جرجرة المطبعة للمحكمة
منذ أزمنة بعيدة، اكتسبت الذخيرة التي أنتجت صناعة الكتابة، زخما وفيرا من المعاني والقيم المتفردة، وخطيت بجدارة راسخة تخصها، الورق، الأحبار، لوح الإردواز، القلم البسط والأبنوس.. وأشياء أخرى. كل ذلك يردنا لمصنع “لاجوداكس” اليوناني للورق، والكائن قبالة ترعة المحمودية. حيث كان يُصًنَّع الورق من الخِرَق البالية وقصاصات الورق القديمة لاستخراج عجينة الورق. ونجتر الكتابة على الأحجار وورق البردي في مصر القديمة، والشركة المساهمة المصرية لصناعة الورق والتي تأسست في العام 1924 من قِبَل بنك مصر، وتجارب معامل الشركة الإيطالية (سان جيفاني) لصنع الورق من قش الأرز.
في هذا السياق، يراودنا فن الطباعة. ففي العام 1798 تجيء الحملة الفرنسية إلى مصر بالعتاد والمطبعة. ثم المطبعة الأهلية في عهد “محمد علي” في العام 1821. حيث طبعَت كتاب “قواعد اللغة العربية” و”رسالة الفنون الحربية” بقلم “شاني زادة” وكتاب “صباغة الحرير” و”قاموس عربي إيطالي”.
وفي ظل تلك اليقظة، نهضت الصحافة: “الوقائع المصرية”، “روضة المدارس”، “الهلال” لـ”جورجي زيدان”، و”الأستاذ” للنديم. و”مجلة القناة” لـ”هند نوفل” وآخرين. وبرز عديد من المفكرين والكُتَّاب،”حسن العطار”، و”أحمد فارس الشدياق”، و”المويلحي” و”يعقوب صروف” و”شبلي شميل”. وتنوعت المطابع التي سادت في مصر، المطبعة الأميرية، وطبعة دار الكتب الملكية، ومطبعة مصر حيث أشاعت في مصر مناخا من الفكر والثقافة والإبداع.
***
ومن اللافت، أن المطبعة خاضت معارك عديدة في ساحات الكتابة والنشر تراوحت بين الربح والخسارة، غير أنها ظلت تتمتع بالشموخ والجسارة. ومن التجارب التي أغفلها تاريخ الصحافة، المعركة التي طالت مطبعة جريدة الوفد المصري، والتي تعبر عن الحزب السعدي بشأن رخصة مطبعة الجريدة. حيث اشترى “حامد بك طُلبة صقر” المطبعة من الخواجة “رينيه بلدكينو”، أحد ورثة الخواجة “بروكاتشلي” في أكتوبر 1943. وآنذاك، كانت الرخصة في حيازة المرحوم “بروكاتشلي” مالكها الأول بالإسكندرية، حيث تبين وقتئذٍ فقدانها، وطلب استخراج رخصة جديدة ولو مؤقتة.
ترافع في تلك القضية “إبراهيم بك فرج” المحامي. حيث تعزو أهمية تلك المطبعة أنها كانت تطبع جرائد “الاتحاد” و”السياسة” و”الكشكول” وغيرها. ثم أن وزارة الصحة وربما بعض من مراكز السلطة دعت لإغلاقها، وحُجتها في ذلك، صعوبة نقلها ومعاينتها فضلا عن ظروف الحرب الاستثنائية.
توقفت إجراءات صدور “الوفد المصري” في عام 1946 لوفاة “صبري أبوعلم” صاحب الامتياز ورخصة المطبعة ونقلها إلى “حامد صقر”. وفي الأربعينات، ترأس الدكتور “محمد مندور” تحرير جريدة الوفد المصري إبان صدورها. وخلال شهادته يروي: “أكاد أحررها بأكملها بمفردي، وجمعت حولي عددا من الشبان النابهين، “أحمد رشدي صالح”، “أنور كامل”، “سعد لبيب”، “مصطفى منيب”، “عبدالحميد الحديدي”، “إبراهيم نوار”، “أبوسيف يوسف”.. وغيرهم”.
“….. وأصبحت الجريدة مركزا تقدميا داخل حزب الوفد رغم معارضة باشاواته، فقد حولتها على المنشور اليومي الثوري”. (عشرة أدباء يتحدثون – فؤاد نوارة).