«تحية كاريوكا» في أوراق قديمة منسية: سر حربي

في عام 1964 استحدث فتحي غانم بابا في مجلة «صباح الخير» بعنوان «أوراق قديمة منسية» استكتب فيه العديد من نجوم المجتمع في شتى المجالات الأدبية والصحفية والفنية والرياضية والسياسية، ليكتبوا بعضا من ذكرياتهم القديمة المنسية أو ورقة من سيرتهم الذاتية لا يعلم عنها أحد شيئا، فكان الباب نموذجا للسيرة الذاتية للعديد من المشاهير. هنا نزيل الغبار عن هذه الأوراق القديمة لنخرجها من بؤرة النسيان التي طالتها داخل أوراق الدوريات لتصبح أوراقا غير منسية. هنا أوراق الفنانة «تحية كاريوكا».
أكثر من ورقة قديمة يمكنني أن أستعيد سطورها هنا، وفي كثير منها جوانب طريفة غاية الطرافة، وفي غيرها جوانب مريرة لمرارتها مذاق كفاح أي فنان في سبيل تأكيد فنه وإعلاء قيمة الفن في حياتنا. لكن الجدير بالوقوف عنده من حياتنا الفنية، بل حياتنا بصفة عامة، هو ما كان للفن قبل عام 1952 وما تطور إليه بعد هذا العام، عام التحول في حياتنا.
ربما كان قراري بإعتزال الرقص والتفرغ للتمثيل قد تأخر تنفيذه بضعة أعوام بسبب النظرة الجديدة للفن والدور الفعال الذي أصبح له في حياتنا الجديدة عام 1952.
***
ولا أحسبني أحسست يوما بقيمة الفن للحياة الإنسانية كما شعرت في ذلك اليوم الذي انطوت عليه ورقة من أوراقي القديمة. كانت إدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة قد دعتني مع مجموعة من الفنانين للقيام بجولة للترفيه عن قواتنا المسلحة المرابطة على الخطوط الأمامية في مواجهة إسرائيل، وتحرك بنا الأتوبيس في ساعة مبكرة من القاهرة، وكان معنا فناننا الكبير محمد عبدالمطلب ونجوم “ساعة لقلبك”. فكانت الرحلة بالتالي ممتعة للغاية، ضحك وغناء طوال الطريق. ووسط هذا الجو المرح كان ينتابني إحساس المقاتل المتجه إلى أرض المعركة، وكم زودتني اللحظات التي توقفناها في الإسماعيلية بمشاعر الحماس والحب.
وذلك أن أهل المدينة التي ولدت ونشأت فيها قد استقبلوني بترحاب كبير كان فيه شحنة قوية من هذا الحماس والحب. وبعد أن تجاوزنا الإسماعيلية، بدأنا نتوقف عند كل موقع ليخرج إلينا الجنود من خنادقهم وخيامهم ويلتفوا حولنا لنقدم لهم بروجراما سريعا على مسرح ميدان كان يقام لنا فوق عربة من عربات الجيش او فوق ربوة عالية، إلى أن وصلنا العريش. وهناك أمضينا ليلتنا الأولى للتحرك في صباح اليوم التالي إلى رفح ثم إلى غزة.
***
وفي الطريق إلى رفح وأثناء توقفنا بأحد المواقع، أسرَ إليّ ضابط الشؤون العامة المسؤول عن رحلتنا بأن إسرائيل قد بدأت في بعض الأعمال الاستفزازية ضد قواتنا وأنهم ضربوا بالقنابل المدرسة التي كان مقررا أن نقيم بها في غزة. وقال لي أيضا إنه قد صدرت الأوامر بإيقاف رحلتنا وإعادتنا فورا إلى القاهرة، وقد كانت هذه المناوشات الصهيونية هي بداية الاشتباكات التي امتدت على أكثر من موقع في الشهور الأخيرة من عام 1955. وطلب مني ضابط الشؤون العامة ألا أخبر أحدا من زملائنا بالأمر. وانتابني إحساس بالمسؤولية عن سر من الأسرار الحربية! وكان هذا الإحساس دافعا إلى مزيد من الجهد في الترفيه عن قواتنا.
كنت بسبب جو الصحراء قد أصبت بأنفلونزا حادة، إلا أنني وسط هذا الجو الحماسي استطعت أن أقاومها بعزم شديد جعلني أرقص وسط الصحراء وكأنني في مسرح مكيف الهواء. حتى أنه في أحد المواقع القريبة من رفح، عندما طلب مني الجنود أن ألبس بدلة الرقص، لم أتردد لحظة واحدة ولبستها داخل إحدى الخيام وخرجت لأرقص مع غناء محمد عبدالمطلب. وأقسم أنني لم أشعر بالرقص كفن له قيمة قدر ما شعرت في هذه اللحظات التي كانت الأنفلونزا تهزني خلالها، ولكن طغى عليها إحساس أقوى من المرض.
كنت أرقص على قطعة أرض محاطة بحقل ألغام، يقع بينها وبين المستعمرة الإسرائيلية التي تقع بالقرب منا، وكان هذا في حد ذاته كافيا ليغمرني هذا الشعور ويطغى على الإعياء الذي ينتابني.
***
بعد أن أنهينا بروجرامنا وبدأنا نستعد لركوب الأتوبيس للعودة إلى العريش، قاطعين رحلتنا إلى رفح، اكتشفنا أن أحمد الحداد غير موجود، فبدأنا البحث عنه إلى أن عثرنا عليه في خيمة متربعا على الأرض بين مجموعة من الجنود الصعايدة الذين أصروا على الاحتفال به وتكريمه بكوب من الشاي. أمضينا ليلة ثانية في العريش، أقمنا خلالها حفلتين وبتنا في إحدى المدارس لنصحوا مبكرين استعدادا للعودة إلى القاهرة.
كان الجو جميلا جدا في ذلك الصباح عندما ركبنا الأتوبيس وغادرنا العريش آسفين لعدم إتمام رحلتنا. وبعد أن تجاوزنا العريش ووسط الصحراء، هبت عاصفة عاتية لم نكترث بها في بادئ الأمر، إلا أننا بعد قليل فوجئنا بأن الرياح قد غطت الطريق المرصوف بالرمال، مما أصبح متعذرا معه أن يواصل الأتوبيس رحلته. غاصت عجلات الأتوبيس في الرمال، ونزلنا ندفع الأتوبيس ونجمع الحجارة من الصحراء لنضعها تحت العجلات ولكن دون جدوى. بدأ الجو يظلم ونحن في أول النهار وامتلأت عيوننا بذرات الرمال، ونال منا التعب لكثرة ما حاولنا في زحزحة الأتوبيس من مكانه.
***
وفي هذه الإثناء، بينما أتطلع حولي، لمحت شبحا أسود يتحرك على بعد غير قليل منا، عرفت أنه القطار، وعلى الفور صحبت واحدا من زملائنا وظللنا نجري عبر الصحراء في اتجاه شريط السكة الحديد عند موقع نستطيع الوصول إليه قبل وصول القطار. وفعلا وصلنا إلى شريط السكة الحديد، وخلعت البالطو الذي أرتديه ووقفت ألوح به للقطار، ولم أشعر بالتعب يحل بي إلا عندما تأكدت أن سائق القطار قد رآني وبدأ يوقف القطار. عندئذ، وكما يحدث في أفلام المغامرات، خارت قواي فجلست على الأرض ووضع زميلي البالطو فوقي لأني كنت بدأت أرتجف، فجرى ليعود ببقية زملائنا الذين كانوا قد حملوا أمتعتهم وقدموا وراءنا.
وقف القطار ونزل منه جنود كثيرون، صحبوني إلى داخله، وقابلوا زملاءنا فعاونوهم في حمل حقائبهم وأركبوهم القطار. واستأنف القطار سيره، وقدم لنا الجنود الشاي وبدؤوا يغنون لنا مواويل صعيدية، وأشاعوا جوا من المرح أخرجنا من حالة الإعياء التي كنا فيها جميعا. وتحولت عربة القطار التي تضمنا إلى مسرح، ما لبثنا أن اضطررنا إلى نقله لعربة أخرى وعربة ثالثة حتى وصلنا القاهرة. ورغم أنني مرضت بعدها أياما، إلا أنني ظللت وسأظل أذكر أولئك الأبطال الذين لم نتحمل ليومين اثنين الجو الذي يعيشون فيه، وجعلتنا قوة احتمالهم نستشعر العزم في كل عمل نقوم به مع الإحساس الدائم بمسؤولية الفن.
17 ديسمبر 1964