توفيق أندراوس رائد الوحدة الوطنية
يقف بيت توفيق أندراوس بالأقصر شاهدا على لحظة تاريخية تجسد صورة من صور نضال الشعب المصري في سبيل الحصول حريته واستقلاله عن المستعمرين، وكان ذلك أثناء زيارة سعد زغلول إلى الصعيد، من أجل تقوية الشعور الوطني، لكن المفتشين الإنجليز ورجال البوليس المصري في عهد وزير الداخلية عبدالخالق ثروت قاموا بمنع سعد زغلول من مغادرة الباخرة التي يستقلها، لكن الباخرة نجحت في التوقف أمام بيت توفيق أندراوس، ونجح سعد زغلول في النزول منها وذلك بحيلة من يسى أندراوس.
توفيق أندراوس
في يوم 11 أكتوبر سنة 1921، أقلعت الباخرة “نوبيا” التي تحمل الزعيم وصحبه، وهي باخرة كبيرة ذات ثلاث طبقات تم استئجارها على أن تكون أجرتها في الرحلة من القاهرة إلى الأقصر ثمانمائة جنيه مصري، وقد بادر أهالي الوجه القبلي إلى المساهمة في دفع هذا المبلغ عن كرم وطيب خاطر.
لقد خشيت الحكومة المصرية وقتها من اتصال سعد زغلول بالجماهير خوفا من تجدد إصرار الشعب على الاستقلال، وقام عبدالخالق ثروت، وزير الداخلية، بتكليف رجال الإدارة وبعض المفتشين الإنجليز بالعمل على إفشال الرحلة، فأمروا الموظفين المحليين بمنع الناس بالقوة من استقبال سعد زغلول، وبالحيلولة دون نزوله إلى البر، وقد بلغ الأمر حد جلد بعض الأهالي وإطلاق الرصاص عليهم لمنعهم من استقبال الزعيم، وفي جرجا أتيح لسعد زغلول أن يخطب الجماهير من فوق ظهر الباخرة وأن يوجه للوزارة والإنجليز أخطر التهم، وزاد هذا في غضب الوزارة وأعوانها، فشددت في منع رسو الباخرة في أي مكان آخر، فلم ترس إلا في الأقصر أمام بيت توفيق أندراوس.
يروي فخري عبدالنور تلك الحكاية في مذكراته الصادرة عن دار الشروق سنة 1993، ص 261 قائلا:
“قبل أن ترسو الباخرة بالأقصر، جاء حكمدار بوليس المديرية وصعد إليها وتكلم بغلظة طالبا ألا تدنو الباخرة من الشاطئ، تنفيذا للأوامر الصادرة من وزارة الداخلية، فهاج عليه ركاب الباخرة بسبب جفاف حديثه، وأهانوه ورفضوا الإذعان له، مصممين على الرسو أمام الشاطئ. فلما اقتربنا من المرفأ وجدنا توفيق أندراوس أمام منزله (وكان أخوه يسى أندراوس قنصلا فخريا في الأقصر لفرنسا وبلجيكا وإيطاليا) فلما شاهد الباخرة أخذ ينادي بأعلى صوته، ويلوح بعلم من أعلام القنصليات، التي يمثلها وكان في يده إلى جانب ذلك علم مصري، لترسو الباخرة أمام منزل توفيق أندراوس دون أن يجرؤ أحد من موظفي الإدارة الإنجليز على التعرض لها، حتى لا تنشأ عن ذلك أزمة دبلوماسية بين إنجلترا والدولة صاحبة العالم، فانحازت الباخرة إلى المنزل ورست تحته، على الرغم من أنف الإدارة، وعلى أعين رجالها الحانقين الذين استبد بهم الغيظ لهذه الحركة غير المتوقعة”.
لا تتوقف قيمة بيت أندراوس على ذلك الحدث، أو على استضافة أهم شخصيات زمانه، بل ترتفع قيمته بقيمة صاحبه الذي كان واحد من رجال ثورة 1919، وواحدا من رواد الوحدة الوطنية.
دور وطني
بدأ سعد زغلول حركته الثورية بالاجتماع هو وبعض زملائه من أعضاء الجمعية التشريعية، وتم تكوين “الوفد” والبدء في استكتاب التوقيعات من مختلف أفراد الشعب، لتوكيله في الدفاع عن القضية المصرية، والمطالبة بحرية البلاد واستقلالها، وفي نادي “رمسيس” الذي يجتمع فيه صفوة المسيحيين، لاحظوا أن أسماء أعضاء الوفد التي ذكرت بعرائض التوكيلات التي توزع في البلاد ليس بينها اسم أحد من المسيحيين، وتم تكليف توفيق أندراوس أحد أكبر أعيان الصعيد، وفخري عبدالنور، وويصا واصف، بالتوجه لمقابلة سعد زغلول، وقام الزعيم بالترحيب بهم، والترحيب بفكرة انضمام ممثلي المسيحيين إلى الوفد، وفي هذا اللقاء قال توفيق أندراوس: “إن الوطنية ليست حكرا على المسلمين وحدهم” ففرح سعد زغلول وقبله، وأكد توفيق لسعد أن المسلمين والأقباط يعملون بتفكير واحد ورأي واحدٍ فيما يحقق مصلحتهم في الحصول على الاستقلال، ثم خرجوا من مقابلة الزعيم وقد أخذوا معهم نسخا من التوكيلات وذهبوا إلى نادي “رمسيس”، وهناك انهالت التوقيعات عليها من جميع الوافدين على النادي، والذي تحول بعد ذلك من هويته المسيحية الخالصة، إلى هويته المصرية العامة، وأصبح مفتوحا للمسلم والمسيحي.
لقد كان لقاء توفيق أندراوس وصاحبيه بالزعيم حدثا تاريخيا بالنسبة لمفهوم الوحدة الوطنية، وبعد هذا اللقاء توالي دخول المسيحيين في “الوفد المصري” ووصل عددهم في يناير 1924م إلى “تسعة” من “سبعة وعشرين” يمثلون القيادة العليا للوفد.
لقد كانت تلك الخطوة كبيرة جدا، لأن قوى الاستعمار كانت تسوِّق نفسها بوصفها الدرع الذي يحمي المسيحيين في الشرق، كما كانت تستخدم “التعصب الإسلامي”، كي تروج به الاحتلال أمام الرأي العام الأوروبي، وتخفي حقيقة الصراع بين الحركة الوطنية والاستعمار، بتصويره كصراع ديني لا سياسي، صراع بين التخلف الشرقي والتنوير الأوروبي، وهي التهمة التي تم توجيهها إلى الثورة العرابية، وحركة الحزب الوطني، باستغلال ما كان يلتبس بالحركة الوطنية التي نتجت عن سياسة مصطفى كامل القائمة على الاستناد إلى تركيا وسيادتها الرسمية على مصر.
اقرأ أيضا
العراسة وأبوعجور والبحث عن هوية المسرح المصري
تعليق واحد