المهندس وليد عرفة: مسجد «باصونة» مجرد بداية.. و«أمحوتب» من أساتذتي
لم يكن الشغف وحده كلمة السر التي قادت المهندس وليد عرفة، المعماري الثلاثيني، والمقيم بلندن حينها، لتصميم وتنفيذ مسجد باصونة في إحدى قرى محافظة سوهاج عام (2018) بل إيمانه بما يصنع، وبأن أي إنجاز بشري لا يمكن أن يخلو من عاطفة إنسانية. وليد عرفة مولود بأمريكا وتنتمي جذور عائلته إلى مركز المنشأة التابعة لمحافظة سوهاج. حصد عدة جوائز عربية وعالمية، كما كرمه الرئيس عبدالفتاح السيسي.
حصل عرفة على بكالوريوس العمارة والتصميم بكلية الهندسة جامعة عين شمس عام 2001، كما درس بالعديد من الجامعات ويعكف حاليا على إعداد دراسة الماجستير الثانية في تاريخ العمارة والفن الإسلامي في كلية الإنسانيات في الجامعة الأمريكية بالقاهرة.. “باب مصر” أجرى معه الحوار التالي، الذي تتبدي فيه صوفيته الشديدة، التي قادته إلى ما يمكن أن نسميه العمارة الصوفية.
من أين جاءت فكرة إنشاء مسجد باصونة في سوهاج؟
صديقي الشيخ أسامة الأزهري منذ 16 عاما، جذوره من قرية باصونة، تملك عائلته بها قطعة أرض في أبوستيت عليها مسجد مبني منذ 300 سنة، تعرض للهدم وإعادة البناء قبل 70 عاما، وفي عام 2015 انهار سقف المسجد بسبب السيول، كنت حينها في إنجلترا، اكتب في رسالتي حول الحفاظ على المباني التاريخية في بريطانيا، واستشارني الشيخ في إمكانية ترميم أو هدم المسجد، فعاينته، وأتضح أنه يحتاج إعادة بناء بعد موافقة الأوقاف على تطوير وإعادة إحلاله بجهود ذاتية.
إذن ما الدافع الأساسي وراء تشييدك المسجد؟ ولهذا لصداقتك بالشيخ الأزهري تاثير في ذلك؟
صداقتنا ليست صداقة إنسانية فقط، وإنما مرتبطة بمسعى حضاري والإيمان بتطبيق منهج الهداية العامة في حضارة الإسلام الذي نؤمن به، كما أن الناس الغلابة في القرى يستحقون أن نصنع لهم ما هو غالي، الإنسان مكرم، وقرأت مقال بعنوان “بل أنت عند الله غال”، للشيخ الأزهري من كتابه “صائد اللؤلؤ”، أي أن الإنسان مهما كان وضعه الاجتماعي والمادي لابد أن يتعامل بأكثر من تكريم متاح، ووجدتها فكرة جديرة بالتنفيذ على أرض الواقع وليس الخطب أو الكتب فقط. كما أن ذلك يعد بمثابة اختبار حقيقي لفكرة صدق الإيمان بالمنهج، خاصة أنني كنت مشغولا في كتابة رسالتي وفي نفس الوقت أترجم كتاب “الحق المبين في الرد على من تلاعب في الدين من الإخوان إلى داعش” للشيخ أسامة الأزهري.
من أين استلهمت فكرة المحراب.. وكيف حققت المعاني الروحانية في التصميم؟
محراب المسجد مستلهم من العمل الفني مكعب المكعبات للعالمي المصري أحمد مصطفى، خريج كلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية عام 1966، وهو مقيم ببريطانيا منذ 45 عاما، وهو نتاج فهمه للآية الكريمة للخصمين الذين اختصموا لسيدنا داوود – 99 نعجة ونعجة واحدة- مع فهمه للحديث الشريف إن لله 99 اسما 100 إلا واحد. مكعب المكعبات مفتوح يحتوى على 99 أسماء الله الحسنى، رافقته أكثر من 12سنة لفهم ما يقوله، لأنه أيضا مرتبط بنفس المسألة اكتشافه لمعاني نظرية ابن مقلة في الخط المنسوب وخط الثلث نسبة منه، الذي وضعه الوزير العباسي في القرن الثالث الهجري، نشر في كتاب له بالإنجليزية عام 2015.
وكنت أعمل في الأستوديو معه رغم أنه ليس معماري، فالمعاني في الكتاب لها تأثيرها وانعكاساتها على كل الممارسات الفنية والبصرية الموجودة، سواء عمارة، سينما، رسم، نحت، فهمته منه وحاولت أطبقه في باصونة، من ضمن التطبيقات هو استخدام العمل الفني له بصورة تصلح في تكوين المحراب، ونقلت الفكرة من النحت للوسط المعماري، بالإضافة إلى أن فكرة تصميمي لمسجد باصونة بأكمله مبنية على نظرية ابن مقلة والخط المنسوب كما فهمتها من الدكتور أحمد مصطفى.
أما عن الروحانيات، فالمطلوب تحقيق الراحة من خلال الظروف البيئية المناسبة للإنسان، نفس وروح ليتيح الخشوع، مناخ خالي من الإضاءة المقابلة للعين أو الضوضاء أو حتى الإزعاج. لجأنا لغلق الأبواب الأرضية وبقي مصدر التهوية موجود في فتحات السقف بدلا عن الجدران، أي نلجأ للسماء رمزا وفعلا. لأن الهواء البحري حبيس المنازل المجاورة، وكذلك الإضاءة. عند دخولك الجامع تنعطف يمينا تجد الشباك المطل على المقابر أي العظة صلي صلاة مودع كأنها إشارة.
حدثنا عن ملامح المسجد في ثوبه الجديد؟
مساحة أرض المسجد 450 مترا، المستغل منها قاعة الصلاة الرئيسية حوالي 180متر، جزء خدمات مساحته 100متر، المسجد 3طوابق، بدروم، وصالة أسفل قاعة الصلاة 180متر، ميزانين علوي للسيدات، البدروم حال زخم المسجد يستخدم في رمضان والجمعة، أيضا يمكن تقسيمه لـ16غرفة صغيرة تستقبل فيها قوافل طبية، أو فصول تعليم كبار أو محو أمية، المقصود عودة جذور فكر المسجد القديم، مبنى مركزي لكل أنشطة المسلمين.
وما المعوقات التي واجهتها أثناء تنفيذ المشروع؟
في مرحلة التصميم، كان لابد من اتخاذ بعض الإجراءات في الاعتبار مثل، مراعاة الشوارع الضيقة. حيث يطل المسجد من الشرق على بيوت. والغرب مقابر والشمال ساحة، جنوب شارع ضيق، فهنا تكمن كيفية وصول المعدات الثقيلة واستبدالها بالعامل اليدوي، وكذلك الحفر بطرق تراعي المباني المجاورة حتى لا تلحق بأذى، فاستغرق التصميم حوالي 6 شهور. وهذه الأشياء كانت بمثابة تحدي. توقفنا فترة بسبب بعض المتغيرات الاقتصادية، ثم عاودنا العمل بدعم جديد من الشيخ الأزهري وكذلك الشيخ على جمعة.
أيضا كان هناك استعجال من قبل الأهالي على سرعة الانتهاء من المسجد. “يعني إيه التصميم بس في 6 شهور”، فكان يتولى الشيخ الأزهري الرد عليهم. كما أن فكرة إقامتي ودراستي بلندن وبعد المسافة، فضلا عن أن هناك أجزاء اضطررت لتركيبها بيدي مثل المحراب، كما أن مدة البناء الفعلية جاءت ما بين 15 إلى 18 شهرا، ولكن بسبب المعوقات استغرق عامين من نهاية 2015 إلى نهاية 2018. وتغير الأمر بعد خروج المسجد للنور وحصولنا على الجوائز الدولية وتناول دور النشر والمجلات المحلية والعالمية أمر المسجد. فضلا عن تصنيفنا ضمن أحد أفضل 50 مكتب معماري بالشرق الأوسط.
حدثنا عن الجوائز التي حصدها بعد افتتاح المسجد يناير 2019؟
الوصول للقائمة القصيرة لجائزة “عبداللطيف الفوزان” لعمارة المساجد في دورتها الثالثة، إذ جرت المنافسة حول 201 مسجد حول العالم، منهم 5 من مصر في القائمة الطويلة، و27 في القصيرة. وتم تأجيل تحديد المراكز مرتين بسبب ظروف وباء كورونا، حيث كان من المقرر الإعلان في حفل بماليزيا، وأيضا تكريم الرئيس السيسي في مؤتمر الشباب العربي الإفريقي مارس 2019، والحصول على المركز الأول في مسابقة “أرك مارثون” العمارة بالحجر من إيطاليا 2019، ومرشحين للنسخة الثانية منها التي لم تعلن نتائجها بعد، جائزة الحلول الخضراء التي تنظمها فرنسا ورشحت لجائزة شخصية العام المعمارية الشرق أوسطية في مسابقة جائزة “محمد مكية” التابعة لجائزة تميز ديسمبر 2019 عمان -الأردن.
ماذا عن جائزة الحلول الخضراء في العمارة.. وكيف حققت التوافق البيئي في التأثير على عمر المبنى؟
فكرة عدم احتياج المسجد للمكيفات أو الإضاءة أي الطاقة واستغلال ماء المطر – حال حدوثه- من خلال تخزينه لري المزروعات وتنظيف الأرضيات الخارجية، يصنف إنشاءه ضمن نظام هجين، فالتنافس ليست على المساجد فقط، بل مباني متعددة من ضمنها سفارة الدانمارك والنرويج وهولندا. وجاءت نسبة استخدام الخرسانة 30% فقط بالمبنى، عوضنا بإنشاء التغطية من خلال 108 مثلثات كروية. إضافة إلى قبة مدخل وأخرى مركزية من البلوك الرملي الخفيف مصري الصنع، سبق واستخدمته بمبنى عائلتي 2003، الذي رشح لجائزة الاغا خان، الطوبة متينة وخفيفة – وهذا يقلل من استخدام الحديد والخرسانة – عازلة للصوت والحرارة ومقاومة للحريق.
ترى مسجد باصونة أقرب إلى أي حقبة تاريخية من حيث الطراز المعماري؟
مسجد باصونة يتعلق بكل حقب العمارة المصرية، من المصرية القديمة مرورًا بالمملوكية أو الإسلامية حتى ما قبل العثمانية فكريًا ومنهجيًا، ولا تتعلق المسألة بالشكل، فالتراث مناهج مصدر واحد إنما الشكل يتغير. أتمنى أن ينسب لكل الحقب المعمارية في مصر.
لماذا اتجهت لدراسة المحافظة على المباني التاريخية ولم تفكر في الدكتوراه؟
بعد تخرجي، كنت أبحث عن فكرة وهدف معين لن يخدمه إلا الممارسة الفعلية وعدد من الابحاث بمستوى الماجستير في عدد من العلوم المختلفة، بدلا عن التوسع الرأسي في علم واحد فقط والذي تحققه الدكتوراه، فدرست في حلقات العلم بالأزهر الشريف على يد مفتي الديار المصرية حينها الشيخ على جمعة وتلامذته، ثم الحفاظ على المباني تاريخية، والآن تاريخ العمارة والفنون الاسلامية ولكن إذا قررت عمل الدكتوراه ستكون في فلسفة العلوم. فالحفاظ على المباني تاريخية علم يجمع بين عدة علوم مهمة، فضلا عن كونه مبني على فكرة فلسفة القيمة ما هي القيمة ولمن وعلى أساسه الإنسانية أدركت أهميتها للدارسين.
على سبيل المثال اهتمامي وتركيزي على مبنى عمره أكثر من ألف سنة كيف ظل صامدا؟، كيف شاخ مع وجود تقلبات مناخية؟، أغذي عقليتي كمرمم ومنشئ، حتى يكون لدي حلول حقيقية من خبرات السابقين المعرفية.
وكم تتوقع أن يكون عمر مسجد باصونة؟
المبنى الخرساني دون التدخل، عمره حوالي من 150 إلى 200 سنة.
هل كنت تتوقع نجاح مسجد باصونة؟ومن ملهميك المعماريين؟
في الحقيقة نعم، لأنه بعد تجارب عديدة شعرت أنني أمسكت بالخيط المتين. بالنسبة لمن ألهمنى، لدي شغف بمعماري مسجد السلطان حسن، محمد ابن بيبلك، ومن المصريبن القدماء أمحوتب، أما ملهمي من غير المعماريين فهم الشيخين علي جمعة وأسامة الأزهري، والدكتورين أحمد مصطفى ومصطفى البدوي.
هل نستطيع إعادة أمجادنا المعمارية مرة أخرى؟
القدرة موجودة في رأيي، المشكلة في الوعي لا في السعي، لابد أن تعي ما تعمل ذلك مفتاح المسألة.
نصيحة توجهها لدارسي الهندسة في الجامعات المصرية؟
عليهم فهم مهنتهم، لأن عدم الإتقان أو الإهمال في العمل والتنفيذ مرض جانبي ناتج عن عدم إدراكهم لدور مهنتهم. كذلك التدريب والقراءة المستمرة ليست في المجال الهندسي فقط، كما أن السعي والإيمان بدور المهنة لا يتعارض مع فكرة الربح المادي فكل مجتهد نصيب.
2 تعليقات