الهجوم على هيكل: زوبعة في فنجان صغير للقهوة العربية المُرة
لم يحظ كاتب مصري أو عربي في التاريخ الحديث باهتمام مثلما حدث مع محمد حسنين هيكل. ولم تكتب الدراسات والأبحاث والمقالات عن كاتب سياسي مثلما كتب عنه. وكذلك لم يهاجم كاتبا ويتعرض لنقد شديد مثلما هوجم.
فقد عاش هيكل حياة حافلة وتجربة قلما تتكرر مع صحفي في التاريخ. ولذلك كانت العيون عليه والآذان أيضا تترقب كل ما يكتبه وكل ما يقوله وتنتظر ما سيكتب وما سيقول.
نحن أمام صحفي التصق بقمة السلطة ووصل إلى ذروة المجد المهني وبطبيعة الحال كوّن صداقات وأصبح لديه عداوات من زملاء المهنة ومن السياسيين الذين ارتبطت بهم كتاباته يوما ما.
في عهد جمال عبدالناصر كان هيكلا في قمة قوته ونفوذه. فكان الاعتراض على ما يكتب بمثابة الاعتراض على صوت النظام الحاكم فمحاولة الهجوم على رأي هيكل وقتها كان أشبه بعملية انتحارية قد تودي بصاحبها إلى التهلكة.
مقالات هيكل
وحدث أن كتب هيكل عام 1965 سلسلة مقالات بعنوان “حديث عن العمل الداخلي ومشاكله”. وفي هذه السلسلة من المقالات شن هجوما عنيفا على الحركة الشيوعية المصرية. وكتب بالنص: “ولقد كان مؤسسو الحركة الشيوعية في ذلك الوقت من الأجانب عموما ومن اليهود بالذات أذكر منهم “هنري كورييل”.
هذه العبارات كانت كفيلة بفتح باب من الهجوم العنيف على هيكل من أقطاب الحركة الشيوعية المصرية. ولكن الجميع صمت لأن هيكل وقتها كان في حماية عبدالناصر. وبعد وفاة عبدالناصر بدا أن السياج القوي الذي كان يحصن به هيكل نفسه قد زال أو في طريقه للزوال برغم قربه من السادات في بداية حكمه.
تحية للرجال
إلا أن باب النقد والهجوم الحقيقي على هيكل قد بدأ. وما أن كتب هيكل مقاله الشهير”تحية للرجال” في مارس 1971 حتى انهالت عليه صحيفة الجمهورية بالهجوم والتقريع وهو ما لم يكن يحدث سابقا. فقد كتب عبدالهادي ناصف عضو الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي مقالا بعنوان “تحية مردودة من الرجال إلى الأستاذ هيكل”.
ثم يكتب أنيس منصور عام 1972 مقالا طويلا في آخر ساعة بعنوان “صداقة الحظ والشرف”. يقول في مقاله: “إن هيكل لم يكن الصدى والظل لعبدالناصر دائما لقد كان الصوت والضوء أيضا. فقد كان حريصا أن يؤكد للقارئ أن المعنى لعبدالناصر والشكل له وكثيرا ما كان يسرف في الشكل تأكيد لذاته”.
وموسى صبري فتح النار على غريمه القديم اللدود. إذ كتب مقالين في الأخبار في ديسمبر 1972 بعنوان “المبشرين بالهزيمة- ماذا يريدون لنا؟ وماذا يريدون بنا؟”.
كتب فيه: “إن هيكل يستغل أجواء الديمقراطية لكي يبشر بالهزيمة ويشيع اليأس والبلبلة والتشكيك بين الجماهير التي تعد نفسها لقتال المصير موحيا للجماهير بأنه اللسان الرسمي المتحدث باسم الدولة”.
الهجوم على هيكل
ثم يستمر موسى صبري في هجومه قائلا: “أننا لا نتصدى لمجرد رأي يقال بل لإتجاه شرير تستحثه الكلمة وتدفعه أن يصل إلى منتهاه”. وفي عام 1972 ألقت المباحث القبض على المحامي اليساري أحمد نبيل الهلالي. وكان من ضمن الأحراز 5 ملفات تحتوي على دراسة عن هيكل كتبها الهلالي وكان يعدها للنشر في كتاب.
وعندما سألوه عن تلك الملفات أجاب: أنه يعتقد أن فكر هيكل ضار. وأنه يرى أن مقالات هيكل تثير البلبلة في النفوس وتشيع اليأس وتقدم مفاهيم خاطئة وضارة. كما كان الهلالي محامي علي صبري وقد استمع لتسجيلات دارت بين علي صبري وشعراوي جمعة بها تقييما لهيكل فوجد هذا التقييم مناسبا لضمه للدراسة. وتحفظ الأمن على الدراسة ويبدو أن الهلالي لم يتحمس لإعادة كتابتها مرة أخرى.
كل ذلك وهيكل على رأس الأهرام لم يخرج بعد من مملكته. وفي 2 فبراير 1974 صدر قرار بإقالة محمد حسنين هيكل من الأهرام. وتعيين”علي أمين” مديرا لتحرير الأهرام خلفا له. ولم ينتظر كثيرا علي أمين ليبدأ الهجوم بالغمز واللمز والتصريح أحيانا على هيكل. فقد استعاد عمود “فكرة” مرة ثانية بعد أن تركه في الأهرام منذ عام 1965.
الطريق إلى رمضان
وبدأ هيكل للتفرغ لكتابة كتابه “الطريق إلى رمضان” وكانت إدارة الأهرام قد آلت وقتها إلى إحسان عبدالقدوس كرئيسا لمجلس الإدارة وعلي حمدي الجمال رئيسا للتحرير. وعندما علمت إدارة الأهرام بكتاب هيكل الجديد اشترت حق نشره على حلقات من دار النهار.
ونشرت الأهرام نفس الحلقات بالتزامن معها. ومع الحلقة الأخيرة نشرت مقالا طويلا على نصف صفحة موقّع باسم”الأهرام” تحت عنوان: “الحقيقة.. ونصف الحقيقة.. ولا حقيقة”. وكان المقال هو عبارة عن هجوم حاد شديد اللهجة على هيكل وكتابه.
بدأ المقال بداية غريبة فريدة من نوعها. لأول مرة يعترف رئيس تحرير جريدة أنه نشر كتابا لم يقرأ منه حرفا وأن موضوع الكتاب وقيمته لم يكن هو الأساس للنشر. ولكن الأساس هو إثبات للعالم أن هيكل لم يكن ممنوعا من الكتابة في مصر وأنه مخطئ خطأ شديدا بنشره خارج مصر.
تصريح من السادات
كان ذلك عام 1975.. ولم تكن موجة الهجوم على هيكل قد بلغت ذروتها بعد. فالذروة بدأت في عام 1977 حينما كان هيكل يكتب مقالات عن الموقف التفاوضي المصري في الصحف العربية وأدلى بأحاديث لتليفزيون المجر ولمحطة “إن. بى. سي”- الأمريكية ولجريدة بوربا اليوغوسلافية قبل عشرة أيام من بدء رحلة الرئيس السادات إلى بون وباريس وواشنطن.
وإذ بالسادات وهو في ألمانيا يدلي بحديث مع المبعوثين المصريين هناك. ويقول: “الصحفي الذي يهاجمنا لحساب السوفيت كان عميلا للمخابرات الأمريكية”. وكان تصريح السادات هذا إيذانا بفتح النار على هيكل في مصر من كل جانب.
وبدأت الصحف تكتب. فالأهرام التي كان هيكل رئيس تحريرها من سنوات تنشر في باب كلمة الأهرام مقالا بعنوان “محامي الشيطان” تصف هيكل بالحاقد الذي أعماه زوال السلطة. وجدير بالذكر أن رئيس التحرير وقتها كان أحد تلاميذة هيكل وهو حمدي الجمال.
ويكتب ثروت أباظة مقالا بعنوان “ليست مصادفة ولا عجيبة” واصفا هيكل بأنه يبعث صوته النشاز ليشكك في سياسة الرئيس. ويكتب عبدالحميد الاسلامبولي مقالا بعنوان “المزامير الهيكلية في محراب السوفييت”.
محاكمة هيكل
أما إبراهيم سعدة فقد كانت له وقفات مع هيكل. فقد كتب سلسلة من المقالات يطالب فيها بمحاكمة هيكل وفق اتهامات السادات له بالعمالة. وكتب بالنص: “أن هيكل تعود الكذب والضحك على الذقون. فالكاذب يمكنه أن يكذب مرة أو عشر مرات ثم يفتضح أمره بعدها أما هيكل فإنه من النبوغ لدرجة أنه يكذب وينصب ويضلل ويزيف آلاف المرات ثم يسارع ويغير جلده بسرعه”.
وهناك مقال نشر في الأخبار بتوقيع “الأخبار” تحت عنوان: “أغنى اشتراكي في مصر يهاجم مصر”، وصل الأمر بهذا المقال لمعايرة هيكل بمؤهله الدراسي– دبلوم تجارة متوسطة- وببدايته المتواضعة ماديا ثم وصولا بشقته المطلة على النيل.
فكتب بالنص في المقال: “خريج الجامعة في مصر الذي يحمل شهادة جامعية لا يجد غرفة يعيش فيها لأنه غير اشتراكي. ومحمد حسنين هيكل يسكن في 16 غرفة ولا يحمل شهادة عليا فهو خريج مدرسة التجارة المتوسطة يجد 16 غرفة لأنه اشتراكي ولأنه فيلسوف الاشتراكية”.
ومن المفارقات أن إبراهيم سعدة كان أول صحفي يسارع بعد السماح لهيكل بالكتابة داخل مصر بأن يعرض عليه العودة للكتابة في أخبار اليوم. وبالفعل كانت أول عودة لهيكل لكتابة مقال بصراحة مرة أخرى في أخبار اليوم في فبراير 1986.
لماذا يكتب؟
وفي عام 1977 يعاود موسى صبري الهجوم على هيكل في سلسلة مقالات بعنوان “ماذا يكتب ولماذا؟”. والغريب أن موسى صبري يناقض نفسه لأنه يكتب المقالات عن هيكل ويحث في نفس الوقت على تجاهل ما يكتبه هيكل قائلا: “أعتقد أن تجاهل ما يكتبه محمد حسنين هيكل في ثلاث صحف تصدر في لبنان والكويت والأردن هو الأمر الواجب”.
ثم يعدد موسى صبري أسبابه الوجيهة لتجاهل هيكل الذي لم يستطع هو نفسه أن يتجاهله. بل بعد دعوته للتجاهل كتب مقالا آخر بعنوان “أتحداه أن يرد” والمقال الطبع موجه لهيكل. ولم يكن الهجوم على هيكل في السبعينات مقتصرا على الصحف الكبرى فقط. لكنه امتد إلى الصحف المحدودة الانتشار ومنها جريدة “تعاون الطلبة” التي كان يشرف عليها محمد صبيح ويكتب فيها أيضا الكاتب عباس الأسواني.
بصراحة
وكتب صبيح عام 1975 سلسلة مقالات يهاجم فيها هيكل بضراوة. وكذلك كتب الأسواني سلسلة مقالات في المقامة الأسوانية بعنوان”يزور التاريخ بوقاحة ويدعي كتابته بصراحة”. وعندما جاءت أحداث سبتمبر 1981 كان لهيكل النصيب الأوفر من الهجوم وبطبيعة الحال فتح السادات الباب للهجوم عندما أختص هيكل بأكثر من نصف خطابه يوم 14 سبتمبر 81.
وظهرت مانشتات الصحف بهذه العناوين المقتطفة من خطاب السادات “هيكل كسب الملايين من صناعته وهي شتيمة مصر والتطاول على النظام– هيكل رجل لا يؤمن بالأديان- هيكل سار في ركاب الفتنة الطائفية– هيكل عميل أمريكي”. ويكتب ثروت أباظة في الأهرام مقالا بعنوان “لا عجب” يقول فيه: “كان هيكل هو البوم المشؤوم والغراب الناعق وزعيم النائحات في أفراحنا الحقيقية. وكان هو سوط سيدة وكان مكبر الصوت الذي يعلن عقوباته البعيدة عن كل عدل أو منطق والبعيدة عن كل رحمة أو إنسانية. إننا أمام علامة في فن النفاق خبير لا يشق له غبار في ميدان النفاق…. “.
ويمكن تخيل ما كُتب عن هيكل في تلك الفترة والمقام هنا لا يسمح بذكر كل المقالات التي هاجمته. ولكن الأمر تكرر بعد عامين من حادث المنصة وتحديدا في إبريل 1983 عندما صدرت صحيفة الأهالي وعلى صفحتها الأولى عنوان “الأهالي تنفرد بنشر أحدث كتب محمد حسنين هيكل خريف الغضب”.
وما أن نشرت الأهالي الحلقة الأولى حتى توالى الهجوم. وفي العدد التالي الصادر يوم 20 إبريل كان العنوان الرئيسي “الحكومة تصادر كتاب هيكل عن السادات وتمنع نشره”.
مسؤولية المافيا الساداتية
ويكتب الدكتور عبدالعظيم أنيس مقالا في الأهالي بعنوان “مسؤولية المافيا الساداتية”. يقول فيه: “من الواضح لأي عاقل أن الضجة المفتعلة لم تكن في الأساس احتراما لذكرى من ماتوا كما أدعى عبدالرحمن الشرقاوي وإنما قامت هذه الضجة لأن الكتاب كان إيذانا بكشف الفضائح السياسية لمرحلة كاملة في تاريخ مصر”.
ويكتب صلاح عيسى مقالا بعنوان “رابطة صناع الطغاة” يهاجم فيه من يهاجمون هيكل ويصفهم بأنهم يبشرون بالدعوة لتقديس الحكام وتأليه الرؤساء والقادة. والمثير في قضية منع نشر كتاب «خريف الغضب» هو أن القضاء الإداري قرر عدم قبول الدعوى التي أقامها عدة محامون لوقف قرار وزير الداخلية بمنع جريدة الأهالي من نشر الكتاب وسبب عدم قبول الدعوى هو عدم وجود قرار رسمي من الأساس صدر من أي جهة في الدولة بمنع الكتاب.
ويواجه هيكل زوابع الهجوم عليه وهي الزوابع التي وصفها طيلة حياته بأنها زوبعة في فنجان صغير للقهوة العربية المُرة..