القاهرتان (8): تحديث المدينة القديمة
من المعلوم لدى الكثيرين أن مشروع تحديث القاهرة في عهد إسماعيل كان وليدًا لارادة سياسية في الأساس هدفت إلى تغيير وجه العاصمة في سبيل إلحاقها بركب الحداثة الأوروبية. لكنه من غير المعلوم أن هذه الارادة السياسية استهدفت بمشروعها من الأساس المدينة القديمة كما يؤكد جان لوك أرنو: ففور عودته من زيارته الشهيرة لباريس 1867 فكر إسماعيل في أن تكون المدينة القائمة محور مشروعه التحديثي إلا أنه عدل عن الفكرة بعد أشهر عندما تبينت له معوقات تنفيذ المشروع (راجع الحلقة السابقة) فقرر بناء حاضرة جديدة تماما. على أننا نعتقد أن عدوله عن الفكرة – فكرة تحديث المدينة القائمة – لم يكن فقط بسبب المعوقات وإنما تداخلت أسباب أخرى تطرقنا إليها في الحلقات السابقة كانبهاره الشديد بالنموذج الهوسماني مع ازدارءه للمدينة القديمة وكذا طبيعة شخصية الخديو المترددة، الخلاصة كانت أن ظهر عمران حديث على حدود المدينة القديمة وتم اضفاء “صورة” للحداثة عليه.
تحقيق صورة الحداثة إذن كانت هي الفكرة المسيطرة على الخديو وربما فسرت هذه الفكرة بعض الاجراءات العمرانية التي اتضح من خلالها أن إسماعيل لم يشأ أن يرفع يديه عن المدينة القديمة رغم تأسيسه لقاهرته الجديدة. من هذه الاجراءات ما امر به إسماعيل بمناسبة افتتاح قناة السويس في أن يتم طلاء واجهات الجوامع في المدينة القديمة باللونين الأبيض والأحمر بالتبادل – على غرار نمط مداميك الحجر الأبلق. وعلى الرغم من أن هذا النمط كان من الممارسات الشائعة خلال القرن التاسع عشر فإن ضيوف حفل الافتتاح –بعكس ما تصور إسماعيل – لم ينبهروا بالطلاء الجديد عند مرورهم بالمدينة القديمة، بل أن بعضهم وصفوا ما فعل إسماعيل بالعمل “الكارثي”. أما المؤرخ جاك بيرك فقد جاء وصفه لما حدث قاسيًا – ربما مقززًا:
“لا يزال بإمكان المرء أن يميز على واجهة بعض المساجد أثر الفرشاة المصبوغة بدم اللحم البقري وباللون الأبيض الحاد، بالتناوب في شكل أفقيات، وهو ما حدث بمناسبة زيارة الإمبراطورة أوجيني أثناء حفل افتتاح قناة السويس”.
**
على أية حال فإن عمل إسماعيل الكارثي في حق جوامع القاهرة القديمة لايعدو إلا أن يكون متمما لعمل كارثي آخر قام به جده محمد علي باشا حين أمر الأهالي بطلاء واجهات مساكنهم باللون الأبيض في سبيل توحيد الصورة البصرية. لكن غرض إسماعيل كان مختلفًا بحسب أرنو: “أراد إسماعيل ذلك بهدف دمج المباني القديمة في شبكة من النقاط المرجعية للمدينة فكان مهمًا بالتالي تحديث صورتها كي تظهر (لضيوف الخديو) نيته في تطوير المدينة بأكملها».
لكن وبغض النظرعن أية معوقات، ربما يتسائل القاريء عما إذا كان النظام قد أجرى “دراسة جدوى” – إن صح التعبير- لتحديث المدينة القديمة قبل أن يشرع الخديو في بناء القاهرة الجديدة؟ الإجابة بالطبع لا فلم يكن إسماعيل، كأمثاله من الحالمين، ممن تشغلهم الدراسات أو الحقائق أو الأرقام إنما كانت تعنيه كما أسلفنا “صورة الحداثة” مثلما رآها في باريس. على أنه بعد مايزيد عن عشرين عاماً من عزل إسماعيل وفي عهد حفيده عباس حلمي الثاني أجرت الحكومة المصرية دراسة لجدوى “هوسمنة” القاهرة القديمة بمعنى تطبيق تجربة هوسمان بحذافيرها على القاهرة ككل – وليس مجرد صورة التجربة كحالة قاهرة إسماعيل – جاءت نتائج الدراسة مخيبة للآمال مع أنها متوقعة تمامًا: “أنه نظرًا لحالة خزانة الدولة الحالية فإنه ينبغي الانتظار 145 عامًا حتى يتم تحقيق التجربة الهوسمانية في القاهرة بأكملها”. وأوصت اللجنة القائمة على الدراسة بأن يُقتصر التحديث المنشود على شق طرق مناسبة لتيسير المرور في المدينة !
كان واضحًا أن تحديث القاهرة القديمة يكاد يكون مستحيلًا لاسيما بعد اختفاء عدد كبير من خصائصها المميزة خلال “حمى الهدم” (راجع الحلقة الثالثة و الحلقة الرابعة) فقدت القاهرة القديمة – أو بالأحرى اُفقدت – عددًا كبيرًا من مبانيها التاريخية لاسيما المساكن والبيوت التي هُدمت بلاحساب أثناء شق الشوارع الجديدة أو لاحترام “خط النتظيم” حتى لم يبق من هذه المساكن سوى مايقل عن الأربعين تم تسجيلهم سنة 1910، و تراجع هذا العدد لأكثر من عشرة سنة 2011.
كيف حافظت “لجنة الحفاظ” على المدينة القديمة
على أنه من الظلم أن نتصور أنه قد تم إهمال تراث القاهرة القديمة تمامًا في عهد إسماعيل وخلفاؤه إذ تأسست لجنة الحفاظ على الفن العربي 1881 بهدف صيانة مآثر المدينة التاريخية و تم تسجيل قائمة لهذه المباني شملت 205 مبنى ثم بلغ العدد 300 مبنى سنة 1903. أما عن المباني غير المسجلة على القائمة فقد بلغت أضعاف هذه الأعداد لكن تم استبعادها للأضرار التي لحقت بها أو لنقص التمويل اللازم لترميمها. أما ماهية عمل لجنة الحفاظ فكانت حصر ورفع المباني التاريخية في سبيل تقييم خصائصها الفنية والوقوف على درجة تميزها أو (تذكاريتها) بتعبير جان لوك أرنو. قامت اللجنة بالتالي بتسجيل المباني التاريخية داخل مجموعة من التصنيفات مثل أماكن العبادة (المساجد و الزوايا)، المباني العامة (الحمامات و الوكالات)، فراغات التعليم (المدارس و الكتاتيب) ثم المساكن (البيوت والقصور).
وبناءً على عملها، فقد قررت اللجنة، بحجة الحفاظ على التراث، تجريد المدينة القديمة من عناصرها التي كونتها، لاسيما تلك التي مثلت لديها قيمًا فنية. ومن المثير للسخرية أن أرنو قد أجرى مقارنة بين المتحف المصري المؤسس حديثًا وقتئذ (متحف الأنتيكات المصرية) و متحف الفن الذي خرج من رحم لجنة الفن العربي: فالأول يتكون من قطع تم اكتشافها عن طريق الكشف في مواقع التنقيب بينما مقتنيات الثاني تم جمعها مباشرة من المدينة القديمة. يعطي أرنو في النهاية صورة أوضح لعملية تجريد المدينة القديمة من عناصرها:
“تم تجريد القصور والمباني الدينية والمباني الأخرى من العناصر” ذات أهمية تاريخية “؛ ووضعت بالتالي النوافير وشواهد الأضرحة والأسقف والمشربيات في المتحف. وفي غير مرة، قام أعضاء اللجنة برفع الأعمال الخشبية والزخارف الخزفية من المساجد بحجة أن ممارسة العبادة لا تسمح بالحفاظ عليها على النحو الواجب “.
**
اعتبر بعض علماء الآثار والجماليات هذه التدابير المتخذة في المدينة القديمة ضربًا من ضروب التخريب.فجهر هؤلاء بالاعتراضات تعبيرًا عن قلقهم من الخطر الناجم عن هذا “الحماس المدمر” الذي يتعامل مع نسيج المدينة القديمة على أنه “رقعة شطرنج” بحسب تعبير جاك بيرك. كان من هذه الأصوات المعترضة عالم المصريات الفرنسي آرثر علي رونيه (1836-1910)، الذي حذر من أن الطرز العربية والمملوكية، تواجه خطر الانقراض لصالح الطرز القوطية الإيطالية “المنحطة”، والتي سيطرت للأسف – والكلام لرونيه- على جميع الشواطئ الشامية منذ قرن. وأبدى البارون دي جليون – مصمم “شارع القاهرة” بالمعرض العالمي بباريس (راجع الحلقة الثالثة) أسفه لاختفاء الكثير من المنازل القديمة في القاهرة، حتى ظهر في المقابل مجموعة من “المنازل الحديثة سيئة الذوق” تم بناءها كي “تحل محل المنازل القديمة تدريجياً”.