بورتريهات متخيلة(9): عمر الشريف.. المتسكع الأبدي
يشعل الفيلسوف فانوسا في وضح النهار، ويتجول به في المدينة، وعندما يُسأل عما يقصده، يجيب:
“أبحث عن إنسان”.
في ظلمة شيخوخته، يطفئ ذلك الذي اختبر الرقصة الشهوانية للضوء، فانوسه الأخير، ودون أن يسأله أحد يجيب: “أبحث عن لذة”.
في نهاية رحلة عمر الشريف ذلك الذي اكتشف كل شيء، وبلغ ذروة الانتشاء بكل شبر في الحياة، وبذاته تساوت أمام عينيه كل فتنة، تسمرت باردة.
كان سؤاله:
“ما الذي لم أجده بعد في هذا العالم، لا شيء، يا للضجر”
**
عمر الشريف، هذا المواطن العالمي بحق، روح متجددة كميناء لا متناه، مشرع دائما للشمس وللبهجة السرية لليل، مولود اللحظة الحاضرة، المفطوم عنها، المقامر بما يليها، في أطلال مجونه، هو كالصوفي، ابن وقته.
في كل ميناء يعيد اختراع نفسه، شبح الرصيف هو الطريق، علاماته نشوات الجماع، غزوات مباركة من النساء أنفسهن، لأن مثاله قد يتجاوز كونه مجرد رجل جذاب، بل المثال الأفلاطوني الكامل للجاذبية، وعلى صفته تتوزع الصفات.
يتيم كل حضارة، وابن كل شعب. وليد الفكرة النبيلة، الهدف الأخير لرحلة الإنسانية الطويلة.
**
عندما يعود مثقلا بتسكعات الليل، يجر خلفه شظى الأرض والبحر والسماء، ذلك الذي فتح ذراعيه متقبلا ما لا يقاوم، يحدثه قلبه فقط عن حب وحيد، وميناء أخير.
من ذاق أن تكون حياته لعبة أمام كاميرا العالم – كما نتوق سرا- قال: ليس عناء يستحق الذكر أو الشهرة أو المال.
العالم ملك يديه، تحت قدميه طواعية وكرها.
العالمية؟ لا شيء.
**
على طاولة المقامر، تحتشد نصال الحياة براقة وحشية، لكن أيضا مفهومة، يستشعر ضراوتها للحظات، لا الربح ولا الخسارة مبتغاه، كأن الزاهد فيه هو أن يختبر اللذات كلها، كي يتحرر من شقاء وعيه بمفاتن الحياة، يقول بحسرة تربكنا:
ألم يكن من الأفضل ألا يحدث كل هذا؟
**
الشيخوخة حانة تائهة بين الموانئ، مقهى غرباء، الماضي كحفرة سوداء في القلب، كبندقية صياد.
في غرفته، ذات السكون الزائف، حين عاد منهكا، ولم يعد يعرف أي طريق جديد يسلك، سأل عن بهجة واحدة مفعمة بالإيمان، سر لم يكشف بعد، يًهمس له وحده بنبرات لا مرئية، صرخ، لكن لا أحد يعرف بما ردت الجدران، ربما أخبرته:
ليتنا كلنا مثلك، أخف من وطن، من حقيبة سفر، من فكرة، من الماضي، من المستقبل، من الذاكرة. أقمنا داخل الفرح واللحظة الحاضرة، وخارج الحدود المعلبة والسياج المغلقة بالأوهام.
ولأنه مشتهى ولو من حجر، لأن خلف حطام جسده قارورة عطر أبدي، لأنها أجلت رغباتها طويلا، معذبة لعقود بالفرجة والغيرة، ضاقت الجدران، أطبقت على الحبيب المراوغ في عناق أخير، لكنه انفلت كعادته، تبخر. أقلعت به سفينة الرحلة الأخيرة، عاريا، بلا متاع، ليكمل بخفة طريقه إلى الضوء.
اقرأ أيضا:
بورتريهات متخيلة (8): محسن محي الدين.. أريج الشباب الأبدي