المقريزي بعين ناصر الرباط.. سيرة إنسانية شديدة الحساسية
يتتبع المؤلف كيف سرت روح المقريزي إلى العديد من أحفاده الذين رأوا فيه صوت مصر العابر للأزمنة، فأعيد توظيفه في نصوص جمال الغيطاني وخيري شلبي ونجيب سرور
كل حرف هنا كتب بمداد السنين، عملية إعادة التركيب التأريخي انفق عليها سنوات العمر بسخاء، صداقة عمر تحكيها الصفحات. هكذا جاء كتاب (تقي الدين المقريزي وجدان التاريخ المصري) للدكتور ناصر الرباط، أستاذ كرسي العمارة الإسلامية ومدير برنامج الأغاخان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس (MIT). والصادر في القاهرة عن مركز تراث للبحوث والدراسات. يقدم فيه الرباط سردية مختلفة ومعمقة عن أهم مؤرخ مصري عبر القرون التقي المقريزي (ت 845هـ/ 1442م)، الذي نعيد اكتشافه من خلال نص الرباط المدهش والمبتكر.
المقريزي الذي عاش بين القرنين الثامن والتاسع الهجريين/ الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين. ترك خلفه دائرة معارف متكاملة عن تاريخ مصر منذ الغزو العربي وقبل عقود من الغزو العثماني. أي تأريخه لتسعة قرون تقريبا، وبث معارفه المدهشة في سلسلة من الكتب التاريخية الأساسية لأي مشتغل بتاريخ مصر عمومًا والقاهرة تحديدًا. نذكر منها: (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار)، و(المقفى الكبير)، و(درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة)، و(اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا)، و(السلوك لمعرفة دول الملوك)، و(إغاثة الأمة بكشف الغمة).
***
طغيان المقريزي المعرفي على أي مشتغل بتاريخ مصر، لم ينج منه ناصر الرباط السوري الأمريكي جنسية الواقع في غرام مصر اختياريا. لذا لم يكن غريبًا أن يقف أمام العاشق القديم ليعيد قراءة سيرته، وموضعتها في إطار أكثر رحابة. لا يتوقف عند المنتج التاريخي الذي تعددت المقاربات العلمية له. بل يتخطى ذلك للتعمق في سيرة الرجل وحياته كإنسان يحمل هموم عصره ومشتبك مع قضايا زمنه، يعبر عن نوازع النفس، ويكشف عن مرارة الفشل وألم فراق الأحباب ورفاق الدرب. بلهجة إنسانية بديعة مفارقة للكثير من النماذج الجامدة التي تسردها مصادر مجتمعات المسلمين في ما قبل العصر الحديث.
الرباط لم يقف في كتابه عند الشائع في سرد تاريخ مؤرخ مصري عاش قبل قرون. أي الاكتفاء بتحديد سنة ميلاده ثم حفظ القرآن وتعلم المبادئ الأولية للقراءة والكتابة. فتتبع مراحله العمرية والعلمية والوظيفية وصولا إلى مرحلة الإنتاج المعرفي، ونقله عن السابقين ونقل اللاحقين عنه، ثم وفاته ومدفنه. يقدم الرباط كل هذا في الواقع، لكن في إطار مختلف يجعل عملية السرد ترتقي إلى مرحلة الفن الأدبي الرفيع. فهو يشتبك مع تفاصيل حياة المقريزي، ويفككها، ويعيد تأويلها بناء على مناهج التحليل النفسي. للكشف عن ما يعتمل في دواخله في لحظات تبين الضعف الإنساني في أنصع صوره وبقلم المقريزي ذاته؛ علاقته بوالدته؛ علاقته بزوجته وجاريته. صداقات العمر والحزن على وفيات الأصحاب؛ تحوله المذهبي؛ مرارة الفشل الوظيفي؛ الاستياء من الفساد الرسمي المستشري؛ قرار العزلة والتفرغ للكتابة .
***
يستخدم الرباط المعرفة التي تحصلت لديه من خبرة معايشة متون المقريزي وما كتب عنه لسنوات طوال. في إعادة تحليل منتج المؤرخ المصري. فبعد أن يفرد مساحة لمناقشة نشأة المقريزي وكفاحه في أروقة السلطة المملوكية سعيا للمناصب التي وصل خلالها لمنصب محتسب القاهرة. قبل الانقلاب الدراماتيكي في حياته بـ”القرف من السلطة”، وعلاقته الفكرية بأستاذه ابن خلدون. وهي رحلة مكتوبة بطراز رفيع من الفن الأدبي. الذي يشبه في دقته وجماله الأسر فن التكفيت الذي وصل لذروته في العصر المملوكي. أقول بعد إفراد الرباط لهذه المساحة يخلص إلى مناقشة وتحليل أعمال المقريزي.
يتعرض الرباط لقضايا إشكالية في حياة المقريزي مستعرضًا الأدلة المختلفة والشهادات المتباينة التي يبثها تقي الدين في نصوصه. ويلقي بها على مسامع معاصريه، على أمل إماطة اللثام عن جوانب مظلمة في حياة مؤرخ القاهرة الأشهر منتجا المتخفي سيرةً. لذا يصل الرباط إلى أن المقريزي ينتسب إلى الخلفاء الفاطميين. وأنه ظل حريصا على ألا يصرح بهذا النسب لما قدر يجره عليه من مشاكل مع السلطة المملوكية. التي اتخذت مواقف متشددة من التشيع والانتساب إلى الفاطميين. وما يجره هذا من استحقاق سياسي، في مواجهة نظام عانى دوما من أزمة شرعية.
نقطة أخرى في حياة المقريزي يشتبك معها الرباط، تتعلق هذه المرة بحقيقة مذهبه. فالرجل بدأ حنبليا ثم حنفيا، قبل أن يغير مذهبه إلى الشافعية مذهب أهل مصر. لكنه انتمى إلى التيار الأكثر محافظة داخل المدرسة الشافعية والأقرب أكثر لتيار المحدثين. لينتهي به الأمر متهما بالانتماء إلى المذهب الظاهري والإعجاب بنجم هذا المذهب؛ ابن حزم الأندلسي. يُلمح الرباط إلى ما يشبه الصيحة التي لفت مجتمع القاهرة في نهاية القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، باعتناق المذهب الظاهري في نسخته الحزمية. فهل لذلك معنى في آليات رفض تيار من الفقهاء للسلطة المملوكية منقوصة الشرعية؟ يبدو الأمر كذلك بحسب ما يعرض الكتاب.
***
يحلل ناصر الرباط في الفصل الرابع أعمال المقريزي باعتبارها حصاد العمر. يتتبع كيف تشكلت نصوص مؤرخ القاهرة عبر الزمن، بداية من تجارب الكتابة والتأليف الأولي. وصولا إلى اختمار المشروع للكتابة عن مصر بشكل شامل عبر سلسلة من الكتب التي تغطي طبوغرافية العاصمة المصرية. والتاريخ السياسي على مدار تسعة قرون تقريبا. مع تقديم مادة هائلة من التراجم لشخصيات عامة في تاريخ البلاد. وهو المشروع الذي ضمن له المقعد الأكبر في الصف الأول بين المؤرخين المصريين. لكن الرباط لا يغفل النظر عن مشروع المقريزي التأريخي لحياة النبي وكل ما يتعلق به في مشروع ضخم. يشمل أساسا كتابيه (الخبر عن البشر) و(إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع). وبعض الرسائل الصغيرة التي تتحلق حول الموضع.
***
يركز مؤلف الكتاب على اللهجة الانتقادية القاسية التي يواجه بها المقريزي السلطة المملوكية في عصره. إذ يعبر الأخير عن روح شديدة التشاؤم لكنها واقعية حول مصير دولة المماليك الثانية (الجركسية). فيتحول إلى رسول الخراب الذي يبشر به، وهو يرى بأم عينيه كيف اختلت أحوال البلاد والعباد. ويرجع ذلك إلى فساد الحكام ومساعديهم بما في ذلك قضاة عصره بلا أي مواربة. وفي شيء من التهور إذا ما أخذنا المزاج الدموي لسلاطين المماليك في الاعتبار.
يقول الرباط: “أكثر ما يقرب المقريزي إلى القارئ المعاصر هو النفس النقدي الحي والمتألم الذي يظهر واضحا في مؤلفاته. حتى أنه يشكل الخيط الناظم لأشهر هذه المؤلفات وأعظمها (الخطط) و(السلوك). فالمقريزي كان بحق نسيج وحده… ومن خلال المناصب التي شغلها خلال تلك الفترة على نحو أتاح له أن يرى رأي العين السوس الذي كان ينخر في بنية السلطة المملوكية. والفساد الذي استشرى في مختلف طبقات المجتمع من عامة وحكام“.
هذه الروح التي ميزت المقريزي عبرت عن نفسها في هوية مصرية واضحة المعالم نشاهدها في الثقافة المملوكية بوضوح معروف لبعض المتخصصين في هذه الفترة. فبعد تحليل العديد من نصوص المتن المقريزيّ يصل الرباط إلى خلاصة بأن “المقريزي بهذه المشاعر يظهر أكثر ما يظهر وطنيًا غيورًا قبل ظهور فكرة الوطنية نفسها. وإن كان في سرده المسجوع والسهل قد اختزل كل ما حاولت الوطنية الحديثة بعده بأربعة قرون إذكاءه في نفس المواطن من مفاهيم تهدف إلى تثبيت انتمائه إلى بلده وقومه. وترسيخ جذوره في تاريخهما ولغتهما وانتصاراتهما وكبواتهما“.
***
المكانة المستحقة للمقريزي باعتباره أحد أهم وأكبر المؤرخين المسلمين، تعززت في العصر الحديث. ففي الفصل السادس من كتابه يتتبع ناصر الرباط كيف سرت روح المقريزي ذات البعد الوطني والانتقادي للسلطة والرافضة للظلم والمتشائمة لأي انحراف سلطوي، إلى العديد من أحفاده من المؤرخين والأثريين. وصولا إلى الأدباء الذين رأوا فيه صوت مصر العابر للأزمنة. فأعيد توظيفه في نصوص كل من جمال الغيطاني وخيري شلبي ونجيب سرور. فرغم منتج الغزو الفرنسي الاستعماري المتمثل في كتاب (وصف مصر)، وكتاب (الخطط التوفيقية الجديدة) لعلي مبارك، ظلت مكانة المقريزي محفوظة بل زادت قيمة مع الأيام.
يلخص الرباط الحالة المقريزية بكلمات شديدة الجاذبية والعذوبة. إذ يقول: “لا أظن أن أحدًا ممن كتب الأخبار أو الخطط قد بلغ هذه المرتبة التي بلغها المقريزي بسبب استنباطه من التأريخ للعمران ملاحظات عن الاقتصاد والاجتماع والسياسة. وطرحها على قرائه من منظور عالم مسلم ورع ملتزم. عالم يرى الضرر فلا يملك إلا أن يشير إليه ويبين علته ودواءه الذي هو بطبيعة الحال فقهي وديني بسبب البيئة والزمان والخلفية العلمية. ومع ذلك، فقد استطاع المقريزي أن يصوغ من انتمائه والتزامه ومعرفته وبحثه وألمه لما يراه في مدينته وبلده خطابًا نقديًا ما زال يؤثر في الوجدان الحي للأمة المصرية. ممثلًا في طائفة من ألمع كتابها ومفكريها وأكثرهم تفاعلًا مع مجريات الأمور في تاريخها المعاصر“. لينصبه في النهاية “صوت مصر لا مجرد مؤرخ لها. فتحول بذلك إلى شخصية عابرة للتاريخ تجاوزت من خلال انتمائها ومناقبيتها وألمها ونقدها حدود دورها التقليدي في التأريخ المصري“.
***
يقدم ناصر الرباط في كتابه المدهش والمحفز عن المقريزي منهجًا شديد الخصوبة والجاذبية لتقديم سيرة إنسانية شديدة الحساسية للمؤرخ المصري. لكن اللافت هنا أنه منهج يمكن استخدامه في مقاربات مختلفة مع مؤرخين وشخصيات علمية أخرى في الفترة المملوكية. يمكن أن يعاد اكتشافها وإعادة النظر في سيرتها وتفاصيل اشتباكها مع محيطها الاجتماعي وسياقها التاريخي. حتى في ما يخص المقريزي لا يغلق الكتاب الجديد باب الحديث عن هذا المؤرخ الفذ والاستثنائي في تاريخ المسلمين. بل يفتح الباب على مصراعيه لمتعة التفكر وإعادة النظر. إذ يلقي بزخم فكري حول مؤرخ القاهرة الأبرز، ويسمح بنقاش أوسع وعلى أفق أرحب، وهذه خصيصة الكتب العظيمة دومًا.
اقرا أيضا:
كتب القاهرة «الجديدة».. حماية الذاكرة في مواجهة الطمس!