تدمير «الحوض الجاف».. لكن «الطابية» لا تزال بخير!

شهدت مدينة الإسكندرية هدم «الحوض الجاف» بطابية الدخيلة، الذي يُعدّ من أبرز المعالم التراثية المسجلة كأثر إسلامي بالمدينة. هذا الموقع، الذي يمتد تاريخه إلى فترة المماليك، كان جزءًا من سلسلة الطوابي العسكرية الدفاعية التي لعبت دورًا حاسمًا في حماية المدينة خلال الحقبات التاريخية المختلفة، بما في ذلك التصدي للهجمات البريطانية على الإسكندرية.

أيقونة تاريخية

يُعد “الحوض الجاف” في الإسكندرية أحد أبرز المواقع التاريخية التي تنتمي إلى فترات تاريخية متنوعة. إذ يعتبر جزءًا من العمارة المملوكية التي اختفت بشكل كامل، ولم يتبق منها شيء عدا هذا الموقع.

رغم تسجيله كأثر إسلامي وحمايته بالقانون، فقد تم هدم هذا الموقع بدون إعلان واضح أو تفاصيل دقيقة حول الأسباب وراء هذه الخطوة. وكان الحوض الجاف، الذي تعود أهميته إلى دور المدافع. والعمارة الدفاعية التي شُيدت في عصر محمد علي وأحمد عرابي، من الأيقونات التاريخية التي تروي قصة مقاومة الإسكندرية في زمن الحروب.

المفاجأة الكبرى تكمن في عدم وجود خطة ترميم واضحة على الرغم من التوصيات السابقة التي دعت إلى تقوية الجدران ومعالجة المدافع من الصدأ.

هدم آثار الحوض الجاف بالدخيلة

على مر السنوات تعرض الموقع لعمليات تهميش، إذ تُرك هذا الأثر للخراب والإهمال حتى أُزيل من الوجود، ما يطرح علامات استفهام حول كيفية تعامل وزارة الآثار مع المواقع التراثية. تواصل «باب مصر» مع مصدر مسؤول بوزارة الآثار بمنطقة الإسكندرية، وقال إن الهدم تم في منطقة آثار الحوض الجاف بالدخيلة، وليس الخندق، وبسبب الهدم ومصير المنطقة تُجرَى حاليا تحقيقات داخلية بوزارة الآثار.

وأشار المصدر – الذي رفض ذكر اسمه – إلى أن منطقة آثار الحوض الجاف بالدخيلة منفصلة عن طابية الدخيلة، وتسمى بالحوض الجاف أو مرسى القناطر أو القنايات، وهي مسجلة أثر إسلامي بقرار وزير الثقافة والإرشاد القومي رقم 214 لسنة 1964م.

فيما أشار مصدر آخر بوزارة الإسكندرية إلى أنه لم يصدر قرارا رسميا بالهدم، ولم يتم تبليغهم بهذا القرار.

ترجع المنطقة الأثرية إلى العصر المملوكي، أما عمرها غير محدد على وجه الدقة، وكان مرسى لإصلاح وبناء سفن القنايات وهو نوع صغير من السفن يستخدم لحفر وتطهير الخليج الناصري يعود للعصر المملوكي على وجه التحديد. ويتابع المصدر لـ«باب مصر» أن الحوض له أهمية في صيانة السفن المخصصة لتنظيف القنوات المائية والترع والميناء والخليج الناصري.

آخر الآثار المملوكية بالإسكندرية

يروي المهندس المعماري د. محمد عادل الدسوقي، كواليس ما حدث، ويقول: “دخل “بلدوزر” موقع طابية الدخيلة الأثري، وأزال أجزاءً كبيرة من الموقع الأثري، وجزء آخر من “الحوض الجاف”. وأزالوا مدفعين أرمسترونج الذي يتجاوز عمره 150 عاما، من الموقع رغم حفظهم به على مدار سنوات طويلة، وهما مدفعين مردومين، تم تنظيفهما في عام 2004 وظلا في نفس أماكنهما”.

ويقول في تصريحات خاصة لـ«باب مصر»: “قبل سنوات أزالوا مدافع أيضا من الطوابي العسكرية الموجودة في الإسكندرية لوضعها في المتحف الحربي وتركوا مجموعة أخرى في أماكنها، مثل طابية كوسا باشا ومدافع بقلعة قايتباي”.

اشتراطات إزالة وهدم أثر

ويتابع الدسوقي: الأسئلة التي يتم طرحها حول هذا الموقع لا تزال بلا إجابات واضحة. لم نعرف بعد من الذي قام بهدم هذه المعالم. كما أن هناك غموضًا كبيرًا حول مصير المدافع التي كانت موجودة في الموقع. إلى أين ذهبت أو من قام بنقلها؟! علاوة على ذلك، يظل السؤال حول من منح الإذن لهؤلاء الأشخاص لدخول الموقع وإجراء أي تعديلات عليه دون الحصول على الموافقات اللازمة، مسألة غير واضحة.

وعلى حد وصفه، تُعتبر الآثار جزءًا من التراث الثقافي والإنساني، ومن غير المقبول أن يتم التلاعب بها أو المساس بها. ويوضح بشأن تاريخ وآثار الإسكندرية: “لا يحق لأي شخص أن يمسّها أو يضيف إليها أي تعديلات، مثل دق المسامير فيها أو تغيير أي من ملامحها”.

ويقول: “عندما يتم إزالة جزء من أثر تاريخي، لابد من الحصول على رأي اللجنة الدائمة للآثار، وهو ما يجعل عملية الإزالة معقدة وتتطلب موافقة رسمية. ومع ذلك، لم يظهر حتى الآن أي قرار رسمي بشأن هدم هذا الأثر والدوافع وراء ذلك، رغم أنه من المفترض أن يكون محميًا بالقانون”.

يستطرد الدسوقي: “تمت إزالة أجزاء من هذا الأثر الذي يعدّ الأقدم والأكثر قيمة. وبما أنه قد تمت إزالة أجزاء منه، فإن المسألة تتعلق بوقت فقط قبل أن يتم إزالة المزيد. ولكن لا أحد يعرف إلى أين تتجه الأمور؟ لقد هدمت أجزاء كبيرة ومهمة وتمت إزالة المدافع أيضًا”.

مشروع بميناء غرب الإسكندرية

ويوضح المعماري محمد عادل، أن منطقة الدخيلة تابعة للإسكندرية، ويوجد في الغرب، ميناءان، هما ميناء الغربية وميناء الدخيلة، وبينهما حي المكس.

ويتابع لـ«باب مصر»: “هناك مشروع يفترض أنه يدمج الميناءين دون تقديم تفاصيل أو رسومات واضحة. نخشى أن يتسبب هذا الدمج في إزالة أجزاء مهمة من حي المكس والفنار الشهير. حيث يقع في نفس المنطقة بين الميناءين، ويتم الوصول إليه عبر جسر. وقد ظهر في أفلام عديدة وتم توثيقه بأكثر من طريقة”.

لكن بمنطقة طابية الدخيلة، مثلما يحدث عادة، ترك هذا الجزء حتى أصبح مليئًا بالمشاكل مثل تعاطي المخدرات، وتدخلت وزارة الآثار عدة مرات لتنظيفه وإعادته إلى وضعه الطبيعي. رغم ذلك، لم يتم استغلال هذا الأثر بشكل صحيح، ويشار إليه بمصطلحات تقلل من قيمته مثل «خرابة» أو «شوية طوب». ويقول: “إن تقصير الدولة في حماية هذا الأثر هو ما تتحمل مسؤوليته، وليس أي طرف آخر”.

 تاريخ قلاع الإسكندرية

تمتد قلاع الإسكندرية الضخمة شرقًا من أبو قير حتى العجمي والدخيلة، وهي جزءًا هامًا من تاريخ مصر. ومعظم هذه القلاع مسجلة كآثار، ولها تاريخ طويل يرتبط بالاحتلال الإنجليزي والحملة الفرنسية.

خلال فترة محمد علي، تم إجراء أعمال صيانة لهذه القلاع على يد المهندس الفرنسي الشهير جليز بيه، الذي أسهم في تحديث العمارة الدفاعية في الإسكندرية. كانت هذه القلاع تمتد على طول شريط الساحل لتوفير حماية للمدينة من أي تهديدات. إحدى هذه القلاع، رغم أنها ليست الأكبر أو الأضخم، تعتبر مهمة للغاية. فهي تعود إلى العصر المملوكي وتكتسب أهمية خاصة لأنها كانت تستخدم لصيانة المراكب والحفارات، وهي أقدم بكثير من الحملة الفرنسية وفترة محمد علي.

هذا الموقع يعرف بـ«الحوض الجاف»، وهي تسمية غير دقيقة، لأن الموقع كان ميناءً مخصصًا لصيانة المراكب التي كانت تستخدم في حفر موانئ الإسكندرية منذ أيام المماليك.

الهدم ونقص الشفافية

من جانبه ندد الدكتور محمد الكحلاوي، أستاذ الآثار الإسلامية ورئيس اتحاد الآثاريين العرب، بهدم “الحوض الجاف” الأثري. إذ يقول في تصريحات خاصة لـ”باب مصر”: “لقد شكل إعلان هدم المواقع الأثرية والتراثية مفاجأة كبرى لنا. شهدنا إزالة مقابر باب النصر والمواقع المجاورة لها، بما في ذلك المواقع الأخرى. وتعاني الدولة من نقص في الشفافية حول خططها ومشاريعها المتعلقة بالمواقع التراثية. هناك تساؤلات حول ما إذا كان هناك مشروع غير معلن نجهل تفاصيله. حيث تدير الدولة شؤون هذه المواقع بشكل غير متاح لنا الاطلاع على تفاصيله”.

ويستكمل: “كمختص في الآثار، أعارض بشدة أي أعمال تؤدي إلى تدمير المواقع التراثية، مهما كانت مبررات التطور في مناطق أخرى من مصر”. ويرى أن المواقع الأثرية لا يجوز التعامل معها بشكل عشوائي، مشيرا إلى أنه يجب أن تكون الدولة على وعي بالمخاطر المحتملة من جانب منظمة اليونسكو، التي تراقب حالة التراث العالمي.

وتساءل الكحلاوي عن سبب الهدم، قائلا: “هل تم تقديم اعتراضات على توسعة الشاطئ أو هدم أي مواقع تراثية؟ إذا كان هناك تسجيل رسمي لهذه المواقع، فإن التأخير في التحديث والتسجيل قد يكون نتيجة لعدم وجود ميزانية كافية. على الرغم من أهمية التسجيل والترميم لحماية التراث. حتى لو كانت المواقع مسجلة، فإن لجنة التسجيل قد تواجه مشاكل في تقديم طلبات الوزارة. حيث قد يتصرف المسؤولون بشكل متباطئ بسبب المحسوبيات”.

مدافع أرمستورنج من الحوض الجاف بالدخيلة في الإسكندرية
مدافع أرمستورنج من الحوض الجاف بالدخيلة في الإسكندرية
طوابي الإسكندرية ومشروع الاتحاد الأوروبي

قبل عشرين عاما، لفتت الطوابي والقلاع على طول سواحل الإسكندرية اهتمام الاتحاد الأوروبي. وتم اختيار الدكتور أحمد السيد الصاوي، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة، رئيسا للجنة حصر جميع القلاع والطوابي على سواحل الإسكندرية.

يقول الصاوي في تصريحات خاصة لـ«باب مصر»: “الطوابي المعنية كانت جزءا من سلسلة اهتمام الاتحاد الأوروبي. والذي عمل على تطوير الطريق الساحلي بين دول شمال إفريقيا. وفي عام 2004، ترأست لجنة متخصصة قامت بحصر جميع القلاع والطوابي الممتدة على طول الطريق حتى منطقة العجمي. وقد شمل الحصر أيضًا المدافع واحتياجات الترميم، وتم تسليم تقرير مفصل حول ذلك إلى وزارة الآثار”.

ويستكمل: “سواء كانت كل الأماكن مسجلة ضمن قوائم الآثار أم لا، لكن لا شك في أهميتها التاريخية. فقد كانت جزءًا من خط الدفاع ضد الاحتلال البريطاني في الإسكندرية، ولها تاريخ يعود إلى أيام محمد علي. حيث خضعت لتطويرات إضافية خلال فترة أحمد عرابي لمواجهة الغزو البريطاني”.

ويرى أنه إن كانت هناك نية لهدم هذه الطوابي، فكان من الضروري إجراء حوار مجتمعي حول كيفية الاستفادة من الموقع. في الوقت نفسه، تعتبر المدافع من نوع “أرمسترونج” ذات أهمية تاريخية كبيرة. حيث استخدمت في التصدي لهجوم الأسطول الإنجليزي على الإسكندرية عام 1882، ولها قيمة تاريخية وأثرية كبيرة يجب الحفاظ عليها، على حد وصفه.

موقف اللجنة الدائمة للآثار

وتابع الصاوي: اللجنة الدائمة للآثار لم توضح موقفها إن كانت قد اتخذت قرارا بشأن هذه الطوابي أم لا. ومع ذلك، أرى أن الوضع مقلق للغاية. كان من الممكن التصرف بطرق متعددة للحفاظ على هذا الموقع التاريخي. إلا أنه ترك للإهمال طوال الفترة الماضية دون اتخاذ أي خطوات جدية لترميمه. على الرغم من التوصيات التي كانت تشير إلى ضرورة ترميم وتقوية الجدران ومعالجة المدافع لحمايتها من الصدأ”.

ويوضح أن هذه الطوابي جزءا هاما من تاريخ نضال مصر، وقد أثرت بشكل كبير في مجريات الأحداث. ولعبت دورًا حاسمًا في مقاومة الأسطول البريطاني. مما اضطر الجنود إلى البحث عن مخرج آخر عبر قناة السويس بوساطة ديلسبس، بدلاً من محاولة دخول المدينة عبر الإسكندرية.

اقرأ أيضا:

سلسلة عاشت الأسامي|”طابية الدخيلة” من حصن إلى “خرابة”

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر