جامع بلا مئذنة

إنه جامع «قراقجا» أو «قراخجا الحسني» في منتصف شارع درب الجماميز بالسيدة زينب. وقد سمي «درب الجماميز» نسبة لأشجار الجميز العظيمة المسماة بـ«جماميز السعدية» في العصر المملوكي والتي كانت تحدده من الجانبين. ثم أزيلت عند ردم قنطرة “طقزدمر” (نسبة لمنشئها الأمير طقزدمر على الخليج الكبير بخط المسجد المعلق لتصل إلى بر الخليج الغربي حوالي عام 730هـ) في العصر الحديث عام 1898.

وقد أنشئ الجامع عام 845هـ (1442م ) في فترة حكم السلطان الظاهر “سيف الدين جقمق” ويميل البعض إلى أن صاحبه “قراقجا” قد أراد له أن يكون مدرسة للفقه والتصوف وليس جامع فقط. وذلك لكثرة ما أوقف عليه من أملاك ولأنه رتب له صوفية وشيخا.

أكثر ما يميز هذا الجامع مئذنته بالجهة الشمالية الشرقية من الجامع. والتي تتصل به عن طريق معبرة أو كوبري أو قنطرة (ممر خشبي) من دورين. وتشير بعض الدراسات أن هذه المئذنة ليست مئذنته بل مئذنة الجامع المعلق المندثر. وربما استفاد “قراقجا” من هذا الوضع فبني جامعه بدون مئذنة مستفيدا من وجود هذه المئذنة القديمة. وعلى أية حال فهذا الطراز من المآذن المنفصلة له ما يشبهه في خانقاه ومسجد “منجك اليوسفي” بالحطابة ومسجد السلطان “إينال” بصحراء المماليك.

 ***

وكان بالجامع مجمع حنفية (فسقية لوضوئهم) حيث اشترط الحنفية لصحة الوضوء ألا يتوضأ جميع المتوضئين من حوض ماء واحد، لأن ذلك يؤثر في طهارة ماء الحوض. فيما أجازت الشافعية الوضوء من حوض واحد. وهذا يدل على مبلغ ما كان للفقه من تأثير كبير وفعال في تخطيط ميضاءات المساجد الأثرية.

صاحب هذا الجامع حمل اسما غريبا مكونا من شقين: “قره” بمعنى أسود باللغة الفارسية نسبة لسواد لونه و”قجا” بمعنى أستاذ أو سيد وهو اسمه الحقيقي. عاش غريبا بصفاته المنفصلة عن عصره من حسن الخلق والتواضع والعبادة والبعد عن المغامرة. ومات غريبا وطوبى للغرباء، هو الأمير سيف الدين “قراقجا بن عبد الله الحسنى الظاهري برقوق” أحد مماليك السلطان الملك الظاهر “سيف الدين برقوق بن انس بن عبد الله الشركسي”.

ونظرا لصغر سنه فقد ألحق بالطباق السلطانية بقلعة الجبل وطال به الأمد  لحداثة عمره حتى أصبح أمير عشرة (أمير من الرتبة الثالثة تحت أمرته عشرة فرسان أو عشرين. وهم في الأغلب أرباب الوظائف وصغار الولاة) بعد وفاة  السلطان المؤيد شيخ عام 824هـ (1421م). كما شغل منصب ناظر المدرسة البرقوقية (مدرسة الظاهر برقوق بشارع المعز لدين الله الفاطمي منطقة ببين القصرين).

ارتقى “قراقجا” مناصب عدة في مساره العسكري الحافل والممتد والهادئ تصلح أن تكون معجما ومرشدا لنا في فهم طبيعة المناصب العسكرية المملوكية منها: “أمير أخور كبير (رئيس الإسطبلات السلطانية والمشرف على ما فيها من الخيل والإبل)”. وولي “رأس نوبة (أي من مهامه الفصل في المنازعات الناشبة بين الأمراء المماليك ويحكم عليهم )”. و”أمير طبلخانة (كلمة فارسية بمعنى بيت الطبل وصاحب اللقب أمير من الرتبة الثانية تحت أمرته أربعين فارسا في الأغلب. وله الحق أن تدق الطبول والأبواق على أبوابه)”. و”أمير مائة مقدم ألف (يحمل هذه الرتبة نائب السلطنة وأتابك العسكر والمتولين للنيابات الكبيرة بالبلاد الشامية ونواب الوجهين القبلي والبحري والإسكندرية. وهو مقدم على ألف جندي على الأقل في التشكيلات عند التعبئة يتولى ترتيب مواقعهم. ولا يكون ذلك إلا عند خروج العسكر). ورأس نوبة النوب (كبير رؤوس النوب) وكان السلطان يناديه “يا أخي”.

***

وبحسب وصف “السخاوي” له فقد كان فيه “تجمل زائد أسمر معتدل رشيق الحركة أبيض اللحية مستديرها عليه وقار وحشمة”. في عهد السلطان الأشرف “سيف الدين برسباي” شارك  في القضاء على ثورة الأمراء الجلبان (أو الأجلاب وكانوا يجلبون كبارا وجهالا وغير مندمجين في نسيج العسكرية المملوكية. لصعوبة تربيتهم وتعويدهم النظام والقلاقل من هذه الناحية كانت أحد معاول هدم  دولة المماليك الجراكسة) عليه بالريدانية. وقد عاثوا في الأرض فسادًا لتأخر رواتبهم عام 839 هـ(1435م). كما رافق الأمير “سيف الدين أزبك المحمدي الظاهري (نسبة لبرقوق)” الدوادار الكبير (حامل دواة السلطان ومهمته إبلاغ الرسائل عن السلطان)” إلى منفاه بالقدس. بعدما اتهم بمحاولة الانقلاب على برسباي عام  832هـ. ويقال كان بريئا منها ومات هناك.

الفترة الفارقة في حياة “قراقجا” وبزوغ نجمه كانت في عهد السلطان “جقمق”. إذ أصبح يمثل مخلب قط لنظامه فحسم صراع السلطان مع الأتابكي “قرقماس الشعباني الظَّاهِرِيّ برقوق. ثمَّ الناصري (يعرف بقرقماس أهرام ضاغ يَعْنِي جبل الأهرام لتكبره. ومما يروى عنه أنه اعتدى بالضرب المبرح ثلاثا على امرأة تعسر عليها سداد دينها ولديها ما يثبت حتى ماتت. ولما رفع الأمر للسلطان أمر بدفنها)”.

وكان أحد أكبر التحديات التي صادفت حكم “جقمق” في بداياته. إذ حاول منازعته على الحكم على الرغم من أن الأخير قد رفعه لدرجة الأتابك قبلها بأيام. ونجح في تكوين جبهة من الأمراء المناوئين والاستيلاء على مدرسة السلطان حسن وراح يضرب القلعة بالمكاحل والمجانيق ليحسم الصراع في النهاية لصالح “جقمق” عام  842 هـ. ويقبض على “قرقماس” مختبئا في الجزيرة الوسطى (الزمالك). وكان الأخير هو الذي أغرى السلطان على اعتلاء أريكة الحكم منقلبا على ابن سيده الراحل وهكذا الأيام تدور وسنفصل لذلك فيما بعد.

وظفر “قراقجا” كذلك بنائب الشام “إينال الجكمي” عام 842هـ في موقع يسمى “الخربة” وقبض عليه وأمر بقتله بسجنه بقلعة دمشق وسنأتي على ذكره لاحقا بعد ذلك. كما وجهه السلطان في حملة ومعه ستة من الأمراء لتأديب عربان البحيرة عام 849هـ.

 ***

العلاقة الفريدة بين “قراقجا” و”جقمق” من وفاء الأول وتقدير الثاني ربما يفسرها أن قصة صعودهما تكاد تكون متشابهة في أغلب تفاصيلها. فصعود “جقمق (كلمة تركية تعني الزند أو القداحة)” بدأ مع توسط أخيه الأكبر الأمير “جاركس بن عبد الله القاسمي الظاهري، الأمير سيف الدين. والمعروف بجاركس المصارع” أحد الأمراء الخاصكية (الحرس السلطاني) لدى الظاهر برقوق في شراء شقيقه جقمق. وهو ما تحقق حيث ألحق “جقمق” الصغير بالطباق السلطانية (الثكنات العسكرية بقلعة الجبل بالقاهرة). ثم ارتقى سلم الجندية المملوكية إلى أن أصبح بالمماليك الخاصكية بجوار شقيقه وفي عهد الناصر”فرج بن برقوق” أصبح جقمق “ساقي” السلطان الخاص ورقاه أميرًا على عشرة أجناد. وبعدها غضب عليه وسجنه هو وأخيه. ثم أفرج عنه بوساطة الأمير تغري بردي والد المؤرخ الشهير جمال الدين بن تغري بردي. في سلطنة المؤيد شيخ أصبح “أمير طبلخانة”.

كان “جقمق” محل ثقة السلطان الأشرف “برسباي” فاعتلى عدة وظائف مؤثرة في عهده منها: “أمير آخور” كبير لمدة أحد عشر عاما. ثم “أمير سلاح (متولي أمر سلاح السلطان ومخازنه)”. ثم أصبح “أتابك العساكر” كما أظهر كفاءة في الحملة العسكرية لتأديب إمارة “دُلغادر” في الأناضول. مما شجع السلطان برسباي على تعينه وصيا على ولده السلطان الملك “العزيز جمال الدين أبوالمحاسن يوسف بن الأشرف برسباى (أمه الجارية جلبان)”.

 ***

كان الأمير “قرقماس الشعباني” أمير سلاح وكان في حملة عسكرية على الحدود الشامية حينما مات الأشرف “برسباي”. فلما عاد نصح “جقمق” بخلع “العزيز يوسف” لصغر سنّه. فقد كان في سن الرابعة عشر وحكم لثلاثة أشهر فقط فنزل على نصيحته وأعلن نفسه سلطانا وتلقب بالملك الظاهر لقب أستاذه الأول “برقوق”.

بالطبع إعلان مثل هذا القرار الخطير يستلزم القبض على بعض كبار رجال السلطان الراحل “برسباي” من المماليك الأشرفية. وهنا ظهرت نوايا “قرقماس” الخبيثة وطمعه الصريح في السلطنة لنفسه. حيث شق عصا الطاعة وضم لجبهته المماليك الأشرفية وأصبح مناوئا بشكل علني لجقمق. واشتعل الصراع العسكري بينهما لتنكسر جبهة “قرقماس” ويقبض عليه كما أسلفنا ويحمل لسجن الإسكندرية. حيث  استطاع “جقمق” أن يثبت عليه كفرا لأنه خرج عن الطاعة وحارب الله ورسوله وفي بقاءه بالسجن إثارة للفتنة. فحكم عليه قاضي قضاة المالكية، شمس الدين البساطي، فضربت عنقه في السجن عام 842هـ.

في الوقت ذاته كانت بقايا المماليك الأشرفية قد أرسلوا للأميرين “إينال الجكمي” نائب  دمشق و”تغري برمَش” نائب حلب يستعدونهما على “جقمق”. فقد خالف الوصيَّة المُسندة إليه من أستاذهم “برسباي” الراحل وقبض على ولده الملك العزيز وفتك بإخوانهم من الأمراء الأشرفية. لكن الغلبة في النهاية كانت لجقمق الذي قبض على “إينال الجكمي” و”تغري برمش”. وقتلا الأول بقلعة دمشق كما تقدم والثاني بقلعة حلب.

 ***

أطرف ما في عهد “جقمق” هي تلك العلاقة التي ربطته بشاه رخ بن تيمورلنك سلطان هراة، وسمرقند، وبخارى وشيراز. والذي نذر أن يكسو الكعبة واصطدم برفض قاطع وتهديد بالقتال من جانب الأشرف برسباي. لكن باعتلاء “جقمق” الحكم لبى طلبه على الرغم من معارضة الرأي العام المصري. وجعل كسوته داخل البيت (قال ابن تغري بردي: “رأيتُ أنا الكسوةَ المذكورة، وما أظنُّها تساوي ألف دينار”) بينما كسوة السلطان المعتادة من خارجه.

نعود لبطل حلقتنا “قراقجا”.. ياله من اسم غريب على الأسماع. صعوده بلا انقطاع أو انكسار أيضا غريب، سجايه الاستثنائية غريبة، ونهايته كذلك كانت غريبة. إذ شاء القدر أن تغافله أسباب المنايا عام 853هـ (1449م) هو وابنه الأمير علاء الدين ويرحلا بالطاعون في نفس اليوم. ويدفنا في قبر واحد لينقطع دابره ويغض التاريخ عنه الطرف. وقد كان الأقرب لجقمق والأوفر حظا لتولي السلطنة بعده وقد حضر “جقمق” الصلاة عليه بنفسه في ظهور نادر للسلاطين في هذه المناسبات. ويقع مدفنه بتربة السادات الشناهرة (الأشراف).

اقرأ أيضا:

مآذن فاطمية في الصعيد.. تنتظر إعادة الاكتشاف

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر