تحفة سينمائية من نادين خان: «أبوصدام».. فن تشريح الرجل!
في فيلمها الثاني “أبوصدام”، المشارك في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة الأخير. تعالج المخرجة نادين خان موضوعا قلما عالجته السينما المصرية بهذا الوعي والدقة في التناول. وهو “مرض الذكورة” أو الذكورة باعتبارها مرض، إذا جاز التعبير. وهو تعبير قادم من علم النفس النسوي، يقوم على تحليل الذكورة باعتبارها مشكلة يعاني منها بعض الرجال. إن لم يكن معظمهم. حيث يثقل على كاهلهم الثقافة التي تربوا عليها، ويعانون من مطالب خارجية وتناقضات داخلية تدفعهم إلى التطرف في إظهار فحولتهم وإثبات رجولتهم وإلى نوع من الهيستيريا أحيانا.
أبوصدام
بداية من اسم الفيلم الذي يشير إلى واحد من أبرز الشخصيات العالمية التي عانت من هذا المرض. وهو الديكتاتور العراقي الأسبق صدام حسين، الذي أغرق نفسه وبلده في صراعات انتهت بدمار الاثنين. وصولا إلى بطل الفيلم الذي تؤول حياته إلى نهاية مماثلة يدمر فيها نفسه.
واحد من الأعمال القليلة جدا التي تناولت هذا الموضوع كان فيلم “زوجة رجل مهم”. تأليف رؤوف توفيق، وإخراج محمد خان، ولكن معالجته كانت مختلفة. حيث نظر إلى موضوع الرجولة من زاوية السلطة التي يتمتع بها البطل ضابط الشرطة، والتي تجعله ينتفخ بلا حدود حتى يصل إلى الانفجار.
البطل في “أبوصدام” مجرد سائق شاحنات ثقيلة (يلعب دوره بإبداع حقيقي محمد ممدوح، الذي يثبت دورا بعد آخر أنه واحد من أفضل الممثلين المصريين الموجودين على الساحة حاليا.. حتى لو كان لديه عيب في النطق والإلقاء يحول أحيانا بينه وأداء الحوار بشكل مناسب). يحمل السائق اسم “أبوصدام” لسبب مجهول. إنه يضع صورة طفل أمامه في مقدمة السيارة، يفهم منها أنه ابنه صدام. ولكن بمرور الأحداث نعرف أنه عقيم. وأنه لم ينجب من زيجتين متتاليتين. وينتهي الفيلم دون أن نتأكد من حقيقة هذه الصورة أو مصير صاحبها.
شخصية متقلبة
أبو صدام رجل حاد الطباع، عصبي، يعود لمهنة قيادة الشاحنات بعد عدة سنوات من الاختفاء بسبب قيامه بضرب زميل له وكاد يقتله. وهذا أول مشوار عمل له بعد الغياب، يصحبه صبي صغير يعمل “تباعا”، أو مساعدا له ( يلعب دوره بإبداع مماثل الشاب أحمد داش، الذي يمثل أيضا في منطقة أخرى تختلف عن الأنماط وطرق الأداء البالية التي يلجأ إليها معظم ممثلينا).
قبل بداية العناوين وقبل أن ينطلق في أول رحلة له على الطريق بعد سنوات الانقطاع، نعلم أن “أبوصدام” تشاجر مرة أخرى مع سائق زميل، وأن هناك محاولات من “الحاج” الذي كلفه بالعمل لتهدئته وإقناعه بالاعتذار للسائق ورب عمله، لكن أبوصدام يأبى الاعتذار، ثم يقبل على مضض، ولكنه يماطل في الاتصال برب العمل الآخر.
نعلم أيضا أنه كان متزوجا من قبل ولم ينجب. وأنه الآن متزوج من امرأة أخرى، يرفض أن يسمح لها بالذهاب لزفاف ابنة عمتها، ويكره بشكل خاص أخيها الذي يحاول التدخل بينهما، لمنعه من ضربها وإساءة معاملتها. كما نعلم أنه لم ينجب منها أيضا، وأنه يرفض الخضوع لعلاج أو الذهاب لعمل تحاليل الخصوبة.
ملك الطريق
أبوصدام مع ذلك رجل طيب، يحاول جاهدا أن يتحكم في نفسه، تستفزه بشدة فتاة مدللة تقطع عليه الطريق بسيارتها وتنطلق مسرعة، فيحاول في نوبة غضب أن يلحق بها، قبل أن يستعيد هدوءه ويدعو لها بألا تؤذي نفسها أو شخصا آخر.
يرسم أبوصدام لنفسه صورة متخيلة يعيش داخلها: هو ملك الطريق وعفريت الأسفلت وفحل الرجال، وفي لحظة مقتطعة من صمته وكتمانه الدائمين يبوح للتباع الذي يساعده بقصة جنسية كان بطلها. تبدو كما لو كانت إحدى خيالات ألف ليلة وليلة، التي تتحول في نهايتها المرأة إلى جنية قاتلة.
ليلة واحدة
تدور أحداث الفيلم بالكامل خلال ليلة واحدة، وهو من الناحية الشكلية ينتمي لنوعية أفلام الطريق. حيث تدور الأحداث كلها داخل الشاحنة أو بجوار الطريق. تتداعى الأحداث وتترابط مثل شبكة عنكبوت حديدية تلتف حول أبوصدام وتخنقه وتدفعه دفعا للانفجار المدمر. وتنجح نادين خان في صنع التشويق والحفاظ عليه باستمرار، ويساعدها في ذلك مدير تصوير ممتاز عرف بإتقانه وإبداعه الفني (عبدالسلام موسى) وسيناريو بارع الانتقالات والحوار كتبه محمود عزت (عن قصة لنادين خان) وموسيقى تصويرية لا تعلق على الأحداث والدراما، ولكنها تصنعها وتظهر ما بطن منها.
“أبوصدام” لا يروي قصة بقدر ما هو دراسة في الشخصية، وهو لا يدرس الشخصية بقدر من الحكم المسبق أو التنظير، ولكنه يستعرضها ويعرضها لنا بواقعية.
نادين خان
في فيلمها الأول “هرج ومرج” سعت نادين خان لتقديم رؤيتها للواقع بشكل رمزي سيريالي. واهتمت بالفكرة أكثر من اهتمامها بالدقة، لكنها هنا تثبت تطورها كمخرجة متمكنة من أدواتها، شديدة التدقيق فيما يتعلق بالتفاصيل وتوجيه الممثلين، وقادرة على صنع صور بصرية أخاذة. وهناك مشهد اصطدام في نهاية الفيلم مبهر بحرفية تصميمه وتنفيذه وتصويره.
ومن المدهش في “أبوصدام” أن نادين خان تتعاطف مع شخصية البطل، تشرحه كطبيبة أكثر مما تدينه أو تحكم عليه. الرجولة هنا ليست مجرد تهديد للنساء كما نرى في الكثير من الأفلام التي تتعاطف مع المرأة، ولكنها مرض نفسي واجتماعي: أبوصدام يعاني من نقص الفحولة، ويحقد على النساء اللواتي يملكن سر الحياة، وهو محاصر بمجتمع يحكم على الرجل بمظهره، بعضلاته وشواربه ودرجة عنفه. إنه ضحية، أو جاني بسبب كونه ضحية، وهو قبل ذلك وبعده نموذج لمجتمع كامل قائم على وهم الفحولة المتخيلة!