«تقهرن» المدن: القاهرة وما فعلته في «عواصم» المحافظات

عندما تزور أيا من عواصم المحافظات المصرية، أول ما سيلفت نظرك أن فيها شيئًا مألوفًا. هناك تيمة ما متكررة في كل مدينة تجعلها متشابها مع غيرها. تتراجع المكونات المحلية أمام نموذج أكثر طغيانًا يصهر هذه المدن ويقولبها بحسب شكل شبه موحد. مع التأمل، نصل إلى أن هذه الحالة هي ما نطلق عليه «تقهرن» المدن المصرية، وهو نحت لمصطلح جديد، يعني مسخ روح المدن أمام نموذج القاهرة المركزي، والذي يفرض نفسه عمرانيًا وثقافيًا واجتماعيًا على مكونات المدن في الدلتا والصعيد على حد سواء.

نموذج القاهرة الطاغي والقاهر لغيره يبدو الأكثر حضورًا في قلب الثقافة المصرية. وهو نموذج قائم على العشوائية العمرانية؛حيث التخطيط شبه غائب، واحترام حق الطريق في ذمة الله، والشكل المعماري؛ حيث كل يبني كما يتفق، وبالشكل الذي يرغب فيه بلا أي معايير موحدة، والتشوه المؤذي للعين في واجهات المباني، التي يتفنن كل ساكن في طلاء ما يخصه بشكل مختلف، وثقافة الشارع؛ هي ثقافة عشوائية بامتياز، فالحركة فيه تبدو كأحد عروض السيرك القومي. كل هذا بالتوازي مع الرغبة في اعتناق قيم الرأسمالية الاستهلاكية، حيث ثقافة المطاعم والمولات حاضرة بقوة، مع اختفاء المكتبات وأماكن التريّض وغياب ثقافة الساحات العامة، مع خصخصة الأماكن العامة لصالح النمط الاستهلاكي؛ وفيه المكان لمن يدفع.

***

الأزمة أن نموذج القاهرة اكتسح وتم تعميمه في مختلف أنحاء القطر المصري. فالقاهرة تمثل المركز الساحق للأطراف، أي الأقاليم. أصبحت العاصمة النموذج الذي يطمح أبناء الأقاليم في تقليده واعتناق قيمه، حتى لو أدى ذلك إلى التخلي عما يميز كل مدينة بشكل محلى. فمدن الصعيد كما مدن الدلتا تبدو متشابهة موحدة بدون اختلافات جوهرية. حتى الضواحي الجديدة التي تبنى في هذه المدن تبنى على طراز ضواحي القاهرة؛ خصوصًا التجمع الذي أصبح النموذج الأعلى لكل أثرياء الريف المصري من الطبقات الصاعدة حديثًا.

المدهش أن ما يتم رمي الريف به من تهم بدأ أصلا في المركز القاهري ثم أعيد تعميمه على الأطراف. فظاهرة البناء على الأراضي الزراعية، مثلا، بدأت في القاهرة منذ الربع الثاني في القرن العشرين. المدهش أن العاصمة ابتلعت في عملية توسعها الأماكن الزراعية في شمالها وغربها بعد عبور النيل. وهي ظاهرة استمرت باطراد حتى يومنا هذا، ومنها انطلقت إلى مختلف المدن المصرية. فعملية “ترييف” المدينة كظاهرة بدأت من القاهرة أساسًا، التي توسعت وضمت مناطق ريفية بالأساس كان من السهل ارتدادها لمزيج مشوهة من التريف والتمدين مع فشل خطط التنمية. وانتقلت منها كمركز إلى الأطراف. والمدهش هنا أن سبب “الترييف” للعاصمة بدأ مع غياب التخطيط لاستيعاب الزيادة السكانية التي جاء جزء كبير منها من الهجرة من الأقاليم.

***

ذلك النموذج نطلق عليه “تقهرن” المدن، أي خضوعها وانقهارها أمام نموذج القاهرة وثقافته الغالبة والسائدة من ناحية، ومن ناحية أخرى يعني المصطلح تبني كل ما يقدمه نموذج القاهرة من أفكار عمرانية وثقافية واجتماعية على مستوى المعيشة والبناء وتفاصيل الحركة في المدينة التي تتحول هنا إلى قاهرة صغيرة أو قاهرة أخرى في الإقليم الطرفي.

هنا نرى عملية تقليد للنموذج الجامع لتناقضات الثقافة الحياتية المعاصرة. فالقاهرة الحالية مدينة تناقضات وعشوائيات بين استيراد قيم خارجية تعتمد الإبهار والبهرجة والضخامة كما هو حادث في الضواحي التي تعكس ثقافة استعارية من ضواحي المدن الأمريكية، وأجزاء من المدينة تتحلل وتفقد أصالتها مع ترك السلطات للمواطنين الباب على غاربه للبناء على الأراضي الزراعية وهدم المباني التراثية والتاريخية لبناء عمارات سكنية بلا أي ضابط.

تعكس ظاهرة «التقهرن» واقع المركزية المكثفة لمدينة القاهرة (وهنا نتحدث عن القاهرة باعتبارها إقليم عمراني يضم القاهرة والجيزة معنا، أي ما بات يعرف بالقاهرة الكبرى مع امتدادات في جنوب محافظة القليوبية)، فنتيجة لتجربة تاريخية متصلة، فشلت الدولة المصرية الحديثة في حلها، أصبحت القاهرة مركزًا للإدارة المصرية والاقتصاد والبحث عن وظيفة.

***

فهي المركز الذي يحتكر كل الامتيازات الإدارية والاقتصادية والثقافية والصحية والوظيفية. وبات على مواطن الإقليم أن يُيمم وجهه صوب العاصمة التي فيها كل شيء. وبطبيعة الحال، نقل المواطن الإقليمي ما رآه في القاهرة إلى محافظته باعتباره النموذج الأكثر إبهارًا والتعبير الصحيح عن التمدين والبعد عن قيم “الفلحنة” والريفية الممزوجة في المخيلة بالفقر والدونية. لذا تم التخلي عنها، ومعها فقدت المدن في مصر طابعها الخاص وبدأت تتبنى “القهرنة” وتبدأ رحلة “التقهرن”، أي التحول إلى نموذج مصغر لكل تناقضات القاهرة.

لا تختلف مدن مثل بلبيس أو كفر الشيخ أو بلبيس عن بني سويف أو المنيا أو سوهاج في تأثرها بنموذج القاهرة الطاغي. فقدت هويتها وخصوصيتها، وأصبحت في التحليل الأخير امتدادا للأجزاء شبه المتمدينة في الحاضرة الكبرى. لذا ستشعر وأنت في هذه المدن أنك في بعض أحياء القاهرة، ربما اللكنة فقط هي من تقول لك إنك في مكان غير القاهرة. فهذه المدن بلا طابع محلي؛ تخلت عنه عن طيب خاطر للالتحاق بركب القاهرة، واستلهام نموذجها. ولأن الأخير عبارة عن عشوائيات متلاطمة وكمبوندات معزولة وثقافة ريفية وفوضى شارعية، فقد انتقلت كسرطان في أنحاء القطر المصري. لذا يتم تعميمه بحجم أصغر لكن بنفس المعالم والمحددات (مع فارق أن الأمور في القاهرة أسوأ بسبب ثقل الكثافة السكانية).

***

ولأن بني سويف وقليوب وبنها الأقرب للقاهرة، كانت هي الأسرع في تبني النموذج واعتناقه. لكنها في لحظة انبهارها بنموذج القاهرة، نسيت أن تحافظ على هوية خاصة. ذابت ككويب وقع في قلب نجم هائل، وهو الأمر نفسه الذي نراه في مدينة مثل المنيا، التي تبدو قاهرية الهوى. وهو أمر يحتاج إلى تضافر القوى لوقف هذه الحالة والعمل على مواجهتها، للمحافظة على الطابع المحلي المنصهر في محيطه البيئي والجغرافي المستند على تاريخ تم هجره.

أمر لن يتم إلا بفك الارتباط مع العاصمة القاهرة، وتفكيك المركزية الشديدة والعمل على تنمية المراكز الإقليمية لوقف عمليات الهجرة الداخلية التي ساعدت في جانبها الإيجابي في صهر مكونات المجتمع المصري في بوتقة واحدة، وكأن الجميع يعيش في قاهرة كبيرة. لكن الجانب السلبي يعكس تراجع الخصوصية الإقليمية والتي تتلاشى أمام نموذج القاهرة الاستهلاكي المستورد في بيئة عشوائية محلية، ويعكس أيضا غياب خطط التنمية في الأقاليم بما يشمل إعادة الاعتبار المكون المحلي للمحافظات المهمش في الواقع المصري.

اقرأ أيضا:

«تلال الفسطاط».. حتى لا تكون الحدائق على جثة التاريخ

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر