«جبانة القاهرة التاريخية»: رحلة التوثيق والدفاع عن التراث
ننشر هنا نص «التصدير» الذي كتبته د. جليلة القاضي للطبعة العربية لكتابها «جبانة القاهرة التاريخية» الصادر عن دار المرايا. لن تجد الكتاب في معرض القاهرة للكتاب في دورته الحالية إذ تم منع «المرايا» من المشاركة في دورة هذا العام.
ربما لا تذكر، يا بني كيف بدأت قصتك مع هذا الكتاب، بل تتحدث فقط عن مراحل ولادته العسيرة التي عاصرتها، على عكس ولادتك؛ فقد جئت إلى الدنيا بدون ألم، ومَرَّ حملي لك كالنسيم. أنتقل من شارع لشارع في جبانات الإمام وصحراء المماليك، تتدلى من عنقي آلة تصوير ثقيلة، ومن كتفي حقيبة بها متر وأقلام، أحمل في يدي كراسة أدوِّن بها ملاحظاتي، وأنظر إليك من آن لآخر، أتحسس بطني بيدي لأشعر بوجودك وأنت ما زلت نطفة، وأطمئنك. كان عمرك أربعة أشهر، عندما حاول بعض الشباب الانفراد بي، كان والدك على بعد شارعين، استغثت به، هرول قادمًا ناحيتي، فانصرفوا عندما لمحوه قادمًا.
تملَّكَني الرعب لأول مرة أن أفقدك في تلك المرحلة المبكرة من عمرك، من دون أن تستكمل معي مشوارًا بدأناه معًا. كم من مرة عرَّضْتك معي للخطر حين صعودي على السلالم الخشبية المتداعية في جبانة باب النصر أثناء تسجيلنا لأحد أحواشها، كنا نتشبث ببعضنا البعض حتى لا نسقط معًا، ولكنك طوال الأشهر التي سبقت خروجك إلى الدنيا، كنت تمدني بطاقة عابرة للمحيطات، بسببها بكرت بمجيئك ثلاثة أسابيع.
صباح هذا اليوم، قمت بمجهود خارق للعادة أثناء البحث عن موقع حوش قديم لأحد باشاوات العهد الملكي. فتحت خزائن تحتوي على خرائط متعددة المقاسات، فرشتها على أرضية حجرة منزلي بباريس، فغطتها بالكامل. أنزلني التاكسي في شارع قرافة المماليك المؤدي للدرب السلطاني، ولجته متجهة شمالًا حتى لاحت لي قباب ومآذن المنشآت الجنائزية لسلاطين المماليك، وتوقفت عند المجموعة الجنائزية للسلطان برقوق- كما فعل سليم الأول إثر انتصاره على طومان باي عام 1517- لقراءة الفاتحة[1]. درت حولها، وضعت سبابتي على حوش الأميرة شيوكار[2]. انتهت المهمة، أعدت ترتيب الخرائط، أغلقت الخزائن الكرتونية، حملتها الواحدة تلو الأخرى، ورصصتها خلف طاولة الرسم بشكل رأسي. وعند انتهائي من وضع آخر واحدة، أغرقت المياه أرضية الغرفة، معلنة عن مجيئك المبكر.
***
كان والدك انتهى من مونتاج فيلم وثائقي قصير مدته 14 دقيقة عن “مدينة الموتى في القاهرة” الذي اختير في مهرجان السينما والعمارة عام 1987. اصطحبتك في أسبوعك الثالث في الكانجارو؛ لمشاهدة العرض الأول الخاص في “مركز الدراسات من أجل التنمية” الذي كنت أعمل به آنذاك.
وعندما عدت إلى القاهرة وأنت في شهرك الأول، صرت أصغر باحث ميداني في الجبانات، حيث كنت ترافقني في الجولات الأخيرة للتأكد من معلومة، أو أثناء اصطحابي لزائر أجنبي من أصدقائي. تستلقي في دَعَةٍ داخل سَبَتٍ أنيق، تغفو طوال الوقت، تستيقظ لماما بدون صخب أو هلع لتآلفك مع المكان. في عام 1990، كنت أصغر زائر لمعرض الصور الفوتوغرافية الذي نظمته في “مركز بحوث البناء والإسكان” إثر قيام محافظة القاهرة بإزالة جزء من جبانة باب النصر من أجل توسيع محور الجمالية.
وبين يوم ولادتك عام 1986 وحتى تسليم المخطوطة إلى الناشر النهائي عام 2001؛ أي على مدى أربعة عشر عامًا، عاصرت مراحل إنتاج الكتاب: من تصنيف المادة التي جمعت، وترتيبها، واستكمال الدراسات الميدانية من خلال الأرشيف، وتحميض الصور واختيار الأفضل منها لوضعه في الكتاب، ورسم الخرائط، عاونَّا فيها طلبة من كلية التخطيط الإقليمي ممن شاركوا في الرفع الميداني، ونحن ندين لهم بكل الشكر والامتنان. ثم جاءت مرحلة الكتابة وعمل الماكيت، كنا نقوم بذلك والدك وأنا، وشببت وأنت تتابع نقاشاتنا وخلافاتنا وبعض المعوقات التي كادت تؤدي إلى عدم نشر الكتاب، حتى صارت أقصى أمانيك، أن تنتهي قصته ونقلب صفحتها تمامًا.
***
عند ظهور الطبعة الفرنسية الأولى عام 2002، كنت معي في القاهرة فترة انتدابي في كلية الهندسة جامعة القاهرة؛ من أجل مشروع مشترك ممول من قبل المجموعة الأوروبية عن القاهرة الخديوية، واحتفلنا بهذه المناسبة معًا، لكن القصة لم تنتهِ هكذا؛ فقد تابعت من جديد جلساتي مع المترجم الإنجليزي الذي كان يأتي إلى منزلنا في باريس لنعمل معًا على النسخة الإنجليزية على مدى عام كامل، وصار فردًا من العائلة. ندعوه على العشاء أو الغَداء حسب توقيت تواجده.
وعندما ظهرت النسخة الإنجليزية عام 2007، كنت وحدي في القاهرة، وكانت صلتك قد انقطعت بالجبانات منذ عدة سنوات. لكني استمررت في الدفاع عنها كلما صرَّح أحدهم بضرورة نقلها، فأنبري للرد عليه، أو أنشر مقالًا بالعربية يتحدث عن قيمتها التاريخية والمعمارية، أو أدلي بحديث هنا وهناك، حتى كان عام 2008 عندما نُشِر المخطط العام للقاهرة 2050، وتوالت تصريحات المسؤولين عن ضرورة نقل الجبانات، ثم بادرت شهرية “أدب وجهات نظر” بدعوة المهتمين والمتخصصين في مجال العمران إلى إثراء الحوار حول مستقبل القاهرة عام 2010 وطرحت اثني عشر سؤالًا تمثل كلها تحديات كبرى بالنسبة لمستقبل العاصمة. من بينها كيفية التعامل مع المقابر الموجودة في قلب الكتلة العمرانية؛ وهي القضية التي تناولتها على صفحات تلك المجلة[3].
***
وبعد أن شرحت أهمية الجبانات كتراث جنائزي فريد في العالم العربي والإسلامي، وأهميتها كجزء أصيل من القاهرة، سابقة على نشأتها بثلاثمئة عام، حيث أُنشئت في القرن السابع الميلادي، ومناقشة الأسباب التي كانت وراء توجهات الإزالة، طرحت سيناريوهين كالآتي:
“تعالوا نتخيل أنه خلال الأربعين عامًا التي تفصلنا عن عام 2050، قد تم نقل سكان الجزر السكانية العشوائية التي تحوط المجموعات الجنائزية على دفعات، وكذلك سكان الأحواش إلى مساكن صحية في المدن الجديدة، وأزيلت مساكنهم القديمة وتحولت الفراغات التي تم إخلاؤها إلى ساحات مفتوحة أو حدائق فأظهرت روعة الآثار التي لم يعد يحجبها شيء. ثم تبنت وزارة البيئة والجمعيات المتخصصة مشروعًا لتشجير المحاور الرئيسة للجبانات بأشجار الأكاليبتوس التي لها خاصية عالية في امتصاص المياه، سنت قوانين التنسيق الحضاري مشروع قانونٍ يجبر أصحاب الأحواش على ترميمها وصَدَّق عليه مجلس الشعب. تعالوا نتخيل المنظر الذي سوف تكون عليه هذه الجبانة الفريدة عند النظر إليها من حديقة الأزهر أو من قمة جيل المقطم.
ثم تعالوا نتخيل السيناريو البديل- أي: إزالة الجبانات بالكامل- وبناء وتحويل هذا السهل الذي قيل قديمًا: إن له تأثيرًا فردوسيًّا؛ لأن جسم الميت يحفظ فيه لفترة طويلة- الذي يضم رفات الأجداد على مدى عشرة قرون إلى أبراج سكنية أو تجارية من الزجاج الفيميه والحديد التي لا تحمل أي طابع مميز ولا قيمة لها، ولا تساهم في حل مشكلة الإسكان في القاهرة المتخمة بمساكنها الخالية، فهل هذا ما يريدون أن يورثوه للأجيال المقبلة؟ إن الحفاظ على مناطق الجبانات في القاهرة هو عمل حضاري سبقتنا إليه العديد من الدول الأوروبية التي حولت مناطق المقابر إلى حدائق ومزارات”.
***
أتذكر يا حكيم عندما حدثتك في الأمر، نصحتني بالذهاب لمقابلة أحد متخذي القرار وإهدائه النسخة الإنجليزية لكتابي، وبالفعل حددت لي زميلتي الدكتورة سحر عطية ميعادًا مع الدكتور مصطفى مدبولي، وكان آنذاك رئيسًا لهيئة التخطيط العمراني والإقليمي، واستقبلني الرجل بترحاب وتواضع محبب.
حدثته عن مخاوفي، فبددها قائلًا: إنه دارس للتراث ويفهم جيدًا قيمة جبانات القاهرة، ولن يكون هناك أي مساس بهذا الموقع، وشكرني لزيارتي وأهديته كتابي وانصرفت مطمئنة. وكنت قد قمت بزيارة مماثلة من قبل لجهاز التنسيق الحضاري، وأهديت أيضًا الأستاذ سمير غريب، رئيس الجهاز آنذاك، وهو صديق عزيز، نسخة من الطبعة الإنجليزية، فعهد إلى الباحثين بعمل حصر وتصنيف للأحواش ذات القيمة في الجبانتين: الجنوبية والشرقية، وتم وضعها على قوائم الحفاظ من أجل حمايتها.
إثر صدور النسخة الإنجليزية عام 2007، اتصلت بي منظمة الأغاخان للتعاون معها في تنسيق موقع الجبانة الشمالية؛ أي: صحراء المماليك التي تطل عليها حديقة الأزهر. كان مشروع المنظمة يهدف إلى تشجير الجبانة وعمل مسارات للزيارة، واشتراكي فيه كان يعتبر تتويجًا لكل الجهد الذي قمت به، إلا أن هذا المشروع لم يرَ النور للأسف الشديد، وجاءت ثورة 2011 لتضع حدًّا لوجود منظمة الأغاخان في مصر. وخلال الفراغ الأمني الذي تلا الثورة، تعرضت القاهرة التاريخية إلى اعتداءات منظمة من قبل المطورين العقاريين طمست معالم الكثير من أحيائها من خلال عمليات هدم الدور القديمة وإحلال عمائر عشوائية متعددة الأدوار محلها.
***
وفي نفس الوقت، توالت سرقات العناصر المعمارية للآثار المملوكية من الحشوات والزخارف الخشبية للمنابر والأبواب ومقابضها والشبابيك… ولم تسلم المنشآت الأثرية للجبانات من تلك السرقات، التي طالت الشبابيك النحاسية الثلاثة الكبيرة التي كانت تغطي نوافذ سبيل رقية دودو، ومسجد وضريح السلطان قايتباي بالجبانة الشرقية، الذي تعرض لثلاث عمليات من السرقة كان آخرها في فبراير 2013 حيث تم استهداف المنبر[4].
في عام 2014، قمت بزيارة للجبانات، وهالتني حالة التدهور الذي وصلت إليها، فعاودتني فكرة نشر كتابي باللغة العربية، وأخَذَت تلح عليَّ، حيث كنت قد عهدت منذ سنين عديدة إلى الصديق الراحل حلمي شلبي بترجمة ثلاثة أجزاء، وترجمت أنا أجزاء أخرى نشرت في مؤتمرات أو في دوريات متخصصة، وعهدت بجزأين إلى مترجمة متخصصة؛ نظرًا لاحتوائها على الكثير من المصطلحات المعمارية. وظلت كل تلك الترجمات حبيسة في ملفات على أحد أرفف مخزن صغير في شقتي في وسط البلد. وعند البحث عنها، وجدت بعضها فُقِد في ظروف غامضة، فأجلت مشروع النشر، لانخراطي أيضًا في مشاريع أخرى، إلى أن بدأت الجبانات تتعرض لموجات من الإزالة التي كان أولها في منتصف عام 2020، عندما تم إنشاء كبري الفردوس وعين الحياة اللذين اخترقا الجبانتين الشرقية والجنوبية من الشرق إلى الغرب، مكتسحَينِ في مسارهما عشرات المدافن التي تحمل قيمًا مادية ومعنوية لشخصيات عظيمة، جُلُّها من أعلام السياسة والفكر والفن والثقافة في الحقبة الليبرالية[5].
بادرت مجموعة “إنقاذ جبانات القاهرة التاريخية” بتوجيه بيان أوَّلي إلى رئيس الوزراء جمع مئات التوقيعات من مثقفين ومتخصصين في التراث محليين ودوليين، وكان له تأثير كبير على الرأي العام، مما أدى إلى وقف عملية الهدم. وشدد البيان على القيم العالمية المادية وغير المادية للجبانات، وهو السبب وراء إضافة هذا الموقع الجنائزي الذي يعود تاريخه إلى 1340 عامًا إلى قائمة التراث العالمي بالقاهرة التاريخية من قبل اليونسكو في عام 1979؛ كما حذر من المخاطر التي تهدِّد وجودها واستمراريتها كجزء لا يتجزأ من المشهد الحضري للمدينة.
***
واحتجت العريضة بالقوانين المحلية والدولية التي تحمي المقابر من أي تعديات تشكل اعتداء على سلامة المدينة التاريخية ككل، بما لذلك من تداعيات خطيرة على مكانة القاهرة التاريخية كأحد ممتلكات التراث العالمي. وفي نفس الوقت، سلمت لجنة العمارة بالمجلس الأعلى للثقافة عريضة أخرى لوزيرة الثقافة آنذاك[6]؛ هذا وقد وضعت اليونسكو على صفحتها الرسمية صورة معبرة عن الدمار الذي لحق بالجبانة الشرقية استمرت عدة أسابيع.
وفي سياق مماثل، تم توجيه نداء جديد إلى متخذ القرار في يناير 2021 إثر عمليات الهدم التي طالت الجزء الشمالي لجبانة السيوطي وخلف مسجد مسيح باشا العثماني. إثر مواجهة هذا الاحتجاج، نظم رئيس الوزراء المصري اجتماعًا مع جميع أصحاب المصلحة المعنيين في مارس 2021؛ لإظهار الدعم لمشاريع الترميم وإعادة التأهيل في القاهرة التاريخية. وأشار إلى حرصه الشديد على القاهرة التاريخية، واعدًا بوقف كافة عمليات الهدم، واستئناف كافة المشروعات السابقة، ووضع خطة الإدارة.
تمسك الجميع ببارقة الأمل تلك، إلا أنه تحول إلى سراب بعد عدة أشهر؛ ففي سبتمبر من نفس العام، فوجئنا بنشر مخطط لشبكة من الطرق والكباري والميادين تقطع أوصال الجبانات وتهدد بإزالة العشرات من أجمل وأقيم المدافن التراثية التي وُضِعت عليها علامات إزالة باللون الأحمر، وتم إبلاغ أصحابها من قِبَل التُّرَبية بإخلاء الأحواش من رفات ذويهم، فخضع البعض، وهم أغلبية، ورفض البعض الآخر، وهم الأقلية، والتحقوا “بمجموعة إنقاذ جبانات القاهرة التاريخية” التي أنشأناها، وقاموا برفع قضايا ضد هذا القرار، ولم يتم الحكم فيها إلى الآن. منذ ذلك التاريخ، تفرغت تمامًا للدفاع عن الجبانات من خلال المجموعة التي ضمت لفيفًا من محبي التراث من المهتمين بشكل خاص بالجبانات، وخضنا معارك على عدة مستويات: العلاقات الشخصية، الميديا المحلية والعالمية، الرأي العام والقانون والمنظمات الدولية وغير الحكومية العاملة في مجال الحفاظ على التراث.
***
نجحنا في إيقاف عمليات كبرى للإزالة وتعطيل البعض الآخر. وكان توثيق الموقع من أهم أهداف المجموعة؛ وذلك للحفاظ على ذاكرة المكان من الاندثار وتوريثها للأجيال المقبلة؛ لذا أنشأنا صفحة على فيسبوك لاقت إقبالًا كبيرًا وتحولت في وقت قصير إلى مصدر مهم لمعرفة تاريخ الجبانات والقيم التي تحملها والمخاطر التي تهددها، ومتابعة أخبارها يومًا بيوم؛حيث كنا ننشر حصيلة زياراتنا للمنطقة من صور فوتوغرافية تُظهِر روعة معمار الأحواش المميزة المهددة بالإزالة. وخلال عام 2022، قمنا بتنظيم ثلاث ندوات ومعارض فوتوغرافية على التوالي، في مكتبة القاهرة الكبرى، ومعرض الكتاب السنوي، وبيت المعمار.
شاع صيت حملتنا، وبدأت الميديا العالمية تدعمها، وقد وجدت صدًى، على استحياء، في الميديا المحلية، حيث تبنت أخبار الأدب وباب مصر القضية، وكان السبق في الميديا المرئية للسيدة لميس الحديدي؛ فقد دافعت عن قضيتنا بشجاعة منقطعة النظير، فشكرًا لها، ولا ننسى أيضًا الأساتذة: محمود سعد، وخيري رمضان، وإبراهيم عيسى الذي استضافنا في حلقتين. نجحنا في فترة وجيزة في استثارة الوعي المجتمعي بالمخاطر التي تهدد هذا الموقع المسجل تراثًا إنسانيًّا على قوائم اليونسكو، باعتباره جزءًا من القاهرة التاريخية. ونشأ رأي عام يحاول الحَوْل دون تنفيذ مخطط يناير المدمر، ثم وصل الأمر لذروته بين إبريل وسبتمبر 2022، إبَّان الإعلان عن كوبري ياسر رزق، الذي يربط المقطم بشبكة الطرق الإقليمية، مارًّا بجبانة الأباجية (عمر بن الفارض) مزيلًا في طريقه مدافن شهداء حرب 73، ومهددًا مدافن طه حسين ويوسف صديق (1910-1975)، عضو تنظيم الضباط الأحرار[7] الحاصل على قلادة النيل عام 2018.
***
هبَّ المجتمع المصري والدولي للدفاع عن مدفن عميد الأدب العربي وتم الإبقاء عليه، وأزيل كل ما حوله. ومع استمرار الضغط المجتمعي، تم تعديل مخطط يناير عدة مرات، لكن البدائل المطروحة كانت ستؤدي إلى طمس معالم القرافة وإزالة مدافن لأعلام مصر ورموزها الثقافية والسياسية، من أدباء وشعراء ورواد للمسرح والسينما، ووزراء ورؤساء وزراء وأمراء وأميرات من العهد الملكي، ما زال العديد منها مهددًا إلى الآن. وقد غطت وسائل الإعلام المحلية والدولية هذا الأمر على نطاق واسع، وقدَّمت ثلاث عضوات في البرلمان طلبًا للإحاطة، وتم تعليق عملية الهدم مؤقتًا، وأطلقت محافظة القاهرة عملية حصر وتصنيف لاختيار المقابر القيمة. وهكذا تم وضع 89 مدفنًا ممن كانوا مهددين بالإزالة على قائمة الحفاظ لجهاز التنسيق الحضاري.
أدت هذه الديناميكية إلى انضمام مجموعات جديدة إلى الحملة، مثل: جمعية الفنون البصرية، التي نظمت عدة زيارات للموقع، وفي ديسمبر 2022 عقدت مؤتمرًا بمصاحبة معرض في أتيليه القاهرة بوسط القاهرة. واستمر المعرض ثلاثة أسابيع وتضمن لوحاتٍ وصورًا فوتوغرافية ساهم بها خمسة وعشرون فنانًا. وفي مايو 2023، انضم (اتحاد الأثريين العرب) إلى الحملة، فنظم مؤتمرين ووجه رسالة مباشرة إلى الرئيس السيسي.
***
كل تلك الضغوط نجحت في تعطيل مشروع يناير، لكنها لم تلغِه، وبدأ يدخل حيز التنفيذ في يوليو 2023، عندما أغارت البلدوزرات على مقابر السيدة نفيسة والإمام الشافعي والسيوطي، وتم تداول الصور على مواقع وسائل التواصل الاجتماعي، فقمنا بإطلاق صرخة في صورة عريضة وقع عليها 300 شخصية بارزة في السياسة والثقافة والإعلام والأكاديميات والسياسة الخارجية وأعضاء البرلمان، إضافة إلى كافة الأحزاب السياسية، والنقابات والجمعيات غير الحكومية، حدَثٌ لم نشهده منذ ثورة 2011. وكان لهذا الالتماس تأثير كبير على موقف الحكومة.
وشكل رئيس الوزراء لجنة من المختصين لمراجعة المشروع التدميري القائم، واقتراح الحلول البديلة. وتم التصديق على أحد البدائل الذي وضع تصورًا مبنيًّا على دراسات للجدوى صالحة لمدة خمسة عشر عامًا لحل مشكلة الحركة دون الحاجة لاختراق الجبانات. إلا أنه للأسف لم يدخل حيز التنفيذ، حيث استمرت عمليات الإزالة بوتيرة أقل، وفي نطاق ضيق؛ مما أدى إلى استقالة أعضاء اللجنة المشكَّلة.
كنت يا حكيم، تراقب آخر مراحل نضالي خلال السنوات الثلاث الماضية من أجل إنقاذ موقع استحوذ على اهتمامي لمدة نصف قرن، تطالبني إشفاقًا عليَّ بالتخلي عن تلك المعركة الخاسرة، على حد قولك، لكنك تناقض نفسك وتصرح بأن المعارك الخاسرة هي الجديرة فقط بالعراك من أجل كسبها. وقد كان لهذه المعركة جولات، خسرنا بعضها، وكسبنا البعض الآخر، ويعتبر نشر هذا الكتاب الآن باللغة العربية مكسبًا جديدًا للقضية؛ حيث يوثق لموقع على وشك الاندثار، ويحفظ ذاكرة الوطن وأبناءه ممن اختاروا الدفن في ثراه.
***
مر حوالي نصف قرن منذ أن بدأنا دراستنا للجبانات إلى اليوم، حدثت خلاله تغيرات كبرى في مدينتي الأحياء والموتى على حدٍّ سواء. وإذ تظل السردية التاريخية لنشأة الجبانات وتطورها صالحة إلى يومنا هذا، مع بعض الإضافات الطفيفة اعتمادًا على دراسات جديدة نشرت في تلك الفترة؛ ينطبق الأمر على التحليل المعماري، سواء للمنشآت التاريخية المسجلة كأثر، أو للأحواش التي قمنا بتوثيقها، إلا أن العديد منها نال منه الإهمال والتدهور، لكننا فضَّلْنا الاحتفاظ بالصور القديمة؛ وكذلك تبدلت الطوبوغرافيا وحالة الأماكن، بسبب التكثيفات الرأسية والأفقية ومحاور الحركة التي أُنشئت أو تم توسيعها، وفقَدَ كثير من الأجزاء تجانسها البصري السابق، وتم بناء سور حجري عالٍ بموازاة طريق صلاح سالم لإخفاء معالم موقعٍ للتراث العالمي، كأنهم يخجلون من وجوده.
وإذ يبدو من العسير تحديث كل التغيرات، مما يعني القيام بدراسة منفصلة تحتاج إلى سنين من الجهد والعمل الميداني، فقد أشرنا إلى بعض هذه التغيرات، في الأجزاء المختلفة من الكتاب، دون أن نتناولها بالتفصيل، وضمَّنَّا الفصل السادس وهو قبل الأخير، تطور محنة الحفاظ على التراث في خلال نصف القرن المنصرم؛ أي: من حيث انتهينا في الطبعات السابقة. كما أضفنا ملاحق في نهاية الكتاب، تحدثنا فيها عن شبكة الطرق، وموقع عليها الأحواش ذات القيمة المهددة بالإزالة، وأرفقنا صورًا لها.
هوامش
[1] عمرو عصام، القرافة من الحافة إلى القلب، بحث غير منشور.
[2] الأميرة شويكار (1868-1947)، هي ابنه الأمير إبراهيم فهمي ابن الأمير أحمد رفعت باشا بن إبراهيم باشا، ومدفنها من أجمل مدافن الجبانة الشرقية، ويضم فراش من الرخام الكرارة قام بتصميمه المهندس المعماري دوناتللو جابريللي. وقد تم تسجيله عام 2023 من قبل هيئة الآثار.
[3] جليلة القاضي، “جبانات القاهرة في بورصة العقارات”، الكتب، وجهات نظر، عدد 110، مارس 2008، ص12-15.
[4] عن “شهادة سرقات الآثار الإسلامية في القاهرة”، 2007-2014، تقرير من إعداد حملة إنقاذ القاهرة التاريخية، يونيو 2014.
[5] أحمد لطفي السيد، المفكر والفيلسوف وعضو المجلس العلمي، المهندس ذكي المهندس، الفنان أحمد عبد القدوس والد الكاتب إحسان عبدالقدوس، الصحفي الكبير محمد التابعي، حسن باشا صبري، رئيس وزراء سابق، وعبود باشا من رواد الاقتصاد في مصر، ونازلي هانم حليم من العائلة المالكة، والدكتور نور الدين طراف، الرئيس السابق للمجلس التنفيذي للإقليم المصري في الجمهورية العربية المتحدة، ثم إلقاء رفات بعضهم على قارعة الطريق. وكل هذه المدافن في الجبانة الشرقية، حيث مر إنشاء محور عين الحياة في صمت.
[6] السيدة الوزيرة إيناس عبد الدايم (2004-2010).
[7] لعب يوسف صديق دور محوري في إنجاح انقلاب يوليو 1952، ثم تمسك بعد ذلك عودة الحياة النيابية والأحزاب وتشكيل حكومة ائتلاف وطني، حتى تم القبض عليه بعد حادث المنصة عام 1954، وأفرج عنه في العام التالي.