بمناسبة تكريمه في مهرجان الإسماعيلية: كمال رمزي.. سيرة البدايات
تبدأ غدا الدورة الثانية والعشرون لمهرجان الإسماعيلية السينمائي الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، والتي تستمر حتى الثلاثاء 22 يونيو. وقد اختارت إدارة المهرجان تكريم الناقد كمال رمزي، وفنانة التحريك فايزة حسين.
ويصدر المهرجان سبعة كتب وهي: “تاريخ السينما المصرية” للناقد محمود قاسم، و”السينما الوثائقية.. النوع الفيلمي.. سقوط الحدود والقيود” لكل من (أحمد عبدالعال، ضياء حسني، علياء طلعت، محمد سيد عبدالرحيم، رامي المتولي)، و”سينما الواقع.. إطلاله على حداثة السينما الوثائقية المعاصرة” للناقد صلاح هاشم، و”أعمدة السينما المصرية في القرن العشرين” للمخرج هاشم النحاس، و”يوسف إدريس بين الأدب والسينما” للسيناريست عاطف بشاي، و”وجوه الحقيقة اتجاهات وتجارب في السينما التسجيلية المصرية”، للناقدة صفاء الليثي. وأخيرا “كمال رمزي صاحب الرؤية” للدكتور حسين عبداللطيف.. والذي اخترنا أحد فصوله بمناسبة تكريم الناقد الكبير.
تحت عنوان “صندوق الدنيا” يأتي الفصل الأول من الكتاب الذي يحكى فيه كمال رمزي للمؤلف د.حسين عبداللطيف بعضا من سيرة البدايات.
الثورة.. البداية
في طفولتي أتت مجانية التعليم وأصبحت مسؤولية التعليم على الدولة، والدولة حملت مسؤوليات كثيرة على أكتافها، والحقيقة أن والدتي هي التي حملت العبء كاملا في الأسرة، كانت والدتي امرأة من الصعيد، مستوى تعليمها أقل من المتوسط، وإنما كانت خبراتها في الحياة وقيمها المجتمعية عظيمة جدا، هي التي ربتني أنا وشقيقتي، كانت تستخدم معنا أسلوبًا عندما قرأت فيما بعد في علم النفس اكتشفت أنه أسلوب علمي هام، رغم أن هذا الأسلوب وغيره مما اتبعته معنا كان على ما يبدو من عادات ومعارف منطقة الصعيد البسيطة والمتداولة بين أبناءه. فقد كانت أمي تجلسنا على الأريكة أنا وشقيقتي وتجلس هي أمامنا بحيث يكون مستوى عينيها في مستوى نظرنا تماما، ثم تبدأ في تلقيننا أشياء على درجة عالية من الأهمية معارف وأخلاق وأسس وأصول للحياة، كانت تقول على سبيل المثال: “أنتم أخوات مالكوش غير بعض، لو كان في بلحة لازم تقسموها بالنصف، الواحد لما بيتخبط بيقول أخ”.
كنا نسكن في حي عين شمس، تحديدا في منطقة أرض النعام، وقد سكنها عددا كبيرا من الأجانب وكانوا يقومون بالفعل بتربية النعام بها، كانت منطقة للأثرياء حتى قامت ثورة 1952 وقررت حكومة الثورة بناء مجمعات سكنية بها لصغار الموظفين وصغار العمال، ولا يزال بيت والدي موجود في أرض النعام، بيت مساحته حوالي ثمانين أو خمسة وثمانين مترا ومكون من دورين فقط، وكنا وقتها في بداية زحف جحافل الطبقات المتواضعة على منطقة الأثرياء.. كانت المنطقة جميلة بها حدائق واسعة وقصر الأمير السابق يوسف كمال، الذي كلما مررت بجواره حتى الآن أشعر بالأسف الشديد لحاله. القصر كان تحفة معمارية فريدة كغيره من قصور ذلك الزمان، وكانت إدارات المدارس تنظم رحلات مدرسية لزيارته ومشاهدته من الداخل، أدهشتنا مشاهدة القصر وقتها ونحن صغار، تماثيل الأسود المحنطة، لأن الأمير يوسف كان من هواة الصيد ويقوم بتحنيط الحيوانات التي يقوم باصطيادها.. السلالم نفسها كانت نوعا من الفلين القوي جدا ولينة جدا. الواقع أن ما حدث لهذا القصر فيما بعد يؤرخ إلى إحدى آفات مصر في عهد عدم الحفاظ على تراثها، حيث ظل التراث يتدهور من سيء إلى أسوأ حتى أصبحت تلك التحفة الجميلة محاطة بمجموعة من البنايات الدميمة لشيء اسمه معهد الصحراء.
وفي فترة من الفترات تحولت حديقة القصر أو جزء منها، والتي كانت تحتوي على أندر أنواع النباتات، تحولت إلى بطارية دواجن.. وعندما تسير الآن لن ترى القصر.. فالقصر أصبح محاط بمباني.. مباني ومباني.. نموذج للقبح، وهناك قلة قليلة من الناس هي التي تعرف أنه كان هنا قصر الأمير يوسف كمال.
بالرغم من أن والدي لم يكن متعلما، لكنه كان عاشقا للقراءة، كان بوسعه أن يظل يقرأ في رواية من سلسلة كتابي التي كان يصدرها حلمي مراد حتى الرابعة صباحا، وكان يقوم بإعادة قراءة ما قرأه من مقاطع لوالدتي، كنت أسمع قراءته لها فتنتابني حالات شغف شديدة جدا بهذه القصص، فكانت هذه أول خطوة في حب القراءة.
بعد ذلك بدأت رحلة القراءة بشكل عشوائي غير ممنهج، أي أنني كنت اقرأ أي شيء يقع في متناول يدي، كان من بين ذلك مجلتين أتابعهما بانتظام، الأولى هي مجلة “الشرق”، وكانت تتجه فكريا نحو فكر وثقافة الاتحاد السوفيتي وكانت تنشر قصص لتوليستوي ومكسيم جورجي. أما المجلة الثانية هي مجلة “المختار”، وكانت تميل فكريا نحو أمريكا. كنت اقرأ كليهما، وكنت مهتم ومتابع لزيارة مكتبة محمد عبده في حي الزيتون، كانت مهمتي هي قراءة الروايات، نقرأها أنا وأصدقاء الحي ونرشحها لبعض، ومن هنا ومن هناك اكتشفنا آفاقً أرحب، والتفتنا إلى دور نشر تُصدر ترجمات مهمة فأصبح إنتاجها هو دليلنا نحو عالم التثقيف والتنوير. كنا نقرأ أيضا أي كتاب يحمل اسم دار اليقظة السورية، فقد كنا نثق في إصداراتها، ومن إصداراتها قرأنا بشغف شديد جدا رواية اسمها الساعة الخامسة والعشرون، وفي هذه الفترة عرفنا ومن خلال قراءتنا عدد من الأدباء والكُتاب الأجانب لا يستهان به، واستولى علينا لفترة ليست قليلة الأدب الروسي بصفة عامة وديستوفيسكى تحديدا.
تلك الفترة كانت أحلام الثورة وقتها في مصر كبيرة، لدينا صناعة ويخرج من مصر أدباء ومفكرين، حلم أن تصبح البلاد العربية مترابطة كلها وتتحول إلى مساحة واحدة وأفق واحد، نتحرر ونكون أقوياء، كلها كانت أحلام شخصية جدا.
فترة إقامتي في مدينة المنصورة كانت تجربة تعلمت منها أشياء كثيرة جدا وظلت في ذاكرتي كجمل عابرة، لكنها أنارت لي جوانب كثيرة من الحياة، أتذكر مثلا امرأة كانت تعمل عندنا في بيت كنا نستأجره بالمنصورة أنا وزملاء لي، هذه السيدة عملت عندنا فترة، ثم ارتكبت خطأً في عملها لا أتذكره الآن، وكان أحد الزملاء يتمتع بقدر من القسوة فقام بطردها من المنزل، وفوجئت بها تحمل طفلها وحقيبة ملابسها المتواضعة وتستعد للرحيل، فأبلغتها أن الجو ممطر بالخارج وحاولت أن آخذ منها الحقيبة والطفل كي أثنيها عن المغادرة ولتنتظر الصباح فسألتها تحديدا: “أين ستذهبين في هذا الجو هذه الساعة؟”، لكنها فاجئتني بجملة لا أنساها، قالت: “يا خبر أبيض! الدنيا الواسعة دي كلها مش هاتسعني، والبيت الصغير ده هو اللي هيساعني!”، وفعلا غادرت المنزل وهي مبتهجة. هذه من ضمن الدروس التي تعلمتها، ومازلت حتى الآن أتذكر ملامحها وهي تسير في الشارع تحمل طفلها وحقيبتها البسيطة.
هناك وفي المنصورة، كان ذلك من بعد النكسة في أواخر عام 1968 وحتى عام 1971، قابلت شخص اسمه ماهر رضوان في بلد اسمها بدواي، رجل غريب جدا يصر على أن تصبح قريته قرية كبيرة ومهمة، ينفق كل أمواله ويجمع أموال من الناس لكي ينشيء فصول دراسة إعدادي وثانوي لم تكن موجودة في البلدة. كنت أتعجب من إصراره، ينشيء مدرسة ويبذل مجهود لتقام في القرية كذلك وحدة صحية ويتعارك لكي تكون قريته أفضل حالا، ويناضل لكي يقف القطار أمامها، نماذج من البشر لا يمكن أن تصادفها إلا عندما تنزل إلى الواقع وتتوغل فيه.
المعهد.. الأبواب.. الكتابة
بعد حصولي على شهادة الثانوية العامة قررت أن التحق بمعهد الفنون المسرحية، كان أبي يفضل لي أن التحق بكلية الزراعة أو بكلية المعلمين، أما أنا فقد تأكدت رغبتي في أن التحق بمعهد المسرح، الذي لم يكن يلتحق به إلا من كان يمتلك قدرا وفيرا من الثقافة والمعرفة، ولم يحدث هناك جدال كثيرا في المنزل حول هذا الموضوع، فأحد المزايا في أسرتنا أن مساحة الحرية واسعة، كان ذلك نتيجة لعدم الاكتراث وليس الديمقراطية!، لم يكن لدي أبي أي مانع في أن أعمل في أي مهنة، ولكنه كان يتمني في داخل نفسه أن أكون مهندسا زراعيا وكذلك كانت لديه الشكوك في إمكانية أن أصبح ناقدا معترفا به.
في المعهد وفي الفترة الأولى.. في البدايات، أقصد منتصف الستينات كنا نقرأ في كل الاتجاهات، وكان كل مقال جديد يفتح الباب أمام أسئلة ومعرفه جديدة، فعندما يصف مقال مثلا لفيلم بأنه واقعي، فنحن كنا نتساءل ماذا تعني الواقعية؟، ثم التراجيديا، الرومانسية؟، وهكذا، كل هذه المفاهيم اكتشفنا أننا نحتاج أن نعرفها، وبناء على ذلك لم تكن كتب المسرح تكفينا، بل اتجهنا إلى كتب أخرى في النقد والشعر والرواية والفلسفة.
كان معهد الفنون المسرحية يقع في البداية في حي الزمالك في فيلا جميلة وذلك قبل انتقاله إلى حي الهرم، والمناخ أيامها كان مناخ بوليسي، مناخ قاتم، وكنا نشعر بأنفاس مباحثية في المعهد، أتذكر أنه كان لنا زميل، لن أذكر اسمه، كان فتي جيدا ونقي جدا، وجدناه ذات مرة صباحا يجهش بالبكاء، وتعجبنا حتى تقصينا عن الموضوع فعرفنا أن مباحث أمن الدولة استدعته وطلبت منه أن يخبرهم عن بعض الزملاء الذين يعملون بالسياسة وينقل لهم ما يدور من نقاشات في المعهد، فقد كان هناك طلاب في المعهد يعملون بالسياسة، مثل فؤاد التهامي من الدفعة السابقة، ومهدي الحسيني من دفعتي، وهم من الشخصيات التي احترمها جدا.. كان هذا هو المناخ المقبض للنفس.
أول مقال ينشر لي في مجلة رفيعة الشأن هي مجلة “المجلة” التي يرأس تحريرها يحيي حقي، والمقال كتبته بصعوبة وفي خلال عده شهور، كنت بالفعل قد نشرت مقالا قبل ذلك، لكن مقال المجلة هو البداية الفعلية، مازال يحيي حقي هو القارئ المُتخيل بالنسبة لي، يتراءى لي طيفه أمامي وأقول لنفسي لو يحيي حقي قرأ هذا سيطلب حذف كذا وكذا.
كنا مجموعة أصدقاء نحب الكتابة هم: رضا الطويل وماهر حافظ وأحمد حسن البشاري، هذه هي مجموعتي الأولى مجموعة الحي وزملاء الدراسة، هم سبقوني لأنني كنت متعسرا دراسيا أيام المدرسة، فلم أجد نفسي في حساب المثلثات والميكانيكا والاستاتيكا وغيرها، كنت أعرف أيضا من الأصدقاء إبراهيم أصلان ومجموعة أخرى لم تكمل في المجال الثقافي، فقد اختلفت المصائر.
ثم كان هناك شخص عظيم جدا له أثر هائل في حياتي كلها هو عبدالفتاح الجمل، كان مشرفا على الصفحة الأخيرة في جريدة المساء ويتمتع بحس إنساني وأدبي عالي جدا، لم يكن يقيم وزنا للأسماء الكبيرة عند اختياره للمقالات ويشجع باستمرار الأسماء الجديدة ولا يوجد كاتب في جيلنا لم يمر من بوابه عبدالفتاح الجمل، تعرفت عليه في نفس الفترة ونشر لي أول مقالات في نقد السينما في جريدة المساء.
أذكر أيضا من بين الأسماء الذين فتحوا أمامي أبواب لا يستهان بها فاروق عبدالقادر أثناء إشرافه على ملحق جريدة الطليعة. وقمنا وقتها بإجراء حوارات أنا ومهدي الحسيني مع نعمان عاشور وألفريد فرج، تعرفت على مهدي في المعهد الذي دخلته وأنا عمري كبير بعض الشيء، عشرون عاما، بسبب جولاتي المدرسية الخائبة، نشرنا الحوارات في مجلة المسرح عندما كان فاروق عبدالقادر سكرتيرا للتحرير، وبعدها بسنوات سافرت للعمل في المنصورة، وعندما عدت قابلني فاروق مرة وطلب أن اكتب في جريدة الطليعة، وكانت هذه فرصة مميزة بالنسبة لي.
كنت من عشاق السينما والروايات، لكنني كنت أبحث باستمرار عن سر جمال الرواية أو الفيلم، كنت أريد أن أعرف لماذا هذه الرواية جميلة، ولماذا تلك الأخرى رديئة؟.. ومن هنا بدأت مسألة البحث عن كلام مكتوب عن الرواية التي اقرأها أو الفيلم الذي أشاهده. تمنيت وقتها أن يكون لدي قدره على أن أقول هذا العمل جيد وذلك الآخر رديء.
ومن اللامعين في كتابة النقد وقتذاك الدكتور محمد مندور، وكان يكتب نقدا عن الكتب في مجلة “المجلة”، وكذلك الدكتور محمد غنيم هلال، ويحيى حقي نفسه، وسعد الدين توفيق، وهو الناقد الذي كنت اقرأ له بانبهار شديد متأملا كيف كان يكتشف الفكرة الموجودة في رواية أو مسرحية، ولم أكن أتخيل أن يقوم كاتب بكتابة كامل عن فنان، ففوجئت في كتاب “عزيزي شارلي” لكامل التلمساني عن شارلي شابلن وانبهرت به، وكيف جعل من الممثل الكوميدي قيمة رفيعة عبر تحليل المشاهد التي يؤديها ودلالاتها.. هذا ما أبهرني في هذه المهنة، النقد الفني.
حصلت على الثانوية العامة في مدة ثلاث سنين وليس في سنة واحدة، وكان معهد الفنون المسرحية حلم صعب الوصول إليه عسير، سبقني إليه زميل دراسة كنا نحلم بالمعهد سويا، وكان المعهد أول نجاح لي في حياتي، تقدمت طابور طويل من المتقدمين للالتحاق به، وكان هذا أول نجاح لي بعد فشل طويل مزمن سابق لدخولي المعهد.
كنت قد أدمنت مشاهدة الأفلام في دور السينما، وكانت رحلة ذهابي إليها أثناء اليوم المدرسي نهارا، فكنت أتغيب عن المدرسة من أجل حبيبتي السينما، كان ذلك عام 1957 ويحتوي على موجة هامة من الأفلام الرائعة جدا مثل امرأة في الطريق ورنة الخلخال، والعجيب أن هذه الأفلام هي التي أتذكر مشاهدها تفصيليا بشكل دائم حتى وقتنا هذا.
وعلى جانب آخر كان والدي يصطحبني معه إلى المسرح، وكان هناك اختلافا مزاجيا بيننا، فلم أكن أحب مسرح يوسف وهبي، وهو كان مغرما به، أتذكر أنني ذات مرة أصررت على أن أشاهد مسرحية بداية ونهاية المعروضة في المسرح القومي رغم أنه كان ينتوي الذهاب إلى مسرح يوسف وهبي، وفي النهاية ربحت أنا وشاهدنا بداية ونهاية وهو نفسه أعجب بها. هذا عن المسرح، أما السينما فكانت رحلتي المفضلة باستمرار.. وأتذكر من دور السينما القديمة اللاتي أعتدت ارتيادها سينما سهير في العباسية وسينما كليبر في عماد الدين، اختفت الآن سينمات كثيرة ممن عشنا مع أفلامهم سابقا.
هناك كاتب اسمه الثاني هو “الدالي”، هذا الكاتب كتب مقالا عن فيلم “عائشة” لفاتن حمامة، كان المقال في كتاب يصدر عن سلسلة كتب للجميع، هذا المقال أثر في كثيرا، لأنه أوضح زيف الفيلم، فقصة الفيلم تحكي باختصار عن رجل فقير نشال يعلم أولاده السرقة، بينما يظهر في الفيلم الرجل الثري الذي أخذ عائشة ليربيها كإنسان نبيل ولطيف ورائع ولا يبخل عليها، وفي المقابل يبتزه الرجل الفقير. وذكر كاتب المقال في مقاله أن هذا لا يحدث في الواقع. هذا النقد يفتح للقارئ آفاق فكرية، ولم تكن في فترة البدايات مقالات نقدية، فوجدت نفسي اكتب بعد سنوات من هذا المقال نقدا سينمائيا واستمر حتى اليوم الذي وصلت فيه إلى ما أنا عليه.
بعد التخرج وتعييني في وزارة الشباب اجتمع معنا سعد الدين وهبة، وقال لنا كمجموعة خريجين شباب جدد وقتها: من يريد أن يعمل في وزارة الثقافة يكتب لي طلبا بذلك وسأوافق عليه. الحقيقة أنني لم أخذ وقتا طويلا في التفكير واتخذت وقتها موقفا وهو أن أكون ناقدا حرا وأبقى خارج مؤسسة وزارة الثقافة وأعمل في وزارة الشباب واكتب للنقد بحرية أكبر، وظللت سنوات لا يعرف أحد بوزارة الشباب أنني الذي اكتب مقالات في النقد في الصحف والمجلات، فكنت أنا بالنسبة لهم مجرد أخصائي الفنون المسرحية بالوزارة. ويمكن أن أصارح نفسي بأنني أبقيت على عملي بالوزارة لكسب عيش منتظم، فلاحظ أننا ولفترة طويلة لم تكن مجالات الكتابة مفتوحة أمامنا بعد مقاطعة أغلب الدول العربية للثقافة المصرية بعد مبادرة السادات وزيارة القدس ولسنوات طويلة لم يكن لي دخل إلا الوظيفة.
هناك شخصيات تعلمت منها أشياء عظيمة في المعهد، الدكتور فخري قسطندي، كان أستاذ الأدب الإنجليزي وقام بتعليمنا دروسا في التحليل، كان أسلوبه النقدي هو أن يتوقف أمام كل مشهد ويتأمله بدقة كبيرة، فمثلا تكوين رقصة الدانتيلا التي ترقصها نورا في مسرحية بيت الدمية، يقول عنها أنها قريبة إلى رقصة الطائر الذبيح المسكين الذي يقع في حبائل العنكبوت، الواقع أنني تعلمت كثيرا من دقته في التحليل. ومن الأساتذة المهمين لي أيضا الكاتب رشدي صالح والفنان محمود مرسي، والأخير لم تتطور علاقتي معه إلا بعد فترة طويلة جدا من التخرج، والذي أحببته واحترمته فعلا كان الشاعر عبدالرحمن صدقي، شاعر المرأة، كان يتمتع بالقدرة على إبداء ملاحظات إنسانية جميلة.
السينما.. الحرب.. السياسة
اتخذت في تقديري فيلم “الفتوة” معيارا لأهم الأفلام، فصلاح أبوسيف بحسه الشعبي والوعي العفوي جعلك تتعاطف في البداية، وفي رحلة صعوده مع فريد شوقي، ثم يقل التعاطف تدريجيا حتى تكتشف أنه الوجه الآخر لزكي رستم حين نمت له مخالبه وأنيابه. هناك فيلما آخر من الأهمية والتوازي مع الفتوة وقدم بعد عقود من فيلم الفتوة، وهو فيلم أهل القمة لعلى بدرخان، الفيلم يجعلك تتعاطف مع البطل في رحلة صعود دون أن تدرك جريمته، وهنا يصبح الفتوة معيارا للأفلام الموازية. وكذلك فيلم جعلوني مجرما لا يجعلك تخرج من السينما وأنت تتصور أن الشرير قد ولد وبداخله جرثومة الشر، ستدرك أن هناك ظروفا هي التي تصنعه.
في بداياتنا وفي أيامنا كان الجميع مهتم بالسياسة، أما الآن قطاعات قليلة هي التي تهتم بالسياسة، أيامنا حازت القضية الوطنية اهتمام كل الشباب، ولكن الآن الديمقراطية هي القضية المهمة، ولم يعد العدو الخارجي في خطورة الخصوم الداخليين، أيامنا كان هناك نوع من أنواع التسامح مع النظام الناصري، لأنه قدم أشياء للناس، وليس أمامنا إلا العدو الخارجي، والعدو الخارجي قوة باطشة وهو ما جعلنا جميعا ننشغل بالسياسة بشكل ما.حتى جاءت فترة حرب الاستنزاف وحتى حرب 73، في هذه الفترة كنت تجد أجزاء من أفلام مضيئة وأخرى متواضعة، والحقيقة أنه من ضمن الأشياء المدهشة أنه كان هناك تلاحق سريع للأحداث، كانت أعيننا هكذا، عين على الواقع وعين على السينما، وبينما يتغير الواقع بشكل أسرع وأسخن من السينما، وإنما كنا نتابع كل شيء.
ثم جاءت حرب 73 وبعدها بخمس سنوات مبادرة السادات، ثم مظاهرات واعتقالات، حدوتة غريبة جدا، ثم مقتل السادات، كل ذلك بينما يوجد في الربع قرن الأخير ما يسميه البعض سلام أو سكون، لكنها الحقيقة أنها فترة خالية من أحداث كبرى، البعض يسمى هذا استقرارا وفي المقابل يعتبره بعضا آخر تعفن، لكن في الفترة السابقة لتلك الفترة الساكنة هناك فوران بالأحداث تبعث انعكاسات هذا الفوران على الشاشة.
أما عن جماعة السينما الجديدة من كل ذلك، فكانت أعمالها تظهر بها نفحة الحداثة، هذه النفحة كانت متوازية كذلك في النقاد، وفي السينمائيين التسجيليين، وهذه نقطة مهمة لأن وجود جماعة السينما الجديدة تزامن مع نهوض السينما التسجيلية في تلك الفترة، ظهر ذلك في أعمال صلاح التهامي وسعد نديم وعبدالقادر التلمساني، بعدهم جاءت الموجة الثانية وبالتحديد عبر اثنين هما هاشم النحاس وعطيات الأبنودي، كل منهما قدم فيلما فتح طريقا في السينما التسجيلية، حيث اختفي صوت المعلق من خارج الكادر، واختفت أيضا صور الرؤساء والوزراء وظهر رجل الشارع ليحكي عن مشاكله ويتكلم وكان هذا تطورا هاما جدا في السينما التسجيلية.
والملاحظة الهامة هنا أن عدد من المخرجين الذين لمعوا في السينما الروائية هم أبناء السينما التسجيلية، ومن بينهم خيري بشارة وداوود عبدالسيد، وطبعا لن ننسى الإشارة إلى فيلم من أهم الأفلام التسجيلية أخرجه أحمد راشد واسمه “أبطال من مصر”، فيلما قويا ومؤثر بشكل كبير. باختصار كانت موجة السينما التسجيلية عقب حرب 1973 موجة هامة جدا، وطبعا في نفس الفترة كانت هناك أفلام أقرب إلى النبوءة مثل فيلم “عوده الابن الضال” ليوسف شاهين، وفيلم “عيون لا تنام” لرأفت الميهي، وفيلم “البرئ” لعاطف الطيب.
الأستاذ.. محمود مرسي
علاقتي بمحمود مرسي غريبة جدًا، ظل يتعامل معي بعد تخرجي من المعهد ولفترة طويلة وكأنني نفس الطالب الذي كان يدرس له في المعهد في الخمسينات، فقد قابلني ذات مرة في نهاية السبعينات وقال لي: “إيه يا ولد لسه بتمشى مع أصحابك المتشردين؟”، لم يدرك أنني كبرت وتغيرت، كنت أنزعج لكنني ظللت أحبه، وشعرت بأنني محظوظ لأنني كتبت عنه كتاب التكريم له، وأتيح لي وقتها أن أحاوره في الحوار الوحيد الذي تكلم فيه باستفاضة، ولا يمر بي يوم إلا وأتذكره من قوه تأثير شخصيته، وقد أجريت معه الحوار بدون ورقة أو تسجيل. وكانت لغته الراقية عندما أعود ليلا واكتب أشعر بحضوره بجواري وأنه يملي على ما اكتبه، وأقوم حاليا بإعادة قراءة هذا الكتاب لاكتشف رونق الكلام وتأملات هذا الأستاذ في الحياة والفن واعترافه بقدرات الآخرين وخصوصا حسين كمال، الذي شهد بأنه أفضل مخرج يدير الممثل، وكذلك تقديره الرفيع لهدى سلطان. ومن ضمن ملاحظاته الجميلة قال لي: “أن هدى سلطان أدت دور ست أمينة في بين القصرين بمفهوم مختلف تماما عما قدم في المسرح والسينما، هدى أدت الدور بمفهوم المرأة التي تعلم تماما ما يفعله زوجها ولكنها تريد أن تحافظ على البيت”، وأضاف أنها كانت تباغته، تقصد السيد عبدالجواد، بنظرات ليست شرسة إنما بفهم وبصيرة فهي تعلم عني كل شيء.
ومن نزاهته قال لي أن يحيى شاهين أدي شخصية أحمد عبدالجواد أفضل منه في السينما، قالها بتعبير جميل جدا: “لقد كنت أبحث عن أحمد عبدالجواد بينما أحمد عبدالجواد كان يبحث عن يحيى شاهين”،… الحقيقة أنني تعلمت من هذا الأستاذ محمود مرسي أشياء جميله جدا.