بورتريهات متخيلة (14): محمود الجندي.. على جبينه الأنوار
كسكين تقطع برتقالة الزمن إلى نصفين، عاش محمود الجندي مرتين. في كل مرة كان يتكئ بحياته على ساق واحدة، غوص في اللذة، غوص في الإيمان. بأي ساق استقام له المشي؟ لا أحد يعلم، ولا هو. أما ماسة الموال، التي أومأت بها حنجرته وسط أكوام من الهدر، فلم تعرف العرج، ربما لأنها لم تستند إلى ساق الهوس، ولم تطلع من ساق التعب، ولا الحيرة بينهما، بل من هبة الجمال الفطري انداحت عالية، بلا ندم أو خواء، من داخل حدود الضوء اللامعة، وقد غرست في قلوبنا نظرة الحب الساحرة.
مواله مكتف بذاته ولِذاته، يهدهد صخب العالم من حوله، يهدأ من روعه.
بأي ساق استقام له المشي؟ هل التئم؟
لا أحد يعلم، ولا هو، لكن في المرتين رفت على جبينه الأنوار.
**
شهيق للتأسي، زفير للغناء. شهيق للفرح زفير للغناء.
أعطني تعريفا أبسط للحياة؟ تحت أقواس الليالي، خطوات محطمة، وصوت حب عانينا في نسيانه الكثير من الآلام. قاب قوسان فوضى ضاربة ونبش يائس في الأرجاء.
عبر فمه وجد الماء صوته، لم يمزق حنجرته أو يحطم آنية روحه بحثا عن دفقة دم كاسحة، لذا فلم يتسع أو ينكمش، لم ينم ولم يُطو، لكن مخيلاتنا التي تعكرت بالهجير والظمأ أنجته من النسيان، لأن الماء هو وعدها بالبدء من جديد، لأن أرواحنا التي تسكنها شمسا جحيمية تشتاق إلى الظل في بدائية ما يمنحه، التوقف قليلا.
لم يخسر الحب، لكن أصابعه لم توهب العاصفة. لم تر من الماء أغواره، ولا من الظل الطبقات العميقة لسحره.
كأن عتمة الذات محتومة. ففي المرتين، لم يستنطق الحجب، لم تهبه الأرض سلاما أو سيفا ولم توشح السماء عباءته بنجوم خضراء، أو تكسو رأسه بالريش. في النهاية سُيجت روحه بالبرد ولم تشتعل دماؤه كل ليلة بما سطرته النجوم، لم يتجذر عند ذروة الضوء، صار نسخة من شيء لا الشيء، أما الينبوع فابتعد.
متى يحل الضجر في الروح؟ متى تنهار أبراجها؟ متى يغني الخوف ونتوقف عن سبر المسافة؟ وأي مطرقة ثقيلة ترجمنا بالضربات دون أن تكل؟ متى يصير ما تبقى من حياتنا إخمادا لندم؟ ومتى يصير جمالنا صدى لضجيج يذوي؟
ما الذي انتظره من السماء؟
عين ما ارتجيناه منه: ظل وماء. ظلنا قُد من هجير، بئر مائنا أنهكها الظمأ.
**
لأن علي الزهار، ليس إلا حلما. تصير تقطيبة جبينه كابوسا، وضحكة وجهه إشراقة ملاك. ومواله نداهة درب سماوي غائم بالطيور.
اقرأ أيضا:
بورتريهات متخيلة (13): سناء جميل.. اختراع الطريق