بيتروس ماغنيس.. كفافيس الصعيد عار الأسرة اليونانية
في بداية القرن العشرين كانت مصر قبلة الأوروبيين الطامحين في الثراء، ومنهم هذا الشاب اليوناني “بيتروس ماغنيس”، الذي جاء إلى مصر في الخامس من أغسطس عام 1903، واشتغل بتجارة الأقطان في الصعيد، وظل في مصر حتى رحيله سنة 1950، لكنه لم يحقق الثراء، بل صار شاعرا، و ولعل قصيدته القصيرة “عار الأسرة” التي كتبها في جرجا سنة 1933، تلخص تلك المسيرة:
قال مدرسه عندما كان صغيرا: “سيصبح ذات يوم عظيما” وسمع أهله الفقراء بذلك، فمضوا يتخيلونه صاحب مقهى في بلدهم، أو مهربا ذا صولة ونفوذ، هناك في مصر الذائعة الصيت.
مضى الصبي يكبر، وتكبر لدى أهله شهوة الثراء، إلى أن أرسلوه للخارج حتى يأتي بالذهب الوفير. مرت سنوات، وانتظر المساكين عودة ابنهم من الغربة لامعا عظيم الثراء ـ انتظروه حتى أدركتهم الشيخوخة.
وفي النهاية جاءهم نبأ فظيع. قيل أنه أضحى شاعرا.
بيتروس ماغنيس
يذهب الدكتور نعيم عطية إلى أن “ماغنيس واحد من فحول الشعراء”.. ويدلل على ذلك بعدد من آراء النقاد، ومنهم الأديب اليوناني الكبير “جرجوري كسينوبولوس” الذي قال: “ماغنيس شاعر لامع، وربما كان أعظم الشعراء بعد كفافيس”، كما يذكر قول الناقد “مانولي بالوراكي”: “ماغنيس ليس واحدا من الشعراء غير المنكورين في الأدب اليوناني في مصر، بل هو أكثرهم تشبعا بالروح المصرية بين أبناء جيله”.
لقد جمع ماغنيس هنا بين أمرين عزيزين، الأول هو التجربة الشعرية التي جعلته واحدا من أهم شعراء اليونان، والآخر هو تشبعه بالروح المصرية، وهو ما يضاعف أهيمته بالنسبة لنا كمصريين، ومع ذلك تظل تجربة “ماغنيس” في بلادنا مجهولة تماما.
الشعر اليوناني
بشكل شخصي تعرفت على تجربة الشاعر بيتروس ماغنيس من خلال كتاب مختارات من الشعر اليوناني الحديث، للدكتور نعيم عطية، الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة سنة 1982، والذي احتوى على بضع قصائد للشاعر، ولم أعثر على أثر آخر للشاعر، حتى مع الاستعانة بالإنترنت، كما لم أعثر على أثر للشاعر في مختارات أخرى للشعر اليوناني كما هو الحال في مختارات المطران إلياس معوض التي صدرت في سوريا سنة 1960، أو مختارات الدكتور محمد حمدي إبراهيم، الصادرة في إطار مطبوعات المشروع القومي للترجمة سنة 2000.
باستثناء مقال للدكتور نعيم عطية عن الشاعر في مجلة “المجلة” الصادر سنة 1965، لم أعثر على أثر للشاعر، وفي هذا تهميش غريب وغير مفهوم لتجربة شعرية كبيرة تقوم على الروح المصرية، تلك الروح التي نعثر عليها بسهولة في النصوص القليلة التي بين أيدينا، يقول في قصيدة بعنوان “نبَتَتْ زنبقة” التي كتبها في جرجا سنة 1936:
نبتت زنبقة على سفح الجبل. وانتشر أريجها من حولها. لم يكن لها رفيق سوى الصخور والنباتات البرية والخراف التي ترعى على مقربة.
نبتت زنبقة على سفح الجبل. ولم يكن لها نظير في الحسن والجمال. لكن ما الجدوى؟، مر أهل الجبل، واكتسحتها أقدام الرعاة.
ويقول في قصيدة أخرى من “الصفحات الحمراء”:
انهمر المطر أمس، وأصبح اليوم عطرا معبقا بالأريج. قِطع الماس تتلألأ على أشجار الورد، والزمرد على الأرض الخضراء منتشر.
ما أسعد العاملين الذين سيخرجون إلى الهواء النقي وراء الرزق يسعون، الشمس ستغسلهم، وفي أشعتها سيستحمون
وفي مقطع من “الصحراويات” يقول:
أيها الجبل الغرير. يامن كتب عليك سوء الفهم. أجر قدمي في أرض الفراعنة على الضفاف البعيدة الجرداء، في ظل النخيل باحثا عن ماذا؟
عن الموت!
الشيء الوحيد الذي ينتظر أولئك الذين يبنون القصور، وأولئك الذين يعربدون. وأولئك الذين يبيعون شرفهم ليضمنوا لأنفسهم الحياة دون جدوى”.
عمق ورفاهية
تكشف تلك الشواهد الشعرية القليلة عن تفاعل فني بالغ العمق والرهافة والبساطة مع الأجواء المصرية الطبيعية والثقافية، وهو تفاعل ممتد في دواوينه المختلفة، ويغري بتتبعه، والوقوف على كل تجلياته.
نحن بحاجة لإعادة اكتشاف “ماغنيس”، وترجمة أعماله الشعرية الكاملة، ودراسة كل التجليات المصرية فيها، كما يهمنا كل أثر آخر يمكن أن يلقي الضوء على حياته في مصر، كرسائله، أو كتاباته النثرية، خاصة وأن الدكتور نعيم عطية يشير إلى أن تجربة الشاعر، لم تقتصر على الشعر بل اشتملت على مقالات، ومنها مقال عن مصطفى كامل نشره في مجلة “نوما” عام 1908، ليعبر من خلاله عن حفاوته بكفاح مصطفى كامل في سبيل استقلال مصر، والتعبير عن عدم الرضا عن الأحوال التي كان يمر بها مجتمعه اليوناني في ذلك الوقت، وهو يقول في تلك المقالة: “ما من شك في أنه (مصطفى كامل) لو كان يونانيا ومقيما باليونان بتلك المبادئ والمشاريع لمات على الحصيرة منبوذا وقد أعرض الناس عنه. ذلك لأن وجود مصطفى كامل وحده لا يكفي لانتصار عقيدة حيوية بل لابد أن يوجد شعب مثقف يفهمه، وهي أمور لا وجود لها لدى شعبنا “اليوناني”.
إن اهتمامنا بتجربة ماغنيس يجب أن يمتد إلى أنشطة ثقافية أخرى، ومنها تتبع حياته في الصعيد، والوقوف على الأماكن التي أقام فيها، واختيار أنسب مكان مناسب ليصبح متحفا على غرار متحف كفافيس، الأمر الذي يمكن أن يساهم في تنشيط الحركة الثقافية في المكان.
اقرأ أيضا
فؤاد حداد: صرخة الصباح والمساء
تعليق واحد