الرسم بالرمال: «تراثنا» ملتقى الحرف اليدوية والتراثية
مساحات متجاورة أشبه بصناديق مفتوحة ذات حجم مربع، تعلو كل منها لافتة تشير إلى اسم المكان الذي جاء منه الفن المعروض بداخله. هذا هو المشهد الأول لزائر معرض “تراثنا” للحرف والفنون اليدوية، الذي استمرت فعالياته على مدار 7 أيام، بمركز مصر للمؤتمرات والمعارض.
مصر بأعين “تراثنا”
هذه المساحات المقسمة، كأنها أعادت تقسيم مصر بحسب أهمية فنونها اليدوية. إذ تبدأ للزائر بمدينتين يعدا الأكثر بُعدا عن القاهرة رغم أنهما الأكثر ثراءً في الحرف والفنون التراثية وهما “شمال سيناء” و”سيوة”.
بامتداد الممر الأول، خُصصت المساحات الأولى لمجموعة من الفنون المصرية الأصيلة والنادرة لمحافظات منسية من خرائط الحرف اليدوية. مثل “النحت على الحجر الرملي”، و”الرسم بالرمال الطبيعية” وغيرها من المنتجات والفنون.
رغم تشابه الخامات، ملابس، أقمشة مطرزة، منتجات غذائية. إلا أن بصمة أصحاب كل محافظة واضحة عليه. فالقماش على سبيل المثال مطرز بعشرات الأشكال يختلف تطريز “التوب السيناوي”. كما يطلقون عليه، عن “موتيفات ورموز واحة سيوة” عن ألوان ملابس أسوان المُبهجة.
فنون سيناء بدون سهير جلبانة
بمجرد دخول المعرض، يستقبل الزائر لافتة على اليمين تحمل صورة النائبة الراحلة و”بطلة سيناء” سهير جلبانة. إذ تشارك “جمعية الشابات المسلمات” التي أسستها منذ عام 1967 في المعرض بفنون شمال سيناء.
تقول ثناء القصاص، ابنة الراحلة سهير جلبانة والمدير التنفيذي لجمعية “الشابات المسلمات” بالعريش، إن هذه تعد المشاركة الرابعة لها بمعرض “تراثنا”. مشيدة بالتنظيم وطرق العرض التي على حد وصفها تصبح أكثر تطورا عاما بعد عام.
وتتابع لـ “باب مصر”: منتجات شمال سيناء تناسب جميع المراحل العمرية منذ عمر الرضيع حتى الجدة. وتقول: “طورنا طريقة العمل في الملابس مثل البنطلون الكوارزيه الفرنسي. لكن مُطرز بالتطريز السيناوي وذلك لمواكبة موضة الشباب”.
طعام وملابس سيناوية
لم تنس أيضا السيدات كبار السن والجدات، مثل الجلاليب والعباءات والشيلان التي تتسم بتطريز مميز يغلب عليها اللون الأحمر. وتستكمل: “التطريز في شمال سيناء يتم إتباعه من خلال إرسال الخامات للسيدة المعيلة في منزلها وبعد انتهائها من القطعة نقوم بمهمة التسويق. وبعد البيع يحصلن على المقابل وهن في المنزل دون مغادرته”.
هذه العملية طورت من الوضع الاقتصادي للسيدات في سيناء، على حد وصفها، على مدار أكثر 40 عاما. منذ أن أسستها الراحلة “سهير جلبانة”. وتقول: “كانت تعول وتحرص على السيدات خاصة المهاجرات من مناطق مختلفة وتأخذ أعمالهم لعرضها في المعارض من تنظيم السيدة جيهان السادات”.
بالانتقال إلى مساحة مجاورة لعرض فنون سيناء أيضا تحمل اسم “مزيونة”. سافرت “كوثر سليمان” خريجة كلية علوم زراعية هذه المسافة الطويلة للمشاركة في المعرض. سبقها أشهر من تجهيز المنتجات مع سيدات سيناء.
تشارك كوثر بفنون سيناء بالكامل، من التطريز والملابس والشيلان إلى المنتجات الغذائية أيضا. وتقول لـ”باب مصر”: “تعمل معنا الكثير من السيدات بأيديهن ومن المنتجات المميزة التي صُنعت وتشتهر بها سيناء، الزعتر الجبلي، ودُقة الزعتر، وزيت الزيتون المعصور على البارد، والعجوة، والزيتون المخلل”.
واحة الغروب
من “واحة الغروب” كما وصفها الروائي الراحل بهاء طاهر، جاء عبدالله يوسف، حاملا معه منتجات وأحلاما بوصولها إلى مصر بأكملها. هذه هي أمنيته قبل سنوات وعكف خلالها على تحقيقه.
يقول عبدالله من واحة سيوة وصاحب مشروع “سيوة للمشغولات اليدوية”، إن المنتجات المعروضة تتضمن أشغال يدوية مصل التطريز على الملابس، وأقمشة مُطرزة، ومنتجات من الخوص. وأخرى من الخزف.
وعن الاختلاف بين التطريز في سيوة وشمال سيناء، يقول لـ”باب مصر”: “فنون سيوة من المعروف عنها الاختلاف في شكل التطريز وموتيفات التطريز التي يتم استخدامها على الملابس وزى العروس. ونحن معروفون بالزى التقليدي باللون الأبيض أو الأسود والشيلان المُطرزة بخيوط الحرير”.
يتميز التطريز في واحة سيوة بالالتزام بألوان مميزة في الزى التقليدي لسيوة. وهي خمس ألوان تمثل مراحل نضوج البلح، “البرتقالي – الأصفر – الأخضر – الأحمر وأحيانا الأسود”.
أما سعف النخيل، يعد واحدا من أكثر الخامات الطبيعية المستخدمة في صنع كل ما يحتاجه المنزل وبطريقة صديقة للبيئة. ويتابع: “واحة الجارة بعد واحة سيوة بحوالي 120 تشتهر بإنتاج السلال من الخوص والمنشات والقفف وغيرها من المنتجات”.
لم تخلو جعبته من المنتجات الغذائية. حيث جلب معه “كنز الواحة” كما أطلق عليه، مثل: “النعناع السيوي – الحبق – حشيشية الليمون – اللويزع – الملوخية المجففة الشهيرة في سيوة – الكركديه – والبلح السيوي”. كذلك بعض قطع الديكور المُصنعة من الملح الطبيعي.
النحت على جذوع النخيل
خلال التجول في المعرض قد تتكرر المنتجات أو الأفكار المعروضة باختلاف أصحابها. لكن واحدة من الفنون النادرة، هي النحت على جذع النخيل، يقف “عادل محمود” بجوار منحوتاته التي تتسم بشكل لا يشبه الخشب ولا الطين.
يصف عادل محمود الشهير بـ”عادل العمدة” نفسه بأنه فنان بالفطرة. استخدم خامة مميزة مستوحاة من الوادي الجديد حيث يعيش، وهي جذوع النخيل.
ويقول لـ”باب مصر”: “بدأت النحت على جذوع النخيل قبل 20 عاما. عملت على تطوير هذه الخامة وتجهيزها للمنتج الخاص بي، من خلال خطوات تهدف للمعالجة الطبيعية. ويتم قطع جذوع النخيل في موعد واحد في العام ثم يجمعها ويقطعها ويتركها تجف في الشمس فترة لا تقل عن 6 أشهر”.
بهذه الطريقة يكون قد أهّل جذوع النخيل للنحت عليها. ويستكمل: “لا أنحت إلا أشكال تراثية واحاتية ونحت أشكال أخرى من تراث مصر، لتعزيز ثقافتنا كمصريين والاعتزاز بها وترك فرصة للأجيال القادمة لمشاهدة تراثهم بعد رحيلنا”.
يصف جذوع النخيل أنها خامة طبيعية، صحية، خفيفة الوزن وسهلة الانتقال. مشيرا إلى قدرته لنحت أي شكل عليها سواء تراثي أو ديكور. ويوضح: “البعض يعتقد أن النحت على جذع النخيل أكثر سهولة من الخشب. لكن في الحقيقة هو أصعب لأنها خامة بحاجة إلى معاملة وظروف خاصة لاحتوائها على نسبة عالية من الألياف”.
الرسم بالرمال الملونة طبيعيا
لا يخلو المعرض من الفنون التي تنفرد بها الوادي الجديد. إذ تعرض العديد من اللوحات عند النظر إليها من بعيد قد تعتقد أنها رُسمت باستخدام خامة مثل “الباستيل” لكن اللون أكثر وضوحا عنها، وبمجرد لمسها تجد ملمس خشن للوحة. هذه اللوحات رُسمت بالرمال الملونة طبيعيا.
تقف شيماء أحمد وهبة ابنة الفنان بالفطرة أحمد وهبة، رائد الرسم بالرمال في محافظة الوادي الجديد، تعرض عشرات من لوحاته باختلاف ألوانها. إلا أنها تتسم في التعبير عن مشهد تراثي مصري.
تتحدث شيماء عن فن والدها وتقول: “يرسم أبي باستخدام الرمال الملونة طبيعيا. إذ تتسم محافظة الوادي الجديد بوجود الأحجار ملونة طبيعيا، نقوم بجمعها ثم طحنها وتصفيتها واستخلاص الرمال الناعمة منها للرسم بها وتكون ملونة بكل الدرجات دون إضافة صبغة أو مواد صناعية”.
كان والدها خطاط لكن لاحقا أصبح واحدا من أشهر فناني الرسم بالرمال. وتضيف: “لم يقتصر رسم أبي على اللوحات فقط. لقد شعر أن فنه أمانة لهذا يحرص باستمرار على تدريب الشباب وتعليمهم طرق الرسم بالرمال الطبيعية والأبعاد والمساقط والظل والنور”.
لوحة تجاور أخرى تتسم جميعها في رسم مشهد أمام منزل. وكما أوضحت شيماء يعمل والدها على توثيق البيوت في الوادي الجديد التي بُنيت من عشرات الأعوام والطوب اللين. وتصفه: “هذه البيوت تراث واحاتي أصيل”.
واحدة من تلاميذه شاركت بأعمالها في المعرض. وتقول سماح التركي، إنها تشارك بفن الرسم بالرمال الطبيعية لكنها طورته للرسم على الخوص وخامات أخرى طبيعية.
فنون الوادي الجديد
على عكس أعمال الفنانين بالفطرة المشاركين في المعرض، تجلس سيدة ممسكة في يدها اليمنى أداة حادة واليد الأخرى تحمل بها حجرا رمليا صلبا. بدت كأنها تستكمل نحتها.
تعرف أمل منصور نفسها بأنها فنانة تشكيلية ونحاتة من الواحات الداخلة في محافظة الوادي الجديد. وتقول إنها الوحيدة التي تنفرد بفن النحت على أحجار الرمال، وتقول: “النحت على الحجر خامة صعبة وهي خامة لا يرغب أحمد في العمل بها، لكنني أحب التحدي وأحول كل صخرة رملية إلى قطعة فنية تروي تراث واحتنا”.
التراث بلمسة حديثة
واحدة من الأفكار المواكبة للعصر في معرض “تراثنا” هي عرض منتجات تراثية لكن بشكل حديث، أو “مودرن”، سواء لقطع الديكور أو المفروشات أو الملابس، ومن بينهم المهندسة سهير سراج الدين التي تشارك بمشروعها “آرتيستيك”.
تخصصت في الأثاث وإكسسوارات المنزل، لكن أسلوبها المتبع يتسم بطرق التعتيق، سواء تصميمات جديدة أو أخرى مخصصة للعميل، إذ تعمل بمبدأ “القطعة الواحدة” لكل عميل تصميم وتنفيذ مخصص مستوحى من التراث سواء النوبي أو السيناوي أو غيره.
وتقول: “أصف عملي أنه تراثي لكن بلمسة عصرية، ويتم إتباعه بطريقة مختلفة وهي استخدام موتيفة واحدة على سبيل المثال من التراث المحدد، زهرة اللوتس من الحضارة الفرعوني، وليس كل الرموز ونستخدمها في تطوير المنتج وتغيير الألوان”.
خوص ليبيا في مصر
بالانتقال في المعرض، يوجد خمس أماكن مخصصة لخمس دول مشاركة وهي المملكة العربية السعودية، السودان، ليبيا، الإمارات العربية المتحدة والأردن.
يجلس يحيى عبدالعظيم الكرغلي، عارضا أمامه العديد من المنتجات المصنعة يدويا من الخوص وإكسسوارات قماشية بألوان مزركشة، لولا اللافتة الموضحة “ليبيا” أعلاه يكاد الزائر يُصنفها أنها مصرية.
ويقول عن مشاركته الأولى في معرض “تراثنا”: “المعرض نال إعجابي بشدة وتتشابه منتجاتنا مع الكثير من المنتجات من مصر لكن البصمة الليبية والتراث الليبي يكون واضحا في اختيار الألوان وطريقة تصنيع الخوص”.
واستكمل: “تواصلنا مع العارضين لتطوير منتجاتنا وتسويقها، وأعتبرها فرصة للحرفيين ورواد الأعمال في ليبيا حتى تعود بالفائدة على الأسر، وعملنا من السعفيات أو الخوص قد تبدو متشابهة مع منتجات مصر اليدوية لكن لكل مكان بصمته الخاصة”.