“المدينة الحارسة”.. أسيوط تساهم في كتابة التاريخ قبل 4 آلاف عام
*ولاد البلد الشريك الإعلامى للمتحف البريطانى في حفل إطلاق كتاب “أسيوط المدينة الحارسة”
تصوير: أحمد دريم
أسيوط هي المدينة التي صمدت لأربعة آلاف عام رغم التغيرات والتطورات التي شهدتها طوال هذا التاريخ الممتد، وفيما كتب كثيرون عن القاهرة والإسكندرية، تظل إسهامات أسيوط في الوطن تبدو جوهرية في فهمنا لشخصية مصر.
وفيما يلي يسلط المسح الموجز للقرون الحديثة الضوء علي تطور المدينة، طبقًا ما ذكره كتاب أسيوط المدينة الحارسة الصادر عن المتحف البريطاني.
أرض متنازع عليها
غدت مصر مقاطعة عثمانية في عام 1517م، حين دحر الأتراك، بقيادة السلطان سليم الأول، المماليك الذين حكموا مصر وسوريا، ولم يكونوا قد تلقوا ضربة الهزيمة القاضية بعد، فقد أدت المناوشات بين المماليك والقوات العثمانية، وبين المماليك وأنفسهم، إلى إثارة الفوضي في القاهرة، وأحيانا النفي إلى صعيد مصر، حيث كانت أسيوط مخبأ مفضلا.
من وجهة النظر الجغرافية، تنتمي أسيوط إلى وسط مصر، لكن من الناحية التاريخية اعتبرت المدينة حدًا فاصلًا بين مصر السفلي في الشمال ومصر العليا فى الجنوب، التي عرفت أيضًا بالصعيد.
وعلى مدار القرن السابع عشر، ظلت أسيوط بلدة إقليمية خاملة، حيث كان بها بضعة تجار فقط، إلا أن المهمة الأساسية كانت الزراعة وصناعة الكتان، فكان القماش المصنوع من نبتة الكتان المزروعة محليًا والمصبوغ بالأزرق يعتبر أنيقًا سواء فى الإقليم أو في الأسواق القاهرية، وبينما يظل تاريخ بداية النسيج فيها مبهما، فإن الأقمشة الرفيعة بما فيما الصوف كانت تصنع وتصدر منذ القرن الثامن على أقل تقدير، وإلى جانب القمح والشعير والقصب والفول والعدس والذرة، التي كانت علفًا للحيوانات، فقد زُرع الخشخاش في منطقة أسيوط، ومنه صنع الأفيون وهو علاج طبي قديم.
وفي أسيوط وشطب-إحدى قرى المحافظة- وبضع بلدات أخرى على خط النيل، تم بناء مستودعات لتخزين كميات المنتجات الزراعية المخصصة كضريبة قبل الشحن إلى القاهرة.
وبدخولها القرن الثامن عشر، كان نجم أسيوط في صعود، لوفرة إنتاجها الزراعي وتجارتها مع السودان،إذ يشير المورخون إلى القرن الثامن عشر في صعيد مصلا، حيث سيطر زعماء قبيلة الهوارة، أصحاب الأمر والنهي، على العثمانيين، متخذين من عاصمتهم فرشوط مقرًا لعملياتهم، وفي أواسط القرن الثامن عشر أسس الشيخ همام يوسف حكمًا شبه ذاتي متحكمًا في تحصيل الضرائب من أسيوط إلى أسوان، كما بنيت عدة مساجد جديدة بها أبان هذه الفترة بالإضافة للسوق السلطاني لتجارة الغلال.
وفي عام 1769، انتهى ذلك الفاصل البدوي حين قام الزعيم المملوكي على بك الكبير بخلع الوالي العثماني في القاهرة وتولى مقاليد السلطة فى الصعيد بعد موقعة حاسمة قرب أسيوط ذات الأهمية الإستراتيجية.
وبعدها آتي الفرنسيون عام 1798، تحت قيادة نابليون بونابرت، حيث أعجب بالمعمار العتيق في أسيوط، فاستولي جنوده، الذين أحسن تسلحيهم، بسهولة على أسيوط، لكن السيطرة على الفلاحين في الصعيد الذين أرهقهم النفوذ الأجنبي بدت أمر غير هين، حيث فشل الفرنسيون في إخضاع الإقليم وبعد ثلاث سنوات اضطر البريطانيون نابليون إلى المغادرة.
صحوة أسيوط
وفي عام 1801، ضرب أسيوط طاعون عضال لم يترك سوى النذر اليسير من أهلها على قيد الحياة، وفي عام 1809 أرسل الوالي العثماني الجديد محمد على ابنه إبراهيم، لاستعادة النظام هناك فتغيرت مصائر المدينة مرة أخرى.
وقد اتخذ إبراهيم، ذو العشرين ربيعًا، من أسيوط مقرًا له، منشئا محل إقامة مهيبًا قرب بوابة المدينة وفيلًا في ميناء المدينة، وكإداري ماهر ترك إبراهيم بصمته على المدينة مؤسسًا ديوانًا للحكم تدار فيه البيروقراطية المتضخمة، وميدانا فسيحا يتجمع فيه الجنود ليقدمون العروض لنيل إعجاب عامة الشعب.
وجعل إبراهيم من أسيوط عاصمة للصعيد لكن الوجاهة التي اكتسبتها المدينة صادفتها سيطرة حكومية أشد وطأة فبمعزل عن تحصيلات الضرائب الصرامة حددت الدولة أسعار كل منتجات الإقليم مما خفض أرباح المزارعين والتجار.
وإضافة إلى المال، احتاج محمد على إلى العمالة للوصول إلى غايته في تحديث البلاد، فقد أرسل ابنه إبراهيم في عام 1820 إلى النوبة والسودان، ليهزم الملوك المحليين.
كانت أسيوط في بداية حقبة اقتصادية جديدة، فانشأت المصانع لإنتاج ملح البارود والقطن والصبغة النيلية، فالأوراق المزهرة لنبات النيلة توفر صبغة كان يعتبرها محتلو البلاد سابقا من الإغريق والرومان غرضًا من أغراض الترف، وقد استجلب محمد على في سنة 1816 خبيرًا أرمنيًا من البنغال حيث كانت تنمو أفضل أنواع نبات النيلة من أجل تحسين الصناعة.
وقد أسهم الولاة وكبار الموظفين في تجديد شكل المدينة وباع تجار أسيوط الكتان والصوف والأفيون والجلود والفخاريات وكذلك قايضوا السلع السودانية مع تجار القاهرة لقاء سلع من الشام وأوروبا.
وقد بنيت مراسي جدية للسفن، وولدت صناعة جيدة وهي بناء السفن لتزيد الطلب، واشتهرت أسيوط ببنائي سفنها وملاحيها وأطقمها الملاحية وورشها التى تجهز لقوارب الصيد.
يوم جديد
كانت أسيوط في منتصف القرن التاسع عشر من ضمن أكثر الأقاليم المزروعة بكثافة في مصر، وبما أنها ضمت أكثر تعداد ريفي في المقاطعة فقد أضحت عاصمة إقليمية مزدهرة وأحد أعمدة الاقتصاد الوطني، وزينت سماءها أربع عشر مئذنة.
ومع تقدم الوقت مع القرن التاسع عشر، واصلت ذرية محمد على مشروعه التحديثي، فقد تم نقل الحجارة بكثافة من جبانة الجبل الغربي وأعيد توظيف أحجار المقابر الجاهزة للبناء، التي قاومت الزمن لآلاف السنين، في المصانع والمباني التي كانت تخضع لرعاية حكومية، وفي عام 1866 تم إنشاء مكتبها البريدي الأول، وقد وصلت السكة الحديد خطوها حتى ربطت بين أسيوط والقاهرة عام 1864م، وهذه المجهودات وغيرها كانت ضرورية، ولكن ثمنها غاليًا فمن أجل السيطرة على القناة كبوابة للتجارة العالمية احتلت بريطانيا مصر عام 1882 وبقيت بها لمدة 70 عامًا.
وقد تثاقلت الديون من البنوك الأوربية على رأس عائلة مصر، وقامت الأخيرة ببيع حصص من ممتلكاتها، فاشتري وجهاء أسيوط رقعًا ضخمة من الأراضي الزراعية، ومع بداية القرن العشرين كانوا قد ملؤوا ضاحية جديدة بفيلاتهم، ذات الزينة الساطعة وحدائقهم ومقاهيهم.
وعلى أثر الثورة التي قادها ضباط الجيش، وتلاها قانون الرئيس جمال عبدالناصر للإصلاح الزراعي، الذي كان هدفه إعادة توزيع الثروات، تمت مصادرة كم ضخم من الأراضي والممتلكات من مالكيها ومنح رقع صغيرة من الأراضي للفلاحين.
وتمتد أسيوط حاليًا من سفح الجل الغربي حتى نهر النيل لتعطي ما يربو على الكيلومترات الخمسة من ضفة النيل الغربية، وتحتضن المدينة ذات النصف مليون ساكن تقريبًا أول وأكبر جامعة في الصعيد، كما تعتبر الموطن الأصلي لأحد أضخم المجتمعات القبطية في مصر، وقد تغيرت الإطلالة من الجبل الغربي بشكل واضح، نظرًا للتطور العمراني، وتتصدر المدينة واجهة المشهد فلم تزل تفرش الشمال والجنوب أبسطة من الحقول أطعمت أجيالًا من المصريين وساهمت فى بناء مصر الحديثة.
تعليق واحد