جمال الغيطاني.. البصير الذي رأى كل شىء
الجسد الضئيل والوجه الأسمر الأصيل.. المواصفات تنطبق على الكثير من المصريين، إلا أن صاحبنا -الغيطاني- يتخذ من لونه الأسمر شهادة ولوج إلى طمي النيل.. ويتخذ من ضآلة الجسد شموخًا يستمده من انتمائه إلى الأرض وتاريخها. للعينين جحوظ يجعل من النظرة سهمًا يخترق قلبك أو طلقة تحذيرية ربما اكتسبها من صعوبات مرت به أعجزت لسانه، فانطلقت عينه في التعبير عما عجز عن اللسان.. ما سر هاتين العينين النافذتين القادرتين على النفاذ لأعماق الناس والأحداث؟
طفولة الصعيد
ربما يعود سر العينين النافذتين إلى الطفولة المبكرة في جهينة سوهاج في صعيد مصر، حيث النخل الباسقات وقد شقت السماء فأورثت صاحب العينين شموخًا أصابه الفقر جراء سرقة الميراث القديم من عم أبيه. ثم استمر هذا الشموخ بالانتقال إلى حارة الطبلاوي في الجمالية في بيت هو الأعلى. مما جعل صاحب العينين النافذتين يستطيع أن يتابع من سطح منزله شموخ مآذن مجموعة قلاوون وجامع السلطان حسن والرفاعي والقلعة، بالإضافة إلى شموخ الأهرام التي لم يمنعه عنها بناء. فنشأ الصبي بين شموخ الحضارة الفرعونية وشموخ الحضارة الإسلامية فاكتسبت سمرته الصفات المصرية، كما يرى العظيم خيري شلبي أن (المصرية) ليست عرقًا يميز مجموعة من البشر، ولكنها فلسفة حياة يستطيع أن يؤمن بها كل إنسان فيصير مصريا رغم أن أصولهم ليست مصرية.. وهذا هو السر في ورود الكثيرين من الأغراب إلى مصر، ثم خضوعهم للمعدة المصرية التي تهضمهم، ثم تخرجهم مصريين كأهلها كبعض أمراء المماليك أو بعض الأدباء والفنانين مثل، جورجي زيدان أو فريد الأطرش.
هكذا اكتسب الغيطاني مصريته. وهكذا اجتمع الشموخ في عينيه فأورثهما نظرة نافذة. كانت هاتان العينان النافذتان وسيلته في مواجهة الفقر. فكان بهما يواجه فقر أبيه. وكان بهما ينشغل في التنقل بين أحجار القاهرة القديمة من باب النصر حتى باب زويلة والقلعة حتى حفظها حجرا حجرا.
يبدأ رحلته من باب النصر، ذلك الباب الذي كانت تدخله الجيوش المنتصرة، فاكتسب منه حرصا على نصرة أرضه، ويصاحبه في رحلته سيده ومرافقه الدائم أبو عبدالله سيدنا الحسين، يلقي نظرة على جامع الحاكم الفاطمي مرورا بسبيل الخازندار العثماني لجامع الأقمر الفاطمي للمدرسة الكاميلية الأيوبية لقصر بشتاك وجامع السلطان برقوق ومجموعة قلاوون، فينتقل إلى العصر المملوكي في انتصاراته. ثم يلتقي بوكالة الغوري ومسجده حتى جامع المؤيد شيخ بجوار باب زويلة ليصل عبره إلى المرداني والسيدة فاطمة النبوية، والجامع الأزرق، والرفاعي، والسلطان حسن، والمحمودية حتى القلعة. وهنا تعي عيناه النافذتان معنى تكثيف الزمن.
ففي هذه المسافة القصيرة التي يقطعها المتمهل في أقل من الساعة يرى كل العصور متراكبة متداخلة فيدرك منها أمرين:
أما الأول: أنه امتداد لحضارة عريقة ذات مكونات عديدة. وأنه ينتمي إلى أرض لها شموخ حتى وإن تعرضت للانكسارات. فما الانكسارات إلا دفعة للمواصلة للأمام. والثاني: أن الزمن كثيف. كان يسير ويفترض أن قدمه ربما تحط في موضع حطت فيه قدم فارس أو عارف بالله أو حتى محتل. إنه التاريخ الذي صنعه.
وبدأ يضفر هذه العناصر معًا ليصنع منها نسيجًا واحدا هو مصريته. وربما تعلم مثل هذا التضفير من معلمه الأول ابن إياس، كاتب تاريخ مصر في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور”. وربما تعلمه في تعليمه الفني، حيث تعلم صناعة السجاد وتضفير الخيوط لتكوين النسيج الواحد.
وربما تشكلت عيناه النافذتان من عينين نافذتين اطلع عليهما في طفولته، حيث عيني الزعيم جمال عبدالناصر ذي العينين النافذتين. فشبّ الغيطاني وهو ينظر إليهما حتى شب عن الطوق، لقد رأى حلمه في الرجل. فكما قال أنه كان يبكي عندما يرى فقيرا يمد يده. وكان كثيرا ما يفكر في الطريقة التي يأخذ بها من الأغنياء ليعطي الفقراء على طريقة أرسين لوبين، الذي كان يقرأ قصصه وهو صغير. وإذا به يجد الرجل الذي يحقق له هذا الحلم. رجل يملك نفس العينين النافذتين. بدأ الطريق معهما، ولكن سرعان ما انشق الطريق إلى طريقين مختلفين في التطبيق. فما كان من الأقوى إلا أن يضع الأضعف في المعتقل رغم اشتراكهما في الهدف.
هل انكسرت النظرة النافذة في عينيه بعدها بشهور على أثر النكسة؟، ربما خبت قليلا قبل أن يعاودها البريق ثانية وينشر مجموعته القصصية الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» عام 1969. كانت هذه المجموعة محاولة لبعث الروح المنهزمة من جديد، إنها التذكير بأن الانتصارات دفعة للمواصلة للأمام، ثم قرن ذلك بتقديم طلب لأن يصير مراسلًا حربيًّا لأخبار اليوم في الجبهة.
رحلة جديدة
إنها رحلة جديدة للعينين النافذتين اللتين ازداد الزمن فيهما تكاثفًا. كم كان قريبا من الموت. يحكي عن أكثر من مرة كان يقف فيها في موضع الموت ولولا حركة يسيرة تسبق الموت بثوان قليلة لالتقيا، وكما يذكر الغيطاني فمنذ هذا الوقت صار يتعامل مع الزمن باعتبار أنه يعيش في زمن فائض وأنه مات بالفعل ويعيش الآن وقتًا زائدًا.
نفذت عينه إلى التضحيات الجسام، إلى البطولات، إلى الحكايات الإنسانية، حكايات الغريب والرفاعي، يعلم جيدا أين الطريق من الهزيمة إلى النصر، ولكن فجأة وبعد النصر تبدلت الأحوال وبدأ التيه، عيناه النافذتان عجزتا على اختراق ضباب هذا التيه، أين التضحيات والبطولات والحكاية الإنسانية، فلجأ إلى التاريخ يستقرؤه سائلا الزيني بركات، ولجأ إلى الأسطورة سائلا الزويل، ولجأ إلى الواقع، حيث البصائر في المصائر وانتهى الأمر إلى ذروة إبداعه في (التجليات) بأسفاره الثلاثة، إنها آخر ما نفذت إليه عيناه بالرغم من أنها ليست آخر إنتاجه. لقد قبض قبضة من أثر الحقيقة وبَصر بما لم يبصر به القوم، فقدم لهم في التجليات ذلك الطريق الذي نفذت إليه عينه.
تعددت بعدها الانكسارات والارتدادات، ولكنه في كل مرة كان يستطيع أن يرى الطريق بوضوح، فصانع السجاد الماهر استطاع أن يضفر خيوط حياته ومشاهداته وتجربته يقدم لنا تجربته الكاملة مشروعا تتركز قاعدته على فكرة الزمن المكثف المتراكب طبقات فوق طبقات، يخلد فيه ما ينفع الناس ويفني فيه الزبد، ثم تبنى على تلك القاعدة روح صوفية أصيلة مكثت في الأرض لتُذهب بزبد المظهرية الدينية جفاء، ليجعل من الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي دليله في هذه الرحلة مصاحبا له في التجليات.
وبجوار هذا المبنى الصوفي الشامخ يبني مبنى آخر حيث العمارة التي يراها فنا مبدع الشخصية المصرية، يسمي حياة الناس كتاب البشر، ويسمي فن العمارة كتاب الحجر، ثم ينقش المبنيين بنقش أستاذه نجيب محفوظ. فيكون التلميذ ذا شخصية مستقلة لا تذوب في بحر أستاذه، وظل وفيًّا له لا يؤخره عن لقاء الثلاثاء إلا مانع شديد، بل ويكون آخر من تعامل مع أستاذه قبل رحيله.
ذو العينين النافذتين واحد من جيل الستينات الذي لا يزال مؤثرا في واقع الثقافة المصرية، والذي هو جيل أدرك أنه ذو تأثير فلم يتخذ الثقافة مهنة أو تجارة.
اقرأ أيضا
ملف| جمال الغيطاني.. الرحلة الأدبية
عاش هنا.. «باب مصر» في منزل طفولة جمال الغيطاني بالجمالية
هناك في النجوم الذاريات.. لم يتخلَّ عن إيمانه بالإنسان والحياة
17 تعليقات