بورنوغرافيا الدم وإدمان العنف: هل أصبح العالم فيلم رعب كبير؟
عندما كتبت عن ظاهرة انتشار أفلام الرعب والجريمة الأسبوع الماضي، أرسلت لي صديقة شابة تعليقا مفاده أنها وأصدقاءها باتوا يطلقون على أفلام الجريمة “وثائقيات”، أو “تسجيلية”. بعد أن أصبح الواقع يعج بالجرائم التي لا يتخيلها أحدا. أما أفلام الرعب فيتعاملون معها على أنها متنفس خفيف أمام الرعب الموجود في العالم.
لاشك أن أخبار وصور الجرائم والحوادث المرعبة تنهال أمام عيوننا وفوق رؤوسنا كل دقيقة على مدار اليوم. وما بين كتابة المقال الفائت وهذا المقال لم يمر يوم واحد دون حادث مروع ما بين ذبح فتاة أخرى في الشارع إلى حريق هائل التهم عشرات الأجساد والأرواح. وما بينهما من قصص جريمة وحوادث طرق. ناهيك عن الرعب الكوكبي الذي عاشه العالم، ولم يزل، بسبب كورونا. ثم بسبب الحرب الدائرة في أوكرانيا وما نجم عنها من خراب شامل.
**
.. ولكن هل حقا انتشرت الحروب والأمراض والجريمة والحوادث مقارنة بعقود أو قرون مضت. أم أن الذي انتشر هو وسائط التواصل الاجتماعي التي جعلت أخبار العالم كله تحت أصابعنا على مدار اللحظة؟ أضف إلى ذلك التنافس الرهيب على تحقيق أكبر عدد من المشاهدات والتعليقات واللايكات. وبالتالي تركيز المواقع والأفراد على بث الأخبار الأكثر إثارة للانتباه والحواس، ما أدى بمرور الوقت إلى خمول الانتباه والحواس والحساسية لدى المتلقين. وهو ما يستدعي بالتبعية مزيدا من أخبار وصور الموت والرعب، التي باتت، بطريقة ما، “بورنوغرافيا” العصر.
وبعد أن كنا نتلهف على مشاهدة صور الفتيات الجميلات العاريات والرجال ذوي العضلات والوسامة في زمننا. أصبح جيل اليوم يتلهف لمشاهدة صور السفاحين والأجساد المخترقة بالحراب، والرؤوس المقطوعة بالفؤوس، والموتى الأحياء، وبقية صور الرعب التي تستطيع إيقاظهم من غفوة الحواس.
ليست الأفلام والمسلسلات سوى جزء من الواقع وهي مجرد صورة له. ومن يتصور أنها الواقع العنيف والمرعب نفسه أو أنها سبب لما يحدث في الواقع وليست نتيجة له، فهو كمن يطلق الرصاص على المرآة معتقدا أنها الواقع والخصم.. قد ينجح في تحطيم المرآة، ولكن الواقع والخصم لن تهتز له شعرة.
من ناحية ثانية فإن كثرة المرايا تضخم وتضاعف الواقع وتمنع من رؤية أشياء أخرى في الواقع لا تهتم مرآة السينما والمسلسلات بإظهارها. والواقع نفسه بات باهتا وضبابيا خلف عشرات المرايا المضخمة الملونة له. كما في بيت المرايا بالملاهي، حيث يصعب على المرء التمييز بين الصورة والواقع. أصبحت صلتنا الأساسية بالعالم من خلال عشرات الشاشات من مختلف الأحجام، ورغم أن الكل يشكو، والكل يعرف عن الأضرار والآثار السلبية. لكن لم يعد بمقدور أحد أن يقاوم أو يفعل شيئا.. لقد انتهى أمرنا، ولم يعد أمامنا سوى التعامل مع الوضع القائم.
**
كثيرة ومتنوعة هي أسباب انتشار أفلام ومسلسلات العنف والرعب، والصديقة التي حدثتني عن إقبال جيلها على هذه الأعمال ذكرت عرضا أن أحد أسباب انتشارها هو تسامح الرقابة معها، مقارنة بالأعمال الاجتماعية الواقعية. وهذا صحيح فيما يتعلق بالعالم العربي. لكنه لا ينطبق على السينمات العالمية التي تشهد أيضا انتشارا هائلا لدراما العنف والرعب.
الأسباب كثيرة ومتنوعة والنتيجة واحدة. والذي يهم الآن هو فحص تأثير هذه الأعمال. مبدئيا هناك وظائف إيجابية لها: التنفيس عن الخوف والعنف المضمرين داخلنا لأسباب لا حصر لها. في نهاية يوم ممتلئ بالمتاعب والقلق والإحباط، من مكان العمل إلى الشارع إلى السوبر ماركت. يود المرء أن يفرغ خزينة من الرصاص في صدر شخص ما. وها هو فيلم يقوم فيه البطل بقتل عشرات الأوغاد، فما أمتع الشعور بالانتقام، ولو في الخيال.
**
منذ ظهر عقل الإنسان وخياله يعمل باتجاه التعبير والتفريج عن الرغبات والمخاوف التي تشغل هذا العقل، وهذه إحدى الوظائف الأساسية للفنون، ولفنون الدراما تحديدا. ولكن إحدى وظائف الفن الأخرى هي مداعبة الحواس الخاملة. يقسم الأديب جيمس جويس الفن إلى نوعين: الفن الخالص (proper) والفن غير الخالص (unproper). الأول هو الفن الذي يولد حالة من الافتتان العقلي والروحي غير المنطوق به. أما الثاني فيندرج تحته الأعمال التي تخاطب الحواس والغرائز والأعمال الدعائية والوعظية، وكل ما يهدف من ورائه لتحقيق غاية أو مصلحة أو متعة غير فنية. ويصف جويس معظم ما يندرج تحت هذا النوع بالبورنوغرافيا!
وفقا لهذا التقسيم، فإن معظم ما يبث في عيوننا هذه الأيام من صور وكلمات عبر أفلام أو مسلسلات أو برامج أو صحف أو مواقع التواصل الاجتماعي. إنما ينتمي بوضوح للنوع الثاني، البورنوغرافي، الذي يهدف إلى إثارة الحواس والغرائز. وربما يتصور شخص ساذج، من كثرة ما تقرن كلمة الغريزة بالجنس. أن المقصود هنا هو الأعمال التي تحتوي على قبلات وعري، وهذه للأسف أكبر خدعة قام بها مروجو البورنوغرافيا في العالم العربي.
الأفلام التي تحتوي على قبلات وعري ليست بورنوغرافية طالما أنها لا تهدف إلى الإثارة. ولكن البورنوغرافية الأخطر هي إدمان أفلام الرعب والعنف والأكشن وبرامج التحريض السياسي والديني والرياضي. وكل ما يساهم في تحويل حياتنا إلى حديقة حيوان ليس لها سور ولا بواب.
ولعل هذا التنبيه/ التخدير الدائم للحواس هو أسوأ ما ينتج عن طوفان صور الرعب والعنف الذي غرقنا فيه.
اقرأ أيضا
مَن فتح “الهويس”؟.. الرعب والجريمة يحتلان الشاشات المصرية