تحولات الإسكندرية: شرفات تكدير الهواء الطلق
لابد أن تطوقني مشاعر الفقد، حينما شهدت الإسكندرية التي عرفها العابر والمقيم، ذات ملامح وقسمات متوجة بالأصالة والعراقة، موسومة بسحر وجلال أخاذ عبر عهود عديدة. أفصحت في الآونة الأخيرة عن اضمحلال وذبول طال كل زاوية مضيئة من ربوع المدينة، بفعل استباحة يومية، حيث استوطنت مشاعر الغربة والعزلة عديد من عشاق الثغر.
وما روجته المنابر الرسمية من تدابير أعلنت عن تجميل وإعمار البنايات العتيقة والأحياء الراقية، وشوارع الأسفلت الملساء، وإحياء أطلال قيد الاندثار، تدرك جيداً أن ما يحدث ليس سوى تهذيب زائف.
***
اجتاحتني تلك التأملات إثر ما جرى لبعض أماكن الترفيه والمتعة التي ظلت معطلة زمناً طويلاً، مثل المقاهي والكازينوهات والحدائق والشواطئ التي سكنها الهدوء والسكون والطمأنينة، وطرقها عديد من النفوس. جرت عليها تجديدات نوعية أخرى أطفأت إشراقات الروح التي أثرت تلك الأماكن، حيث تبددت الهوية الجمالية وما خص التفرد المطبوع. أحدثت التحسينات التي أسرفت في فوضى بذخ رث وبريقا شاحبا، فصارت نوافذ للترف الصاخب بعد أن كانت تزهو بالحيوية والنضارة الآسرة.
ردني كل ذلك، إلى أن أطالع وجوها زاهية للمدينة، حيث ترددت طويلاً على كافة تلك النوافذ. فعرفت صالة “ڤينوس” للشاي بشارع فؤاد الكائنة ببناية حزب الوفد، والتي تميزت بلافتة “شاي الساعة السادسة” التي تصدرت الواجهة الزجاجية والملاصقة لـ”حلواني ڤينوس”، حيث قرأت وكتبت في أحد أركان الصالة المتسعة والمعبأة بالصمت. اتسمت الصالة بسكون غامر، وموائد رخامية متناثرة، وليس غير موسيقى هادئة تتسرب بأرجاء المكان وهمس عشاق يتطارحون الهوى. لكنها جرت عليها التبدلات وصارت فرعاً لمطاعم “فول” محمد أحمد ثم أغلقت بعد ذلك.
وهذا ما حدث لمقهى البلياردو “بالاس” بشارع صفية زغلول لصاحبه “ڤاسليادس باسيلى”، مقهى رحب تكسو جدرانه المرايا العريضة، ذات درج وساحة هائلة اكتست ببساط الخوج الأخضر، حيث تفرقت ترابيزات البلياردو. في السبعينيات، عرفته صحبة هوت الآداب والفنون وصار ملتقى لنا. وآل بعد ذلك لأحد سلاسل كارفور بالإسكندرية.
وقريباً من محطة مصر (سكك حديد الإسكندرية)، كان مقهى المطافئ لدنوه من وحدة المطافئ، وصار في الستينيات مقرًاً لرابطة الأدباء الشبان التي عرفت محمد حافظ رجب صاحب عربة التسالي بجوار سينما ستراند بميدان سعد زغلول وإبراهيم الوردي الذي كان يكتب الزجل ويعمل لدى حلواني فريال وآخرين من هواة كتابة القصة والشعر من بسطاء العمال.
***
وتدبير آخر جرى لمقهى “باسترودس”، الذي يعد رمزا تاريخيا بمحطة الرمل، بإطلالته على شارع فؤاد وأخرى تطل على ميدان سان سابا (الكنيسة التاريخية)، والمجاور للمسرح الروماني، حيث صار مطعماً شهيراً “أبو السيد” ثم كافتيريا ذات قاعة فاخرة، حتى طمست معالم المقهى. كما أصبح ميدان وداد شلبي إحدى عضوات الحزب الوطني بمجلس الشعب.
وطال التجريف كافتيريا «على كيف» ذات النوافذ الزجاجية العريضة اللامعة ببناية سينما ستراند، حيث عرفها نجيب محفوظ الذي كان من روادها، فصارت أحد منافذ ماكدونالدز بميدان محطة الرمل. وكذلك مقهى مصر (قهوة وبار وبلياردو) في 48 شارع صفية زغلول ببناية سينما “ريالتو” التي تهدمت أيضاً، وأصبح المقهى أحد المطاعم الشهيرة.
ونالت التحولات من المطعم الاقتصادي «بنياكى» الذي كان جمعية خيرية بشارع الإسكندر الأكبر بالشاطبي.
وشهد الكورنيش الممتد عددا من المقاهي والكازينوهات التي مثلت رئة للمدينة، عرفتها نسائم البحر في الصباح والليل، مثل “مونت كارلو” بالشاطبي، والحمامات التي أطلت على الشاطئ، وإطلالة كازينو “بانوراما” بكامب شيزار، وفندق وكازينو الشانزليزيه بلوران حيث تصدرت لافتة “ركن توفيق الحكيم” بقاعة فسيحة شهدت في السنوات الأخيرة ملتقى كتاب وأدباء الثغر، ومقهى “ميرامار” لصاحبه «انستاسيادس» 234 متنزه الملكة.
ولم ينج مقهى “كريستال” من التدمير أيضاً حتى صار تلاً من الخراب. اكتسب المقهى الضخم بساحاته العريضة المتسعة صوتاً خاصاً وآسراً آنذاك، لتنوع رواده من أرباب المعاشات والشباب مروراً بزمن الفنانين والكتاب منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث اجتذب أصوات التجريب في الأدب والمسرح والسينما، وشهد ميلاد تلك التجارب الأدبية والفنية والتي تجسدت على مسرح درويش وأروقة قصور الثقافة، الحرية والأنفوشي وعلى عرفها حشود من محاسيب الفن والثقافة الجادة.
***
وقبالة البحر بمحطة الرمل، يربض كازينو “أتينيس”، البناية العتيقة الشاهقة ذات الطابق العلوي والطابق السفلي وصالاته المتسعة ذات الدرج، حيث شهد أمسيات الرقص والموسيقى بصحبة شرائح الأرستقراطية المصرية وبعض فئات من الجاليات الأجنبية التي عاشت في الإسكندرية. حيث فاضت بألوان من البهجة والمرح حتى شقشقة النهار، وماثل غيره من أماكن ظلت تبعث الغبطة والسعادة، فتراوح بين نشاط آخر أو إغلاق، غير أن الذاكر ما زالت تعيد سيرتها الأولى.