القاهرتان (7): مدينة إسماعيل.. المأزق والحل
شهران ونيف قضاهما إسماعيل في طواف بين المدن الأوروبية. كانت هذه المدة القصيرة كفيلة بأن يستقر اختياره أخيرًا على نموذج هوسمان لتحديث باريس لينتهجه في اجراء نقلة عمرانية لقاهرة المعز. ساعده على الاختيار تشابهًا ظاهريًا بدى له بين المدينتين – القاهرة وباريس – حيث حوت الأخيرة دروبًا وطرقًا تشبه في ظلامها والتواءها الحارات القاهرية. لكن الدروب والطرق الباريسية تم إحلالها بمخطط عمراني أداره رجل نسيج وحده هو البارون جورج يوجين هوسمان، الأمر الذي انشرح له صدر الخديو الشاب في ألا يفقد الأمل في تحديث عاصمة ملكه إذا عاونه رجال من أمثال هوسمان فليس هو أقل من صديقه نابليون الثالث. وكي لا “يخترع العجلة” طلب إسماعيل من هوسمان أن يستقدم له بعض الخبراء ممن ساعدوه في تحقيق المشروع الباريسي وكل نيته في تشييد “باريس على ضفاف النيل”.
لكن الرياح أتت بما لم تشته سفن إسماعيل. فتنفيذ مشروع تحديث المدينة العظيمة ذات التسعة قرون ليس ببساطة إرادة “الجناب العالي” في أن تتم عملية التحديث خلال عامين فقط كما أراد وذلك حتى يتسنى لضيوف حفل افتتاح قناة السويس أن يشاهدوا قاهرة جديدة “قادرة على منافسة أكبر بلدان و عواصم أوروبا” بحسب المؤرخ أندريه ريموند الذي راح يعدد معوقات المشروع التحديثي: فعلاوة على مدة تنفيذه المستحيلة فإن النمو السكاني لقاهرة المعز منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر لا يسمح بتمدد المدينة إذا ما تم إحلال أجزاء منها، كما أن الأسس التخطيطية والمنطق العمراني الذي نشأت عليه قاهرة المعز لن يسمحوا بأي حال باستقبال أسس تخطيطية أو عمرانية دخيلة وبالتالي لا يمكن ان تستوعب المدينة القديمة شرائح سكانية جديدة. ومع إصرار الخديو على مهلة “العامين”، شكلت هذه المعوقات تقويضًا لحلم إسماعيل وكادت تجهضه لولا تنازله عن فكرة إحلال مدينة بأخرى لصالح تشييد مدينة جديدة تمامًا على حدود المدينة القديمة.
**
كان الأمر جليًا والبدائل محدودة جدًا إما عاصمة جديدة وإما لا شيء! ولن يتكلف الأمر سوى تحقيق “صورة أوروبية” للضيوف الأجانب تحقق غرض “الفرجة” خلال أيام لكنها تضمن لسنوات “الستر” للخديو الممتعض من عاصمة “التراب والانقاض” الذي ابُتلي بها وابتليت به. وإذا كان حال المدينة القديمة لن يتغير ومناسبة افتتاح القناة لن تتكرر، فعلام تجشم المشاق وتحدي المستحيل؟
ولكي تتم هذه الصورة الأوروبية على الوجه الذي يرضي إسماعيل وضيوفه كان لزامًا وضعها في الإطار الفراغي المناسب ونعني وجود فراغ عمراني يسمح بظهور “علامات عمرانية” حديثة وهي مجموعة من المباني النوعية شديدة الدلالة على الحالة الحداثية المنشودة. بالطبع لم تكن قاهرة المعز لتسمح بظهور هذه العلامات الحديثة من نوعية دار الأوبرا أو السيرك أو مضامير السباق وبحسب ريموند فإن هذه المباني النوعية هي في الأصل نماذج باريسية تم تصميمها وسط شبكة الطرق بصورة مهيمنة تسمح بعرضها في سياق حيوي وهو ما لا يمكن تحقيقه في قلب نسيج عمراني متضام وغير مخطط وهي حالة القاهرة القديمة. من ثم فرضت فكرة المدينة الجديدة نفسها فكانت لزامًا لتحقيق الحداثة، حتى لو كانت مجرد “صورة” لها.
صورة ناقصة
على أنه من الخطأ الاعتقاد إن قاهرة إسماعيل قد نشأت بين عشية وضحاها أو ظهرت نتيجة عمل دؤوب متواصل. فبالرغم من قصر المهلة التي حددها إسماعيل لاكتمال عمليات البناء إلا تلك لا تشكل سوى دورة قصيرة الأجل اعترتها ثم تبعتها فترات من الانقطاع. لكن على أية حال، فإن العمليات العمرانية التي تمت في عهد إسماعيل استطاعت تغيير وجه القاهرة بشكل جذري وحددت شكل ونمط الامتدادات المستقبلية للمدينة الأم. لاسيما أن ال١٧٨ هكتارًا الذين يمثلون الانشاءات “الإسماعيلية” شكلت نسبة مهمة تعادل ربع مساحة المدينة القديمة التي واصلت نموها حتى مساحتها قبل أن تغرب شمس إسماعيل! تواصلت عمليات البناء حتى تضاعفت امتدادات الطرق لتقفز من ٥٤ إلى ٢٠٨ كيلومترًا بزيادة بلغت أربعة أضعاف. ويتصور جان لوك أرنو إن تشييد المدينة الحديثة قد خلق ديناميكية عمرانية لم يسبق لها مثيل استطاعت بها انتشال المدينة القديمة من حالة الكمون التي أصابت المدن التقليدية منذ القرن الثامن عشر.
**
وتجدر الإشارة إلى أن فترات الانقطاع التي اعترت مشروع إسماعيل كانت وثيقة الصلة بانهيار نظامه السياسي تحت وطأة الأزمات الاقتصادية لاسيما بعد إنشاء صندوق الدين وإعلان الرقابة الثنائية ثم أزمة عزل إسماعيل ونشوب الثورة العرابية في عهد خلفه التي انتهت بالاحتلال العسكري لمصر. ومن بعد هذا الأخير تعطلت الأعمال العمرانية لمدة تزيد على عقدين من الزمان حتى أصبح المشروع الحداثي في مطلع القرن العشرين يعطي انطباعًا بوجود مدينة حديثة ولكن ” منقوصة تحمل روح المغامرة (الخاسرة)” كما يصفها جاك بيرك.
وبالرغم من أن قاهرة إسماعيل مثلت لدى النظام أكبر دواعي فخره – والكلام مازال لبيرك – فإنه قد كان يُنظر إليها باعتبار أنها “مشروع غير محدد المعالم” على الرغم من ظهور الانشاءات والشرايين التي ربطتها ببعض كشارع قصر النيل (بطول ١,٢٥ كم) و الفلكي (١,٢٦ كم) وعماد الدين ( ١,٧٢ كم). ويتفق جان لوك أرنو مع بيرك بخصوص مسألة “صورة وانطباع المدينة الحديثة” فيقول: “بنهاية القرن التاسع عشر ظهرت للقاهرة وجوه عدة. هذه الوجوه لم تعبر عن حالة تقريرية للواقع المديني وإنما وشت بمشروعات عمرانية غير مكتملة”. والمعنى مفهوم في أن ظهور قاهرة إسماعيل بصورة منقوصة على حدود المدينة العريقة وضعها في مقارنة محسومة لصالح الأخيرة.. رغم أنف أحلام إسماعيل.
**
على أن فشل مشروع إسماعيل الجزئي كان متعلقًا بنمط إدارة المدينة الحديثة الذي اعتراه العوار والفساد. حتى يمكن القول إن انهيار النظام السياسي والاقتصادي في البلاد كان مسبوقًا بانهيار النظام الإداري. ادار إسماعيل مدينته وكذا دولته بناءً على علاقاته الشخصية. و تداخلت اختصاصات الإدارة ما بين «البيروقراطية المدنية و كبار العسكريين وكذا العائلة ثم الدائرة المقربة جدًا من الخديو” أدى عدم تحديد المسئوليات بين كل هذه الأطراف إلى حالة من الفساد الإداري وقف ورائها الخديو نفسه. ونتج عنها صدور قرارات فردية وتشريعات مستحيلة التحقيق إذ نمت عن عدم دراية كافية للواقع لكنها لا تصب في غير مصلحة الخديو وبالطبع لم يجرؤ “رجال أفندينا” على تبصيره بحقائق الأمور عمرانيًا واقتصاديًا فقد عودهم كما تعودوا من أسلافه أن حفاظهم على مناصبهم في الدولة مرهون بقدرتهم على الاستجابة الفورية لقراراته المفاجئة…وهو ما دفع الجميع ثمنه لاحقًا.