«جينادي».. والهوى إسكندراني

عرفته في بواكير الألفية، يوم أن شغل منصب مدير المركز الثقافي الروسي بالإسكندرية، ومثقفا بارزا من عشاق المحروسة يسعى باحثا عن أوجه التمازج بين ثقافات الشعوب. ألهمته دراسة التاريخ العربي الحديث والمعاصر في جامعة موسكو في معهد بلدان آسيا وإفريقيا، السباحة في فضاء الجغرافيا، فيطرق خرائط الدنيا، حيث كان شغفه الأول تاريخ بلدان الشرق الأدنى والأوسط، فضلاً عن اللغات الشرقية، خاصة اللغة العربية وتاريخ الأقطار العربية. نال دبلومة عن أوضاع الطبقة العاملة في المرحلة الناصرية (1952– 1970)، وتمحورت رسالته في الدكتوراه حول تكوين الطبقة العاملة المصرية، وإدراكه بأن الطبقة العاملة هي العمود الفقري للنظام الاشتراكي، والتي ظلت دائما الطبقة الكادحة والمعدمة.
في بداية القرن الـ19، كانت تشكل الطبقة العاملة في عصر تحديث مصر (1841 – 1914)، وكانت الوثائق المصرية حافلة بعديد من الإشارات ذات الدلالات المهمة عن دور الطبقة العاملة. ففي العام 1882، كان أول إضراب عمالي في بورسعيد قام به عمال السفن في ظل الاحتلال الإنجليزي، وكانت أول نقابة في القاهرة، تشكلت عام 1894 (نقابة لفافي السجائر) من الأرمن واليونانيين واليهود. فالنقابات والإضرابات صارت في مصر جسرا بين الثقافات العديدة.
أقام جينادي جارياتشكين بمصر في العام 1969 حيث عمل مترجما بالجيش المصري في فرقة المشاة الميكانيكية، بعد دراسته للأدب واللغة العربية في العام 1967 بكلية الآداب جامعة القاهرة.
***
ومنذ تلك الفترة، كان يحاول تصوير صفحات دقيقة عن مصر والأجانب الذين عاشوا فيها. ففي رحلة بحثه عن الجذور، اكتشف تيودور شلابين، المطرب الروسي الشهير ومغني الأوبرا الذي مات في باريس في عام 1936. وعرف أن آنا بافلوفا، راقصة الباليه الروسية، قد زارت مصر عام 1928 ورقصت على مسرح “الهمبرا” بالإسكندرية. كما اكتشف أنه في عام 1910 كان أول قنصل لروسيا بالإسكندرية وكان مستشرقا، ومات في العام 1946 ودفن بمقابر الشاطبي.
يصحبك جينادى جارياتشكن بقامته الممشوقة ووجهه المشرب بالحمرة في شوارع الإسكندرية، ويشير قائلا: “هنا كان مرسم الفنان الروسي العظيم إيفان بليبين”. وكانت سينما بلازا بشارع فؤاد، حيث عاش في مصر منذ العام 1920 حتى العام 1925. واكتشف العيادة الروسية بالقاهرة، والتي كانت في ميدان سليمان باشا زمن الهجرة الروسية إلى مصر في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.
ويطوف بك في شوارع سعد زغلول حيث كانت مطبعة جريدة “الإيسكرا” مكان محلات “مينرفا” و”جرين”، ويمضي إلى مكتبة بلدية الإسكندرية، يقلب في الأضابير والصحف القديمة ويمحص عن معلومات ومعارف ثمينة، حيث لا يكترث بما يكسوه من غبار. ويحدثك عن الكس سمير نوف، سفير روسيا في مصر، والذي توفي في العام 1924 وكان شاعرا كبيرا.
***
لقد قرأ د. جينادي بحوثا وروايات وأشعارا باحثا عن حوار ثقافي مصري – روسي. ففي القرن 12، زار الرحالة دانييل الأماكن المقدسة بمصر وفلسطين، وفي القرن 15، دون الروسي جاجارا رحلته وكان تاجرا بالقاهرة، وعبر مدوناته ذكر أن بالقاهرة 14 ألف شارع، وأن بنهر النيل حيوانا متوحشا (يقصد التمساح). فالعلاقات بين الشعوب، كما العلاقات بين الناس، تتسم بالتشابه، المقاومة، الصراع، التمايز، النماذج، ولكنه يبحث دوما عما يقرب بين الشعوب. فالثقافة والفكر هو الذي يبقى.
ويبرز د. جينادى وجها من قسمات وملامح الزخم الثقافي الذي شهدته الإسكندرية عبر عقود طويلة، فيروي عن أموف الذي تزوج السورية من آل خوري اللبنانية الشهيرة في الإسكندرية، حيث شهد منزل أوموف – خوري أمسيات وحفلات أدبية وموسيقية. كما كون أبناء أموف أوركسترا سيمفوني، وصمم التمثال الروسي الشهير كليوزيل فريدمان تمثال “عروس النيل” بحديقة أنطونيادس بالنزهة.
وكان اللاجئون الروس يصدرون في الإسكندرية مجلة “في الغربة” وجريدة “اللاجئ”، وكانت الجالية تمتلك الكنيسة والمستشفى والعيادة والمسرح والجمعيات العديدة والجوقة الموسيقية وفرقة الفنون الشعبية، وحتى فريق كرة القدم الذي كان يلعب بنجاح على بطولة كأس الإسكندرية.
***
وتعززت العلاقات المصرية – السوفيتية بإنشاء الغرفة التجارية الروسية في العام 1903، وعقدت اتفاقية التعاون التجاري والملاحي بين روسيا ومصر في العام 1909.
ومن مآثر د. جينادي تأسيسه لاستوديو “تشايكا” من شباب هواة المسرح، ودشن مهرجان “إسكندراما” الذي قدم أعمالا لتشيكوف وجوجول وآخرين. وأسهم في هذا النشاط الوافر صحبة من فناني الإسكندرية، مثل يوسف عبدالحميد، السيدة الرمح، رمضان الفرن، وسامية جمال، حجاج أدول وناجي أحمد ناجي وآخرين. حيث جمع مهرجان “إسكندراما” ممثلي كافة أجيال المسرح نحو تأسيس وحدة مسرحية في الإسكندرية قدمت أعمالا مثل “عنبر 6″، “محاضرة في أضرار التبغ” لتشيكوف، “الزواج” لجوجول، “الحريق” عن قصة لراسبوتين، وأخرى مصرية “ما أجملنا” لمحفوظ عبد الرحمن و”جلجلة حبيبتي” لعصام أبو سيف.