«الناصرية» بين يوسف حلمي ومحمد حسنين هيكل
«لقد تضافرت عوامل مختلفة، لتوجهني إلى الموضوع الذي أتناوله اليوم وهو: الناصرية، نسبةً إلى جمال عبدالناصر. والمقصود بها هو مجموعة المبادئ والقيم التي حركت فكر ذلك القائد التاريخي وتحركت بعمله في نفس الوقت. وأعطت الأمة العربية وجماهيرها الواسعة فترة من أهم وأخطر ما مر عليها».. هيكل من مقال “حديث عن تجربة”.
ميلاد عبدالناصر
في يوم 14 يناير 1972 وبمناسبة الذكرى الرابعة والخمسين لميلاد جمال عبدالناصر. بدأ محمد حسنين هيكل في كتابة ثلاثة مقالات، كانت تلك المقالات موجهه كما يقول: “لجيل الشباب الذي يقف أمام الضباب وعليه الآن أن يمسك بالحلم والفكرة والعقيدة وأن يعيد الصياغة إذا اقتضى الأمر وأن يحقق الانتصار”. بدأ الثلاثية بمقال بعنوان: “حديث عن تجربة”. ثم تلاه بمقال بعنوان: “بقية لأحاديث مع الشباب”. واختتم ثلاثيته بمقال بعنوان: “قضية هذا الجيل”.
كانت المقالات تتحدث عن مفهوم الناصرية وما تمثله من حلم وفهم وعقيدة وأنها ممتدة إلى ما بعد عبدالناصر. وربما بسبب شهرة مقالات هيكل وقربه وتجربته الثرية بجوار جمال عبدالناصر ظن البعض أن هيكل هو أول من صك هذا المصطلح. سواء في حياة عبدالناصر أو بعد وفاته.
لكن الحقيقة أبعد من ذلك فمصطلح الناصرية ظهر مبكرا جدا بل وقبل أن يصبح جمال عبدالناصر رئيسا رسميا لمصر. وهذه المعلومة تكشفها لنا وثائق مجموعة روما، وهذه المجموعة قد تشكلت في روما عندما أقام فيها هنري كوريل عام 1950 بعد إبعاده من مصر. ولكنها انتقلت إلى باريس فيما بعد ويعتبر أرشيف مجموعة روما بباريس من أهم مصادر المعلومات عن الحركة الشيوعية وحدتو بشكل خاص.
حيث كانت ترسل حدتو- الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني- مطبوعاتها وتقاريرها بشكل منظم ليتم حفظها في باريس. واستمر تجميع تلك الوثائق وتصنيفها وحفظها بدءا من عام 1950 حتى تسعينات القرن العشرين. وتم إيداع هذا الأرشيف في المعهد الدولي للتاريخ الاجتماعي في أمستردام بهولندا. وأشرف على ذلك الأرشيف وقام بحفظه يوسف حزان، الشخصية الثانية بعد هنري كورييل. وبلغ عدد أعضاء مجموعة روما 50 شخصا ومنهم: هنري كورييل، يوسف حزان، ريمون استانبولي، جويس بلاو، سارة بلاو، ديدار فوزي، حلمي سلامة موسى.
يوسف حلمي في وثائق مجموعة روما
من ضمن هذه الوثائق وثيقة بتاريخ أول أكتوبر 1954 بعنوان “الناصرية والمكارثية” بتوقيع يوسف حلمي. وهو تاريخ مبكر جدا، ففي ذلك الوقت كان الرئيس الرسمي هو محمد نجيب قبل تحديد إقامته في نوفمبر 1954. فضلا على أن سياسة عبدالناصر لم تكن قد اتضحت بعد وفي نفس التوقيت كان الخلاف والصدام على أشده. سواء بين أعضاء مجلس قيادة الثورة نفسه أو بين الحركات السياسية من شيوعيين وإخوان وبقايا أعضاء الأحزاب بعد حلها.
(كان يوسف حلمي شخصية متعددة المواهب. فهو بجانب أنه محام ناجح، كان يعمل مستشارا قانونيا لعدد كبير من الفنانين والفنانات، فقد كان فنانا بطبعه. إذ التحق بمعهد التمثيل بعد حصوله على ليسانس الحقوق، واشتغل بالنقد الفني والمسرحي وكتب في جريدة كوكب الشرق عندما كان يحررها طه حسين عام 1932 ثم جريدة الوادي وكتب كذلك قصصا ومقالات نقدية بمجلة روزاليوسف.
وكذلك كان شديد الاهتمام بسيد درويش وأسس جمعية أصدقاء سيد درويش. وكان من مؤسسي حركة أنصار السلام، والتي انضم إليها أسماء لامعة مثل الدكتور محمد مندور ومحمد كامل البنداري وسيزا نبراوي وإنجي أفلاطون وإحسان عبدالقدوس وسعد كامل. وأسست اللجنة مجلة الكاتب والتي أشرف على تحريرها يوسف حلمي وسعد كامل).
أما مضمون الوثيقة فقد كان شديد اللهجة ضد النظام الحاكم كمعظم بيانات اليسار في ذلك الوقت المعارض لحل الأحزاب وغياب الحياة النيابية والديمقراطية والاعتقالات والفصل التعسفي… إلخ
وقد وضع يوسف حلمي مصطلح الناصرية بجانب “المكارثية”. وهو المصطلح الذي كان رائجا وقتها ويوصف به كل نظام يلقى التهم بشكل عشوائي على معارضيه ويقدمهم لمحاكمات وهمية دون دليل. خاصة إن كان المعارضين من الشيوعيين. وبغض النظر عن رأي يوسف حلمي فتلك الوثيقة وحتى الآن تعتبر هي الأولى بل والسبق لصك هذا المصطلح قبل أن يكون لعبدالناصر نفسه دورا بارزا عالميا ومحليا بعد.
الناصرية في مجلس العموم البريطاني عام 1956
بعد تأميم قناة السويس بدأ مصطلح الناصرية يظهر في الغرب. فانعقد مجلس العموم البريطاني في عدة جلسات عاصفة وشهد معارضة قوية من بعض النواب لسياسة استخدام القوة. وهنا ظهر مصطلح الناصرية في الصحف البريطانية وكتبت صحيفة الصنداي إكسبريس مقالا قالت فيه إن هناك بعض أعضاء مجلس العموم البريطاني يعتنقون الناصرية. وكان المقصود بهؤلاء النواب هم الدكتورة أديث سمرسكيل، وزيرة الصحة في حكومة العمال. والتي كتبت مقالا في “التيمز” تهاجم استخدام القوة وعدم شرعية أي تدخل عسكري.
وهناك أيضا دوجلاس جاي ودينيس هيلي والنائب موريس أورباخ، الذي وقف في اجتماع في دائرته الانتخابية يقول: “عندما قابلت ناصر في القاهرة العام الماضي أقمت علاقة من الصداقة المتينة معه. لقد خرجت من عنده وأنا أشعر أننا أخوة. وقد رسمت إحدى الصحف جمال عبدالناصر يقود جملا عليه النائبين سمرسكل وسيلفرمان ومكتوب أسفل الصورة “two of the British Nasserites”. أي “اثنان من الناصريين البريطانيين”. وبالتزامن مع هذه الأحداث كتبت صحيفة “نيوز أوبزرفار” الإسرائيلية مقالا لشرح الناصرية بعنوان “The Aims of Nasserism” “أهداف الناصرية”.
طه حسين يكتب الناصريزم
كتب الدكتور طه حسين مقالا في أغسطس عام 1957 بجريدة الجمهورية بعنوان “الناصريزم” وكان طه حسين وقتها في إيطاليا. وقد كتب في مقاله أن الكلمة شائعة في غرب أوروبا وشمال أمريكا ويكثر استعمالها في فرنسا خاصة. ويعتقد طه حسين أن فرنسا هي من ابتكرتها في الغرب.
ويستمر طه حسين في هجومه عليهم قائلا: “معنى الكلمة التي ابتكرها الفرنسيون وأخذتها عنهم الأمم الغربية وأمريكا هو كل ما يدعو إليه ويسعى لتحقيقه رئيس الجمهورية المصرية. بشرط أن يسبغ عليه الفرنسيون على هذا الذي يدعو إليه رئيس الدولة لونا قاتما. ويراه الشرقيون مشرقا زاهيا”.
ويستطرد طه حسين ساخرا من الغرب قائلا: “هناك كلمة أخرى لم يجدها الغرب لأنه لم يشعر أنه مريض بها وهي “الناصريت” فهذه الحروف التي أضيفت إلى اسم رئيس الدولة يعرفها خبراء الطب. وهي تضاف إلى أسماء العلل التي تصيب الجسم والغرب لاشك مصاب بداء يأتيهم من رئيس الجمهورية المصرية”.
هيكل يكتب عن الخطر الناصري
ولم يكن طه حسين آخر من كتب عن الناصرية في حياة عبدالناصر. بل استمرت الصحف المصرية والعربية والغربية تعج بهذا المصطلح حتى وفاته. فنجد مقالا في الأهرام بتاريخ 1963 بعنوان “الناصرية في أمريكا اللاتينية”. ومقالا في آخر ساعة بتاريخ 1963 بعنوان “مفهوم كلمة الناصرية في رأي كاتب أمريكي”.
وقد كتب محمد حسنين هيكل مقالا في الأهرام في يناير 1963 بعنوان “الخطر الناصري” بدأه يقول: “متى بدأت صيحة الحرب ضد “الناصرية” والدور الذي تقوم به على الأرض العربية؟ وكذلك كتب محمد عودة مقالا في الجمهورية بعنوان “الناصرية” عام 1963.
وقد كان أحد مانشتيات الأهرام يوم 11 يونيو 1967 يقول: “لندن تقول: استقالة الرئيس تعني انتهاء الناصرية في عدن والجنوب وقلب إفريقيا”. وهناك مقال في مجلة الإذاعة بعنوان “الناصرية أمل الدول النامية”. وفي الصحف العربية كتب سعيد فريحة عام 1966 مقالا بعنوان “ناصر والناصريون”. وكتب فايز صباغ دراسة في مجلة حوار عام 1965 بعنوان “الاشتراكية الناصرية: إطارها النظري” وكتب كريم الشيباني دراسة بعنوان “القيادة الناصرية والجماهير العربية” في فبراير 1970 بمجلة مواقف اللبنانية.
الثورة الناصرية
وكتب أنور عبدالملك مقالا بالفرنسية عام 1963 بعنوان “Qu’est-ce que le NASSERISME” ومن يبحث في بطون الدوريات سيجد العديد من الدراسات والمقالات التي استخدمت مصطلح الناصرية في حياة جمال عبدالناصر. ومن ضمنها الصحف والمجلات المصرية.
أما بعد وفاة عبدالناصر فبدأ المصطلح يأخذ حيزا أكبر في الانتشار فبعد أيام قليلة من وفاة عبدالناصر كتبت سهير القلماوي مقالا بعنوان: “الثورة الناصرية في الثقافة” وكتب المفكر العربي أمير إسكندر في نوفمبر 1970 دراسة بعنوان “الناصرية والعالم الثالث” في مجلة الفكر المعاصر. وكتب فؤاد مرسي مقالا بعنوان “الاشتراكية العلمية في الفكر الناصري”. وكتب عبدالله إمام دراسة كاملة نشرها في كتاب بعنوان “الناصرية” صدرت عن دار الشعب عام 1971.
وتتوالى الدراسات والمقالات والتي لم يكن بدايتها هيكل وأن كان هو أبرز من فسَر المصطلح في مقاله عام 1972 حيث كتب أن مخاوف الغرب تكمن في أن يتحول عبدالناصر من دور إلى تيار، ومن شخص إلى فكرة. ومن ثم تحدث المعجزة التي لم تحدث في حياة جمال عبدالناصر وهي أن تصبح الناصرية – وصاحبها في رحاب الله – تنظيما حيا وفعالا على الساحة العربية.
اقرأ أيضا:
ملف| محمد حسنين هيكل: الروائي الكامن.. والشاعر المقموع
«سنلتقي من جديد».. حكاية أول مقال لـ«هيكل» في آخر ساعة
محمد حسنين هيكل مؤرخا.. إرث محل جدال
للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي:
