيدة عن الساحل لخلط الأسمنت وتخزينه. مع تغطية المواد المتطايرة بشكل جيد. بجانب تركيب فلاتر هوائية أو أنظمة شفط للحد من انتشار الغبار.
- زراعة غطاء نباتي أو استخدام مواد طبيعية مثل القش أو الحصائر الجيولوجية لمنع انتقال الأتربة من التربة إلى المياه.
- المراقبة البيئية الدورية من خلال قياس مستويات العكارة في المياه ومراقبة صحة الشعاب المرجانية للتأكد من أن الأنشطة الساحلية لا تسبب ضررًا بيئيًا طويل الأمد.
مناطق حساسة
ويكمل: بخصوص الحماية المطلوبة خلال عمليات التشييد، فيجب إتباع العديد من الإجراءات، ومنها:
- التقييم البيئي المسبق: يجب إجراء دراسات تقييم الأثر البيئي قبل بدء أي مشروع قريب من المناطق البحرية الحساسة. بجانب ضرورة تحديد المناطق التي تحتوي على نظم بيئية هشة، مثل الشعاب المرجانية، وتجنب العمل بالقرب منها.
- تحديد مناطق البناء ومنع الأنشطة العشوائية: وهنا يجب وضع حدود صارمة للمناطق المسموح بها للبناء. وتجنب استخدام المعدات الثقيلة في المياه الضحلة القريبة من الشعاب. أيضًا، تخصيص مسارات نقل محددة لمنع تعكير المياه ونقل الرواسب إلى المناطق المرجانية.
- إجراءات صارمة للتحكم في الأتربة والغبار: من خلال فرض معايير صارمة على عمليات خلط وتخزين الأسمنت. مع إلزام الشركات باستخدام تقنيات الحد من الغبار، واستخدام مواد بناء صديقة للبيئة لتقليل المخلفات الضارة.
- مراقبة جودة المياه بشكل دوري: هنا يجب أن تخضع المياه القريبة من مواقع البناء لاختبارات دورية للعكارة، ودرجة الحموضة. ومعرفة مستويات الأكسجين، لضمان عدم حدوث أي تلوث يؤثر على الحياة البحرية. هذا بجانب تركيب محطات مراقبة بيئية لمتابعة التغيرات في النظام البيئي البحري.
ويؤكد أيمن طاهر في نهاية حديثه أن الالتزام بتلك المعايير ليست مسؤولية الجهات الحكومية وحدها، بل هو أيضا مسؤولية الشركات المنفذة والمجتمع المدني، وذلك لحماية التنوع البيولوجي في البحر الأحمر وغيره من المناطق البحرية الحساسة.
اقرأ أيضا:
أنقذوا «حنكوراب».. إنشاء فندق سياحي يهدد محمية «وادي الجمال»