«بني سويف».. اقتراب وابتعاد
القرب من العاصمة سلاح ذو حدين، خاصة مع مدينة مثل القاهرة، تفرض طغيانها بقوة بالغة على ما حولها من مدن وأحياء. فمدينة بني سويف أصبحت وكأنها تابعة للعاصمة في كل شيء، حتى وأنك لترى اسم القاهرة حاضرٌ في أسماء بعض المحلات في شوارع المدينة، وبني سويف ليست استثناء في ذلك. حيث تجري تلك الظاهرة على كل المدن القريبة من القاهرة مثل بنها والفيوم وقليوب، يلعب العامل الجغرافي الدور الرئيسي في ذلك من خلال انتقال العمالة بسهولة أكثر من المدن المختلفة إلى العاصمة. مما يرتبط أيضا بعوام أخرى حيوية تتعلق بالتبادل التجاري والصناعي. لكن لم يمنع هذا أن بعض الناس فضلوا الإقامة في مدينتهم مع حالة من الاعتزاز بها. خاصة مع توفر فرص عمل في المصانع القائمة في الجانب الصناعي منها.
صحيح أن بني سويف يتم التعامل معها على أنها محافظة صعيدية إلا أن الواقع يخالف ذلك خاصة في مراكز الشمال. فيميل الناس فيها إلى هيئة فلاحي الدلتا أكثر منهم إلى أهل الصعيد. حيث اعتاد الناس على اللباس الفلاحي أكثر من الصعيدي. وهم كذلك لا يلبسون العمائم الصعيدية في الغالب، ويعكس هذا قربهم من قرى الجيزة التي تمثل بني سويف امتدادا طبيعيا لها. فمركز الصف ينقسم بين الجيزة وبني سويف، فلا يظهر الفارق بينهما إلا في الهيئات الحكومية، يبدو الفارق ظاهرا في اللهجة كذلك التي تقل حدتها كلما اتجهت نحو الشمال. أما أهل المدينة فلا تكاد ترى فيهم هذا ولا ذاك، حيث يميلون إلى الوظائف الحكومية مع التجارة والصناعة أكثر منها إلى الفلاحة. لكنها على كل حال مدينة خفيفة الأثر لدرجة تجعل الزائر لا يتذكر ملامحها إذا غاب عنها فترة طويلة. فلا يكاد يعلق في ذهنه شيء منها إلا بعض المشاهد النادرة هنا أو هناك.
السيدة هنا!
أول ما يستقبل المرء فور خروجه من محطة قطار بني سويف تمثال البوصيري وهو أحد التماثيل المتفردة في المدينة. فالرجل الذي ولد في قرية بوصير التابعة لمحافظة بني سويف ما زال حضوره قويا في محافظته رغم نشأته وموته في القاهرة. وهو صاحب أشهر قصائد المدح النبوي “بردة البوصيري” التي سماها الكواكب الدرية في مدح خير البرية. أما الارتباط الحقيقي فيتمثل في ترديد أشعار تلك القصيدة في الحفلات الدينية ومناسبات المولد النبوي في ساحات الأولياء والعارفين في المدينة.
الحضور الصوفي الأكبر في المدينة لسيدة ارتبط الناس بها وأنشأوا حولها الحكايات التي تثير حنينهم إلى آل البيت. يتمثل هذا الحضور حول مسجد السيدة حورية الذي يقع بالقرب من شارع أحمد عرابي أحد أشهر شوارع المدينة الرئيسية. وهو مشهد ينخرط في وجدان الناس في المحافظة حتى اللحظة. وترجع قصته وفقا لروايتهم في المدينة أن السيدة زينب الصغرى كانت في زيارة إلى مدينة البهنسا بالمنيا. وهي في طريقة عودتها مرضت في مدينة بني سويف، فماتت فيها. ومنذ تلك اللحظة وموضع وفاتها مقام يزار، يزدحم الناس إليه في المناسبات وفي يوم مولدها. يرددون بصوت واحد “يا ستنا يا حصننا يا طبنا يا غياثنا يا بنت سبط نبينا” حتى أنهم أعدوا لذلك ساحة ومنزل خدمة أمام ضريحها بشكل ثابت. المدهش في هذا الأمر أن الناس يتكاتفون على خدمة كل من أتى إلى زيارة السيدة حورية. تعبيرا عن كرمهم الممتد للناس منذ أن حظيت به السيدة زينب الصغرى يوم مرضها في المدينة. واسم حورية جاء تفسيرا لجمالها الأخاذ الذي كانت تشتهر به.
مدينة غير نمطية!
في شوارع المدينة الرئيسية يمكنك أن ترى الحنطور، ليس كوسيلة ترفيه أو سياحة بل كوسيلة مواصلات وتنقل رئيسية في المدينة، يعتمد الناس عليه أحيانا. فيما يميل غالبيتهم إلى التاكسي، يقوم على الحناطير رجال مسنين في الغالب يتمسكون بمهنتهم حتى اللحظة بفخر واعتزاز وحديث دائم عن الماضي. ليس الحنطور موجودا بأعداد كبيرة لكنه حاضر على كل حال، وهو ما يجعل اختفائه مستقبلا مسألة حتمية. وظاهرة الحنطور منفردة في بني سويف، فلا يوجد مدينة أخرى في مصر لا تزال تتعامل مع الحنطور كوسيلة مواصلات.
ما يثير الدهشة فعلا، هو أن المدينة تحمل بين شوارعها عددا كبيرا من القصور والمباني التراثية القديمة، التي تتشابه بصورة كبيرة مع تلك التي بنيت في منطقة وسط البلد والحلمية. مجموعة كبيرة من القصور التي يرجع تاريخها إلى القرن التاسع عشر والقرن العشرين. تتمثل فيها الزخارف بشكل مبهر وأنيق، لكن غالبية تلك القصور بادت مهجورة لا يكاد يدخلها أحد.
لكن على هذا فإن رؤية النيل في بني سويف تكاد تنعدم، فالكورنيش هو إحدى مساوئ المدينة التي تلفت الانتباه. فالنوادي الخاصة والمطاعم والمقاهي والفنادق وغيرها من المنشآت التجارية تتركز على كورنيش النيل بشكل يجعل رؤيته صعبة ومعقدة. وبطبيعة الحال تجعل المشي على ممر الكورنيش أمرا مملا على غير عادة ما تميزت به شواطئ المسطحات المائية.
تاريخ منعزل!
عندما تتفقد أسماء المدن والقرى المختلفة في بني سويف، يسترعي انتباهك تاريخ مصر القديمة. إلا أن الواقع الحالي مختلف تماما عن ما دونته كتب التاريخ القديم. فمدينة إهناسيا التي كانت عاصمة لمصر في فترة الأسرة التاسعة والعاشرة، لم يعد لها ذكر إلا في سطور الكتب والمقالات التاريخية. أما الواقع فهو عبارة عن كيمان متراكمة لا تعني للناس أي شيء. فضلا عن بقايا شبه معدومة لمعابد مختلفة، يقال أن لرمسيس الثاني واحدا منها.
وبالرغم من أن هرم ميدوم علامة فارقة في بني سويف، تاريخا وحاضرا. إلا أن الواقع يبرز انعزالا اجتماعيا تاما عن هذا البناء، تصل إلى درجة أن الناس يجهلون طبيعته وماهيته. هرم ميدوم الذي بدأ ببنائه الملك حوني آخر ملوك الأسرة الثالثة وسط هضبة صخرية لم يعش طويلا حتى يراه مكتملا. حتى تولى الملك سنفرو العرض خلفا لأبيه حتى أتم الهرم في عهده. كان الهرم مختلفا تماما عن هرم زوسر المدرج، ومع كون الهرم أخرج في النهاية بشكل يبدو غير نمطي. إلا أنه كان مرحلة هامة في تطور التاريخ المعماري للمصريين القدماء بشكل جعلهم يبنون في النهاية أهرامات الجيزة الثلاثة. يبدو الهرم فاتنا من بعيد وسط بيوت قرية ميدوم الزراعية.
***
هناك في قرية دلاص التابعة لمركز ناصر، تقف مئذنة مألوفة عليها ملامح القدم، يسميها الناس مئذنة دلاص. وهي مئذنة في الأصل فاطمية أنشئت في تلك القرية منذ ألف عام تقريبا والغريب في الأمر أنها أقدم مئذنة في الصعيد كله، وبالرغم من وجودها بشكل منفرد في المكان إلا أنها كانت ملحقة بمسجد قديم بني في نفس التاريخ إلا أنه تهدم في تاريخ ليس معلوم. أما المسجد الحالي فهو مسجد حديث مختلف تماما عن القديم الذي كان فيها.
كانت زيارة بني سويف خفيفة كما المحافظة تماما، فالطريق من القاهرة لم يستغرق وقتا طويلا. أما رتم الحياة فيه فهادئ. أما زحام الشوارع فيرتكز في مواضع في المدينة دون الأخرى، وجوها يختلف عن الصعيد في حدته صيفا وبرده شتاءً. فهو يميل إلى جو القاهرة أكثر من الصعيد، وتلك علامة أخرى على انتماء هذه المحافظة أكثر إلى الشمال منها إلى الجنوب.