«توماس راسل» حكمدار القاهرة للمصريين: احذروا الشاي.. إنه طاعون العصر!
لاشك أن توماس راسل ظل لمدة طويلة هو أشهر ضباط البوليس المصري خلال فترة الاحتلال الإنجليزي، فقد وصل توماس راسل إلى مصر سنة 1902 وعمره 23 سنة، وبدأ العمل متدربا في منطقة الجمرك بالإسكندرية.
وانتقل راسل بعد ذلك للعمل كمساعد مفتش في بعض محافظات الدلتا، ثم عمل كمفتش للداخلية سنة 1908 في كثير من محافظات الصعيد، وأسس فرقة الهجانة التي كانت تقوم بمهمة خفر السواحل، ثم عاد للإسكندرية في منصب نائب حكمدار المدينة، ونقل نائبا لحكمدار القاهرة، وفي سنة 1918 تولى منصب حكمدار القاهرة ورئيس مكتب مكافحة المخدرات، وظل في منصبه حتى خروجه من الخدمة سنة 1946 وتوفي عام 1956.
مذكرات راسل
كتب راسل مذكراته عام 1949 وقد ترجمت أكثر من مرة، في المرة الأولى نشرتها مجلة “مسامرات الجيب” عام 1949 في عدة حلقات وهي نفس السنة التي نشر فيها راسل مذكراته بالإنجليزية، والمرة الثانية نشرتها مجلة “البوليس” عام 1956 على حلقات مطولة، وبعيدا عن المذكرات فقد كان راسل ملء السمع والبصر طوال فترة عمله في البوليس حتى خروجه من الخدمة عام 1946، فكتب العديد من المقالات في دوريات مختلفة وأجريت معه الكثير من الحوارات.
وفي شهر مارس 1935 أصدرت جريدة الأهرام عددا تذكاريا ضخما عن الصحة، وكان توماس راسل أحد الكتاب الذين اشتركوا في كتابة مقالات في هذا العدد التذكاري، والغريب أن راسل وهو وقتها كما هو معرف من مقاله “حكمدار مصر ورئيس مكتب مكافحة المخدرات” لم يكتب عن الجريمة أو المخدرات بشكل مباشر، لكنه كتب مقالا بعنوان “الطاعون الجديد” ولم يكن يقصد المخدرات، ولكنه كان يقصد مشروب “الشاي” الذي يشربه غالبية الشعب المصري وتحدث مطولا عن أضراره الاقتصادية والاجتماعية، وكيف أن هذا المشروب أدى إلى جرائم عديدة يتوجب مكافحته كما يكافح المخدرات.
الطاعون الجديد
وكتب راسل في مقدمة مقاله: “قد ظهر طاعون جديد في مصر يتلف صحة سكانها وثروتهم واسم هذا الطاعون هو الشاي الأسود، والشاي في ذاته من نعم الله على الإنسان وقد كان الصينيون يستعملونه من ألفي سنة قبل الميلاد وإن كان لم يظهر في أوروبا إلا في القرن السابع عشر بعد الميلاد، أما في مصر فإن مقطوعيته في ازدياد مستمر وخاصة منذ الحرب العالمية العظمى، ففي سنة 1911 شربت الأمة المصرية 595000 كيلو غرام منه، ولكن في سنة 1920 بلغت المقطوعية 1623092 كيلو جراما، وقد كانت عادة شرب الشاي تكاد تكون مجهولة في مصر قبل الحرب العظمى إلا في الواحات، حيث لا شك أن سكانها أخذوها عن العرب، ولكن الحرب العظمى غيرت ذلك إذ اقتبس ألوف الفلاحين هذه العادة من الجنود الأستراليين المشهورين بشدة الميل إلى هذا الشراب”.
ثم يبدأ راسل في شرح الطريقة السليمة لتحضير الشاي ومقارنتها بطريقة المصريين الضارة فيكتب: “الشاي شراب منشط ومنبه للشاربين بشرط تحضيره كما يجب، وطريقة تحضيره الصحيحة هي وضع الماء الساخن على أوراق الشاي، ثم تركها لمدة سبع دقائق لاستخلاص ما فيها من الزيت والكافيين، وبعد ذلك يفصل الماء بما ذاب فيه من هذه المواد ونلقي البقايا جانبا، أي يجب عدم ترك الماء الساخن فوق الأوراق مدة طويلة وإلا استخلص منها حمض التانيك (Tannic acid) وهو ضار بالصحة، أما الفلاحون في مصر فيحضرونه بطريقة خاطئة جدا إذ أنهم يغلون أوراق الشاي بل يتركونها في الماء الساخن بعد ذلك ويعيدون استعمالها مرارا عديدة في اليوم، وإن كانوا يزيدونها أحيانا داخل الإناء وتكون النتيجة أن هذا الغلي المستمر يؤدي إلى استخلاص كل الخلاصات الثقيلة من الشاي وخاصة الأحماض إلى قبض المعدة وتهيجها وازدياد أعراض من يكون مصابا بقرحة فيها أو بزيادة في الحموضة، وكذلك يؤدي إلى إمساك مزمن شديد، وقد يستعمل بعض الفلاحين الشاي أيضا كمخدر أو مقو للأعصاب حيث يضيفون إليه عصير الجمار أو مسحوق جوز الطيب”.
الشاي الأسود
ويستمر توماس راسل في الحديث عن أضرار الشاي كما يحضره الفلاحون، فيتطرق إلى الأضرار الاقتصادية التي تنتج عن الإفراط في شرب الشاي الأسود، فيقول: “أما من الوجهة الاجتماعية فإن الأطباء يؤكدون أن شرب الشاي الأسود يصير عادة متأصلة في الشخص حتى أنه ليفضل الشاي عن الطعام، وأنه نظرا لسوء التغذية بين الفلاحين يزيد هذا الشاي من ضعفهم البدني فلا يستطيعون تحمل مشاق أعمالهم المضنية، وقد ذكر مدير الفيوم في أحد تقاريره أن الفلاح الآن يشرب الشاي الأسود في كل مكان، في منزله، وفي حقله، وفي أي مكان آخر يوجد به ولا يستطيع الإقلاع عن هذه العادة التي يفضلها عن الأكل المعتاد، فلا يذهب إلى عمله في الصباح إلا بعد شرب الشاي وحيثما يذهب يأخذ معه معدات الشاي، بل أنه قد يجنح إلى اقتراف السرقة للحصول عليه”.
ثم يسترسل توماس راسل ليتحدث عن الشاي المغشوش الذي ينتشر في الأسواق المصرية، وأن الشاي الموجود في الريف المصري هو تراب الشاي ومع ذلك يباع بمبالغ غالية، ثم يتحدث عن مصاريف الفلاح المصري التي ينفقها على شرب الشاي فيكتب: “كتب لي أحد الملاك من مركز ببا يقول إنه إلى سنتين مضتا كان معدل ما ينفقه الرجل على الشاي يبلغ نحو ثلثي مكسبه اليومي أي نحو قرشين في اليوم للشاي والقرش الباقي لطعامه وطعام عائلته، وأنه نظرا لازدياد ضعف الفلاحين، فإن كثيرا منهم لا يشتغلون إلا بمقدار ما يكتسبون لشراء الشاي، بل أن بعضهم قد صار عاطلا عن العمل تماما بحيث صار من اللازم استيراد اليد العاملة من خارج المنطقة، وقد نتج من هذه الحالة أن زادت حوادث السرقة سواء من الرجال الذي يقترفونها للحصول على مال لشراء الشاي أو من عائلاتهم التي تركت في فقرها المدقع بغير معين. وقد انتهز هذه الفرصة بعض الفلاحين ففتحوا مقاهي صغيرة لبيع الشاي بواقع مليمين للكأس الصغير وخمسة مليمات للكبير، فانهالت عليهم المكاسب إذ صارت قهاويهم مجمع الفلاحين في المساء بعد قبض الأجور يرافقهم كثير من ذوي السمعة السيئة”.
إغلاق المقاهي
ويختتم حديثه بالإجراءات التي قاموا بها لمحاولة الحد من تلك الظاهرة: “اضطررنا لاتخاذ إجراءات شديدة مثل إغلاق هذه المقاهي وتحطيم أدوات صنع الشاي وطرد المدمنين على هذا المشروب الردئ، كما أمكننا أن نجعل العمال يحصلون على بعض الأرض وأن تخصم مرتباتهم من أصل ثمنها وبذلك منعناهم من قبض المال في يدهم وإنفاقه على الشاي. وللأسف هذا الوباء منتشر في كل مكان حولنا بحيث إننا لم نستطع تحصين عمالنا منه تماما، ولاشك أن هذا الشاي الأسود هو مشكلة عظيمة تحتاج لعناية دائمة لمكافحتها”.
ومن المفارقات أنه في نفس عدد الأهرام الذي يكتب فيه حكمدار مصر محذرا من أضرار الشاي الأسود وما ينتج عنه من مخاطر اجتماعية واقتصادية، نجد إعلانا كبيرا عن أحد أنواع الشاي ومكتوب بالإعلان: “شاي ليونس… فناجينه أكثر وطعمه أفخر”.
3 تعليقات