«الوداع» يليق بالمهاجر

منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي، ذاعت ظاهرة النزوح الطوعي خارج تخوم مصر. ولا أعرف أن أوطاناً أخرى، سواء في منطقتنا العربية أو في أوروبا قد شهدت هذا المسار، غير أني أدري أنها كانت حالة غير مسبوقة من قبل في عالم المدينة، حيث اعتاد المصريون القبض على جذور النشأة حتى الموت في ترابها. فالفلاح يسكن مع بهائمه ويجري حواراً معها وكأنها كائن مماثل له. وقد صور توفيق الحكيم ذلك في رائعته “عودة الروح”، وكذلك عبد الرحمن الشرقاوي في “الأرض”، لأن النماذج البشرية التي صورها نبتت من رحم القرية وعاشت مآسيها ومباهجها. وإن كان يوسف إدريس قدم لنا في “النداهة” نموذجاً آخر لاختيار صعب، تجسَّد في فزع فتحية من المدينة والولع بها، والزوج الذي اكتشف زيف الواقع وكذبة فيتجهز لهجره.
كل تلك الصور أكدت اعتياد أبناء مصر على التوطن والاستقرار. ربما النيل والزراعة كانا سندا لذلك، فلم تخاطره يوماً ما مفردة الهجرة، إلى حد القسم بغربته حينما يغادر قريته إلى البندر أو القاهرة بغية قضاء مصلحة ما. حيث يحكي أحمد أمين أنه يوم توظفه في طنطا، بصحبة متاعه، لازمه كل أفراد العائلة لتودعه على محطة القطار. وربما أيضاً رمزية الأرض ودلالتها المتمثلة في معاني الشرف والكبرياء، حيث يبرز ذلك في الأغنية الشعبية التي ترددت طويلاً “عواد باع أرضه.. على طوله وعرضه”، والتي كانت مدعاة للسخرية من التفريط في العرض.
***
لقد عرف المصريون شكلاً آخر من الهجار كما كانوا يسمونه، حدث ذلك إبان الحرب العالمية الثانية حيث تحطمت أحياء بالكامل، حتى اضطر كافة الأهالي الفرار من الديار إلى القرى والمدن الصغيرة. مروراً بحرب 67 حيث نزح عديد من سكان مدن القناة، السويس والإسماعيلية، هرباً من الدمار الذي طوق المدن جراء القصف الإسرائيلي للأحياء ولأرجاء المدن. حيث حل كثير من الأهالي بالقاهرة والإسكندرية، وفارقت حشود غفيرة مدنها، الإسكندرية وغيرها، في ظل العدوان الثلاثي على مصر 1965 – خوفاً من المعركة الدامية. وزحف عدد هائل إلى القرى النائية، وحفرت مذابح ومجازر العدوان وصور المقاومة في الذاكرة تاريخياً لا يفنى في مدينة بورسعيد.
وحدث تهجير آخر داخل مدن القطر المصري، وذلك حينما تهدمت البيوت العتيقة والآيلة للسقوط في الحواري والأزقة بالمناطق الشعبية، حيث سكن عديد من القاطنين الأزقة في مخيمات مهترئة ومأوى من الصفيح، حيث ازدحمت الشوارع الضيقة بها، ثم غادروها إلى المساكن الشعبية في أرجاء نائية.
***
وفي سبعينيات القرن الماضي نشط الانفجار المعماري في مدن عديدة داخل القاهرة والإسكندرية، فبرزت البنايات الشاهقة والكومباوند الذي احتل مساحة ضخمة في تلك المدن، حيث وفد من أنحاء الصعيد والدلتا أسراب من البشر الشغيلة الذين مهروا في حرفة المعمار، وما صاحب ذلك من تحولات في أنماط السلوك والمفاهيم الجديدة، وصعود نموذج “البواب” الذي برهن على براعته فضلاً عن الحراسة، فأتقن السمسرة وتقاسم مع آخرين في مشاريع استثمارية عديدة.
وأفرزت تلك الحقبة أيضاً زخم الهجرة إلى بلدان الخليج والعراق وليبيا حيث وفرة فرص العمل والبذخ والثروة الزاخرة. سافر آلاف الأنفار من مدن وقرى مصر، البعض أقام في تلك البلدان، بينما عاد آخرون محملين بثقافة وأعراف البلدان التي سكنوها، الزي، اللهجة، السلوك، والأفكار والتصورات.
آنذاك، وفدت جماعات من أبناء تلك البلاد إلى مصر وحلوا بأرجاء حفلت بالمتعة واللهو والترفيه، يطرقون الملاهي الليلية بشارع الهرم الذي صار محطة متميزة لدى هؤلاء الغرباء الذين سكنوا بعض الأحياء والأنحاء في مصر.
***
وفي الآونة الأخيرة، شهدت أقطار الخليج ظاهرة أحدثت تحولات في البنية الاجتماعية، ومثلت وثبة متفردة، حين حظيت تلك الأقطار بنوافذ مفتوحة لتيارات فنية راهنة، مسكونة بإيقاعات الغناء والموسيقى وأشكال وصور أخرى من التعبير الفني السينما والمسرح والرقص التعبيري، إلخ. وكأنها تستكمل تقاطعات التجارب التي مرت بها المراحل التي حلت بها.
ومن مشاهد الهجرة القسرية، التهجير الذي أعقب التعلية الأولى لخزان أسوان في العام 1922، والثانية في العام 1942، حدث شتات أهالي النوبة في صحراء التيه بكوم أمبو، فقد رفضت السلطة أن يصعدوا بالقرى النوبية إلى ما فوق منسوب مياه الخزان مثلما فعلوا مع المعابد النوبية – أشهرها معبد أبو سمبل. وكان أكثر مظاهر هجرة القرى النوبية أثناء بناء السد العالي وما تلى ذلك.
ومن الجدير بالذكر أن الهجرة صارت ظاهرة ألمت بالمصريين، أبرزها الهجرة غير المشروعة حيث ضاقت سبل الحياة. وتفشى العيش على الحافة، هاجرت جموع عديدة عبر البحر والبر، دونما حساب للمخاطر التي قد تصادف مغامرة الرحلة الجهنمية العابرة للحدود، ربما قليل من الأمل، ربما بعض من الربح أو الخسارة، كل ذلك في ظل تبديد اليأس وتجديد الأمل.