انتصار عبدالفتاح… حكاية سلام في عالم الفن

“أصلي في باحة مفتوحة للسماء، مستقبلاً الشرق في الفجر والغرب في الغسق، حتى ينفتح الكون أمامي، ويستقبل الكون كلّه أصوات تسابيحي، فأنا أهمّ بالترنّم بمدائح الواحد الكل” تعاليم الحكيم هرمس، هي إحدى قواعد حياته الأساسية، والتي بها اخترق مجال الفن تحديدًا الإخراج المسرحي، فهو الشخصية المجتهدة والبسيطة والناجحة والمؤمنة جدًا والملتزمة في دينها، فهو صاحب البصمة الجوهرية بأعماله الفنية قديمًا وبتنظيمه ورسائلها المنبعثة من مهرجاناته التي يُنظمها حاليًا، هو انتصار عبدالفتاح، المشرف على مهرجان الطبول ورسالة سلام.
ولد انتصار عبدالفتاح عام 1953، وتخرج في أكاديمية الفنون بمعهد الكونسرفتوار، حصل على درجة الماجستير من جامعة بولندا، إلا أن التغيرات السياسية بالبلاد هناك أحالت بينه وبين تسجيل الدكتوراه على الرغم من انتهاء العمل بها، ومن ثم عاد إلى مصر وبدأ مشوار إخراجه المسرحي، والذي تخللها أعمال ونجاحات وجوائز أيضًا تمتد إلى أكثر من 40 إلا أنه يعطي لنفسه عمر  8 آلاف سنة من عمق الحضارة المصرية القديمة”.

العروض الأولى

انتصار عبدالفتاح يرتبط في أذهاننا بمهرجاني الطبول ورسالة سلام، إلا أنه مر قبل ذلك بعدد من المحطات الهامة التي لا يمكن أن نغفل عنها، قبل أن يترأس هذين المهرجانين “فتاريخه حافل بالأعمال والجوائز عليها أيضًا” هكذا تحكي لي زوجته وشريكة حياته ومشواره، التي تحفظ أعماله وتاريخه الفني عن ظهر قلب، وهي مديرة مركز قبة الغوري أيضًا.
أخرج الفنان عددًا من الأعمال الفنية الهامة منها العرض المسرحي ترمبية مع مخرج إيطالي، في  الافتتاح التجريبي لمسرح الصوت والضوء، و”الدربوكة” والذي لم يكن مجرد عمل متميز وحسب بل على أساسه تم تنظيم المهرجان التجريبي وعليه عرض في افتتاح الدورة الأولى، ليكون بذلك انتصار عبدالفتاح هو صاحب فكرة العمل التجريبي في مصر.
من الواضح أن رسالة السلام وجهتها أعماله قبل أن تبادر في ذهنه فكرة المهرجان، ففي الدورة الثانية لنفس المهرجان والتي عرضت في مسرح الطليعة، عُرض لعبد الفتاح العمل المسرحي ترنيمة 1 و2، وهنا صاحبها واقعة جميلة معه حيث تزامن وقت العرض مع أحداث حادثة إرهابية سمعت العالم، وهنا كان السفير الألماني ضمن الحضور في المهرجان، فقرر اختيار هذا العرض لُيمثل مصر في الخارج كرسالة بأن مصر لا زالت بلد الأمن والأمان.

مخدة الكحل

في عام 1998 أنتج الفنان عمل هائل يسمى “مخدة الكحل” والذي كان “وش السعد” على انتصار عبدالفتاح، ليس لأنه عُرض في المهرجان التجريبي في دورته العاشرة، فهو اعتاد أن تختار أعماله في هذه المهرجانات، إلا أنه حقق أول إنجاز حقيقي لأعماله وليس فقط له بل لمصر أيضًا، نظرًا لاختيار هذا العمل كأحسن عرض في المهرجان وبذلك تحصل مصر لأول مرة على أحسن عرض من بين الدول المشاركة ذات الأعمال الهامة جدًا مقارنة بالآن، منذ تنظيم المهرجان من 10 سنوات.
استمر انتصار في صناعة المجد لنفسه بأعماله التي تميز في إخراجها، وذلك لأنه ليس مخرج فقط بل هو موسيقي أيضًا مما يجعل إحساسه بأعماله يختلف عن غيره، فتميزت أعماله  بالإحساس والسرعة في إيقاع العمل دون الملل، على حسب ما وصفته زوجته أيضًا.

تحويل الدفة

بالرغم من أن جميع ما سبق نقاط هامة في حياة انتصار عبدالفتاح إلا أن العمل الجماعي المحدد بهدف ورسالة سامية هو الأكثر نجاحًا خاصة وإن كانت هذه الرسالة هي رسالة سلام، وبهذا حول دفة حياته المهنية إلى المشاركة بل والتأسيس لمهرجانات كان على يقين تمامًا بأنها ستغير مجرى حياته.
لا أعلم إذا كان يقصد أما لا عندما أجاب عن سؤالي ما هي بداياتك، فقال مهرجان سماع، ليحكي لي أنه عندما تولى مركز إبداع قبة الغوري في عام 2006، قام بعمل دراسة عامة للمكان، ليضع فلسفة جديدة وبصمة خاصة به تتناسب مع عقليته الفنية والثقافية المتميزة والمبدعة والخارجة عن المألوف كالعادة.
في المركز كان يوجد قاعة تسمى “القهقاق” تابعة للصوفية؛ فقرر توظيفها بشكل آخر وجعلها مركز لفرقة سماع وفن الإنشاد على مستوى العالم من جهة، ومركز لفنون ثقافات الشعوب من جهة أخرى، ليكون ورشة منشد الغوري على ثلاث مراحل.
المرحلة الأولي كون فرقة سماع للإنشاد الصوفي، وعمل ورشة منشد الغوري، ونزل الأقاليم واكتشف أصوات هامة وضمها إلى الفرقة،  ثم المرحلة الثانية “لأن الموضوع ليس فقط الإنشاد الصوفي وأيضًا التراتيل القبطية على أساس شخصية مصر، لأنني بهدف إلى التأكيد على هوية مصر”.
“كتبت للبابا شنودة عن مشروع فرقة إرسال السلام، وطلبت مجموعة من الشمامسة، والذي رحب وقال: “على البركة” من خلال ذلك ضم مجموعة هائلة، ثم المرحلة الثالثة وهما مجموعة الترانيم الكنسية والمقاربة إلى الطريقة الأوبرالية.
اكتسبت الفرقة شهرة عالمية وذهبت إلى أغلب بلدان العالم، فرنسا وألمانيا وإيطاليا والفاتيكان والصين، وأطلقت في أكبر الكنائس الأوروبية الأذان والأغاني الدينية كطلع البدر علينا؛ وسط حالة صفاء ومحبة من الحضور فاقت الإحساس لدرجة أن الفرقة لم تشعر ببرودة الطقس الذي وصل حرارته تحت الصفر في الفاتيكان، وقاموا بأداء رائع وسط حضور 1000 شخصية سياسية أُغرمت برسالة السلام.
لم تعد رسالة سلام هي فرقة بحسب بل أصبحت العلاقة بمهرجان سماع ارتباط أبدي واصفًا إياه “علاقتي بها لا توصف لذلك لما يكون في تحديدات دايما بقول المهرجان بدأ بفاورق حسن مرورًا بعدد من الوزارات أبرزهم جابر عصفور، والدكتور محمد صابر عارف وحلمي النمنم إلى الدكتورة إيناس، فالأشخاص تتغير لكن الإبداع مستمر وقائم… فمهرجان سماع وملتقى الأديان ومهرجان الطبول كالوطن والوطن لا يموت” على لسان انتصار عبدالفتاح.

ملتقى الأديان

من مهرجان سماع إلى ملتقى الأديان، والذي يعقد في سيناء بدير سانت كاترين، تحت رعاية وزارة الثقافة واليونسكو، لم يكن مجرد فكرة تحتاج إلى التنفيذ بل صرح انتصار عبدالفتاح في برنامج “لقاء خاص” بأنه كان حلم وأحد أهم طموحاته التي سعى لها هي الوصول إلى الأراضي المقدسة وطريق الأنبياء.
في الصحراء ومع أناس من بقاع العالم المختلفة، حيث لا يوجد ضجيج مدينة أو سيارات أو أي أشغال وأعمال تلهيك عن ربك، تؤكد بأن لا حجاب بينك وبين الله فهي فقط روحك تصعد إلى السماء من خلال صلاتك في هذا الفضاء الشاسع والتعبد إلى ومع الله.
فما روعة هذه الرسالة الروحية التي يبعثها انتصار عبدالفتاح إلى نفوس البشر كافة، من خلال ملتقى الأديان بشعاره “هنا نصلي معًا”، فبعد انتهاء مهرجان سماع والذي يتكون من أكثر من 20 فرقة من مختلف دول العالم، يختار من بينهم حوالي 15 فرقة متنوعة اللهجات والديانات والأشكال، إلى دير سانت كاترين ليعقد الملتقى بهم ولهم.
“المسألة ليست شعار ولكنه مرتبط بمعنى الحضارة وبعمق التاريخ” يفسر الفنان شعار الملتقى بهذا التعبير، والذي يتضح تمامًا في فعالياته الهادفة إلى السلام، “فكًلا يصلي على طريقته كلنا ننصهر ونتوحد بمعزوفة كونية في هذه اللحظة الإنسان هو الوطن والوطن هو الإنسان” وصف الفنان لملتقى الأديان.

مهرجان الطبول

بين هذا وذلك انطلق مهرجان هدفه مقارب بالطبع لأهداف سماع وملتقى الأديان، وهو التواصل الإنساني بين ثقافات الشعوب، فهي القوة التي تدفعه إلى تنفيذ المهرجان، ولكن باختلاف التعبير، فباستخدام الإيقاع المتناغم الذي يخترق القلب، ينظم الفنان المهرجان الدولي للطبول والفنون التراثية، والذي يتكون بالمشاركة مع دول العالم المختلفة.
بالطبع المشاركة والتمثيل الدولي لكل دول العالم هي وسيلته الأساسية في تحقيق هدفه، وعليه تقدم كل دولة فرقة تمثل حضارتها بالطبول، والتي تضع كلماتنا جانبًا وتتحدث هي نيابًة عنهم، كل ذلك بإشرافه وفكرته وقيادته للمهرجان من البداية للنهاية.
“الطبول” هي حكاية غرام أخري في حياة انتصار، فهو لم يختار الطبول عبثًا، بل لأنه مغرم بها وبكل نوع وشكل لها، فهو يملك غرفة كاملة تحمل بداخلها عدد هائل من الطبول، فهو يعرف جيدًا نوع كل إيقاع صادر من كل واحدة، سنين طويلة وهو يدرس ويجمع ويذوب مع هذه الإيقاعات، إلى أن استطاع أن يلملم كل إيقاع صادر من كل طبلة تحملها كل يد في كل فرقة، ليخرج لنا إيقاع واحد يطرب الآذن ويبهج القلب.
كل هذه الأعمال والمهرجانات تنست إلى انتصار عبدالفتاح، والذي يفكر في تأليف كتاب يجمع فيه أعماله، ليرسخ به رسالته التي لا زالت تنتشر في ربوع العالم بأجمعه، فهي لم توحد فقط الأديان بل وحدت الشعوب واللغات أيضًا وأصبحت كلمة “الله” هي السائدة على لسان وقلوب كل من يستمع إلى فرقة “ٍسماع” ويتفاعل مع مهرجان “الطبول” ويصلي معهم في “ملتقى الأديان”.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر