بعد واقعة مطرانية ملوي.. هل يعيش التراث القبطي أزمة؟
مؤخرًا، تم تداول صور على وسائل التواصل الاجتماعي لعمليات هدم لمطرانية ملوي التراثية (تم تشييدها عام 1927) بعد أن تقرر إعادة بنائها مرة أخرى بغرض التوسعة والتجديد. عملية الهدم الأخيرة لم تكن سوى حلقة بسيطة من سلسة الفقد التي يتعرض لها التراث المصري في السنوات الأخيرة.
واقعة مطرانية ملوي لم تكن الأولى، وربما لن تكون الأخيرة. ففي عام 2021، تم انتقاد طريقة التعامل مع دير درنكة بأسيوط، إذ اعتبرت أعمال «التطوير» وقتها تشويهًا صريحًا، لتراث قبطي بات يفقد قدرًا كبيرًا من أصالته.
المتخصصون في التراث اعتبروا أن ما يسمى «تطوير» يتم دون أي مراعاة للقيم التي يحملها هذا التراث المتفرد، واعتبروا أن للموضوع أبعادا أخرى عديدة، من بينها «بيزنس» كبير ينتج عن هدم هذه المباني بغرض إعادة بنائها مرة أخرى وفقًا لرؤية «المقاول».
متخصصون يشرحون
طرح «باب مصر» الأمر على المتخصصين لتوضيح رؤيتهم حول ما يحدث، ومعرف الهدف منه، وكذلك اقتراحاتهم لتجنب ذلك في الأعمال المستقبلية.
ذكر الدكتور عاطف نجيب، أستاذ القبطيات بجامعة القاهرة ومعهد الدراسات القبطية، أنه في مارس 2021 تم تشكيل لجنة باباوية باسم «اللجنة البابوية للعناية بالكنائس القديمة»، وكان أحد أعضائها مع مجموعة كبيرة من المتخصصين مثل: الدكتور سامي صبري، أستاذ العمارة بجامعة القاهرة وعضو اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية سابقًا، والدكتور عادل المنشاوي، أستاذ العمارة بالأكاديمية البحرية بالإسكندرية، والدكتور إسحاق عجبان، مدير معهد الدراسات القبطية، والمهندس عاطف عوض، عضو هيئة التدريس بمعهد الدراسات القبطية، والدكتور داود خليل مسيحة، أستاذ العمارة بمعهد الدراسات القبطية.
لجنة على الورق!
يضيف نجيب: “حتى الآن لم تجتمع اللجنة، ولم يفعل قرار تشكيلها. لذلك، أرى أن التراث القبطي في السنوات الأخيرة يعيش أزمة نتيجة الرغبة المتسارعة في تغيير كل ما هو قديم. كنت قد اعترضت وقت تطوير دير درنكة في أسيوط، لأن ما حدث داخله لم يكن ترميمًا بل تشويهًا. فاللجنة البابوية للعناية بالكنائس القديمة لم تنعقد لأن هناك ببساطة «فيه ناس مش عايزة اللجنة تشتغل». ولا يريدون أن نكون «الصوت العالي» لأنهم يعرفون مطالبنا وهي: ترميم المباني الأثرية والتراثية، والاحتفاظ بالمواقع التراثية. وكان من الممكن أن نكون حائط صد أمام أي تجاوز؛ لذلك لم يرد أحد أن تباشر اللجنة عملها”.
هوية تتبدل
يرى أستاذ القبطيات أن أزمة التعامل مع التراث القبطي تشبه أزمة التعامل مع التراث الإسلامي. يقول: «التراث بشكل عام يعيش أزمة حقيقية، وما يهم كلًا من مسؤولي الكنيسة والأوقاف هو تجديد الأماكن الدينية، دون مراعاة طابعها التراثي أو الأثري. ولا أجد لذلك سببًا. فالهوية المصرية تتبدل، وهي مهددة بصورة لم تحدث من قبل، بدءًا بالعمارة الإسلامية والمسيحية، وصولًا إلى ما يحدث من عمليات هدم لمقابر القاهرة التاريخية. ولا حياة لمن تنادي».
وعن الاقتراحات، يرى «نجيب» أنه من الممكن الاحتفاظ بالمباني التراثية وعمل ما يشبه التوسعة للموقع. مع الاحتفاظ على أصله. يقول: “أعرف أن الكنيسة في كثير من الأحيان ترغب في زيادة الطاقة الاستيعابية للكنائس القبطية، نتيجة الرغبة في زيادة عدد الأنشطة الكنسية، وتحسين الخدمات المقدمة، ومواكبة العصر. لكن لا يجب أن يتم ذلك على حساب المواقع التراثية. فمبنى مطرانية ملوي كان من المستحيل تسجيله في عداد الآثار، نظرًا لأن قانون الآثار يتم تفسيره من جانب مسؤولي الوزارة بشكل مختلف. فشرط المائة عام فضفاض، لأن الآثار كجهة تعتبر أن المقصود بالقانون هو تسجيل المباني التي تجاوزت الـ100 عام من وقت صدور القرار؛ أي لابد أن يكون الأثر مبنيا وقائمًا قبل عام 1883، حتى يسري القرار، ومن ثم تسجيله. وبالتالي، فأي مبنى لا ينطبق عليه هذا الشرط من المستحيل تسجيله كأثر”.
أزمة وعي
الدكتور إبراهيم ساويرس، أستاذ اللغة القبطية بجامعة سوهاج، يرى أن سبب الأزمة هو غياب الوعي داخل المجتمع. يقول: “كلنا مقصرون، والمشكلة أن كلًا من «الآثار» كجهة و«الكنيسة» ككيان غير قادرين على التعايش سويًا. هناك معوقات كبيرة في التعامل بين الجهتين، ولذلك يجب وضع أسس لطريقة التعامل، لأن استمرار الوضع بهذا الشكل سيخلق مشكلات كبيرة”.
ويضيف: “الأمر الثاني أننا نمتلك داخل مصر عشرات الكليات الإكليريكية، وعشرات المدارس الموجودة خارجها في مختلف دول العالم. ورغم هذا العدد، إلا أنهم غير مهتمين بتدريس التراث القبطي المادي، فضلًا عن غياب دراسة الفنون المسيحية وتطورها. لذلك ليس مستغربًا أن نجهل تطور الفنون والعمارة القبطية. وسينصلح الحال إذا ما قررنا تعليم الناس قيمة التراث القبطي. وما دام هناك جهل بقيمة ما نمتلكه، فستظل الأزمة. فعادة ما أذهب للتدريس في الكليات الإكليريكية وأنصح بتدريس التراث القبطي المادي، لكن لا أحد يستمع إليّ. القليل فقط من يستجيبوا لهذه الرؤية”.
بيزنس كبير
يوضح ساويرس أن الموضوع أوسع من فكرة الحفاظ على التراث، إذ يعتبر أن الأمر عبارة عن «بيزنس كبير». يقول: “هناك مبالغ باهظة تدفع في تطوير المباني الدينية، وفيه ناس كتيرة بتستفيد من العملية. لذلك، رفع الوعي في هذه الحالة صعبة جدًا وتكاد تكون مستحيلة. فقد بذلت مجهودات كبيرة، لكن هذه المجهودات لا يمكن مقارنتها بالبيزنس الذي يحدث. لأنه اقتصاد كامل، وهناك من لهم مصلحة في استمرار هذه العمليات التي يطلقون عليها اسم «التطوير». فالمبالغ التي يتم دفعها لا يمكن لأحد أن يتخيلها”.
يتابع أستاذ اللغة القبطية: “وصلَّ الأمر في بعض الأحيان إلى الرغبة في تغيير الأيقونات القديمة التي تجاوز عمر بعضها 150 عامًا داخل الكنائس، بدعوى التطوير. أصحاب هذه المدرسة لا يريدون الحفاظ على التراث، ولا يهمهم أصلًا. ما يهمهم هو تحقيق أكبر قدر من الربح. فتغيير هذه الأيقونات مثلًا واستبدالها سيفتح باب رزق جديدا للمقاولين والفنانين. لذلك، يصبح من الضروري استبدال القديم بالحديث ما دام سيستفيد البعض من ذلك. وهذه ليست أيادِ خفية، بل أياد واضحة تمامًا كضوء الشمس.”
ويختتم حديثه ويقول إن عملية رفع الوعي القبطي بطيئة جدًا ومعقدة؛ لذلك يرى أنه من الضروري دعمها من جانب قادة الكنيسة المصرية، وإلزام الناس بدراسة التراث القبطي، كي يحترموا خصوصية وتفرد مبانيهم الدينية التي يمتلكونها.
اقرأ أيضا:
تهريب المخطوطات القبطية: الطريق إلى الحلم الأمريكي