القاهرتان (6): لغز إسماعيل..وحلمه
نعتقد أنه من المهم، في سبيل فهم المشروع الحداثي الذي قامت على أساسه المدينة الجديدة في عهد إسماعيل، أن نحاول سبر أغوار هذا الأخير. ذلك أنه إذا استخدمنا “مفتاح الشخصية” – والمصطلح للكاتب الكبير عباس العقاد – فقد يؤدي بنا إلى فهم دوافع الخديو إسماعيل في استكمال المشروع الحداثي وربما ساعدنا ذلك أيضًا على إيجاد مبررات لما له ولماعليه. في رأينا فإن السمات الشخصية الأصيلة والمكتسبة للخديو قد لعبت دورًا مهما في سير الأحداث سواءًا فيما يخص مشروعاته العمرانية الكبرى أو فيما يخص سياساته التي أدت به إلى المصير الدراماتيكي الذي تطرقنا إليه في الحلقة السابقة.
على أن مواهب إسماعيل كانت مشهودة قبل اعتلاءه العرش أيام كان أميرًا: حيث عُرف بين أفراد الأسرة الحاكمة بحسن إدارة أملاكه الخاصة ومنها اكتسب صفة رجل الأعمال المتعهد. تجلت هذه الصفة فيه حين تزعم مقاومة أفراد أسرته لأطماع ابن عمه عباس باشا في إرث جدهم محمد علي باشا وفي ولاية العهد (طمع عباس أيضًا في تغيير نظام وراثة العرش ليحظى ابنه إلهامي باشا بالعرش من بعده لكنه قُتل ثم مرت عشرون سنة قبل أن يفعل إسماعيل الأمر نفسه !). على إثر الخلاف بين “الإخوة الأعداء” اضطر إسماعيل مع بعض الأمراء إلى الهجرة خوفًا من بطش “ابن العم”. عاش إسماعيل في كنف السلطان عبد المجيد الأول وتحت حمايته سنوات حتى مصرع عباس فاستقدمه سعيد باشا وعينه رئيسا لمجلس الأحكام – الهيئة القضائية الوحيدة آنذاك- كما أرسله إلى فرنسا في مهمة سياسية كانت سببًا في توطيد صداقته بإمبراطور فرنسا نابليون الثالث.
**
ويبدو أن سمة رجل الأعمال أو المتعهد لدى إسماعيل قد لازمته حتى بعد اعتلاءه العرش. يستدل المستشرق جاك بيرك على ذلك بإنشاء إسماعيل للمدينة الجديدة فيقول “منذ أوائل عهده وهو يفكر في أقصى استفادة من عقد صفقة كبرى على حدود المدينة العثمانية – يقصد قاهرة المعز – في مجالي الأراضي والعقارات”. لكن قبل الحكم على استدلال بيرك يتحتم علينا قراءة شخصية الخديو الجدلية بعيون معاصريه. نجد مثلا لورد كرومر وكان يشغل في أواخر عهد إسماعيل منصب المراقب العام الانجليزي يصف إسماعيل بأنه “شخصية متفردة” وهو الوصف الذي يناقضه وصف آخر بحسب القنصل ديسميشل بأن إسماعيل ليس إلا “روحًا مترددة لكن ماكرة” يحثها “خيال محموم في سبيل تغيير وجه مصر عن طريق إجراء تغييرات جذرية”. أما نوبار باشا أحد خلصاء إسماعيل وأبيه وآخر رؤساء نظاره فيصف إسماعيل في مذكراته بسيل من الأوصاف السيئة فهو: “منذهل، قاتم، متوحش وميكيافيللي”!
يستخلص بيرك من كل هذه الصفات صفتين أساسيتين نعت إسماعيل بهما: “الاستبداد والغموض”. ولعله قد يكون مفهومًا أن صفة الاستبداد لم تكن فقط حكرًا على إسماعيل: سبقه إليها أغلب الذين حكموا مصر قبله في ظل غياب النظام الديموقراطي وسيطرة الحكم الفردي الذي يعتبر المحكوم “إرثًا أو عقارًا”! غير أن سمة الغموض – بعكس الاستبداد – ميزت إسماعيل عن غيره من الحكام ربما كان ذلك بسبب عدد المنجزات الحداثية مع نشوب الأزمات الكبرى التي تميز بها عصره لكن الأمر في نظرنا يتصل بغموض المسلك الذي سلكه إسماعيل في سبيل تحقيق هذه المنجزات. صحيح أن إسماعيل أراد تحقيق الحلم الكبير بتحويل القاهرة إلى عاصمة يمكن مقارنتها بأكبر حواضر أوروبا ولكنه خلال تحقيق هذا الحلم لم يتخل أبدا عن سمت “رجل الأعمال” المتأصل فيه فغلب مصلحته الشخصية على مصلحة الدولة واعتبر أن المدينة الجديدة “استثمار خاص سيؤتي ثماره من جراء عمليات تنمية الأراضي “بحسب تعبير المؤرخ جان لوك أرنو.
القاهرة الموازية حلم الأسلاف
إن إنشاء المدينة الحديثة في عصر إسماعيل جعلت من هذا الأخير أحد أعظم بناة القاهرة لدرجة أن بعض الأدبيات الفرنسية لقبته بإسماعيل العظيم Ismaïl Le Magnifique وهو ما يطرح سؤالًا عما إذا كان مشروع “القاهرة الموازية” كان مشروعًا إسماعيليًا بامتياز أم قد سبق إسماعيل إليه الأسلاف من أبناء أسرة محمد علي؟ الحقيقة أن نية إنشاء مدينة جديدة لم ترد على لسان أي من أسلاف إسماعيل الثلاثة لكن ثمة محاولات جرت في عصور هؤلاء الباشوات لاستصلاح أراض في مناطق نائية عن قاهرة المعز وغير مأهولة بالسكان الأصليين.
لعل أول هذه المحاولات تمت في عهد إبراهيم باشا عندما قرر استصلاح 230 هكتارا بين شارع بولاق والقصر العيني شرق قاهرة المعز على هذه المساحة أزيلت أكوام من القمامة والأنقاض وهُدمت بعض الحصون القديمة وأقيمت مكانها مجموعة من القصور على النهر. أما عباس باشا فقد ساهمت عزلته الشخصية وتطيره بمن حوله في قلعة الجبل في أن يبتعد فيتجه شمالًا لبناء سراي “العباسية” فكانت نواة لحي جديد حمل فيما بعد نفس الاسم. كما أدى توقيع عباس لعقد مد السكك الحديدية بين الأسكندرية والسويس مرورًا بالقاهرة إلى إنشاء محطة للقطارات في شمال شرق المدينة ومن ثم عمرت المنطقة الكائنة بها “محطة مصر” وتحولت الأراضي الزراعية حولها وكذا الموجودة بين شارع الخليج العربي والنيل إلى مناطق مأهولة بالسكان فيما بعد.
**
شكلت هذه المحاولات الطفيفة نوايا لامتدادات عمرانية لقاهرة المعز وعلى سبيل المثال فإن حي العباسية قد تحول خلال عقود إلى حي برجوازي لسكنى ضباط الجيش المصري. نعتقد بالتالي أن تلك العمليات العمرانية على ضآلتها قد حملت بذور تأسيس المدينة الحديثة التي أنشأها إسماعيل. مع ذلك فإنه علينا الاعتراف بان محيط قاهرة المعز لم يتغير على مدار النصف قرن السابق على تأسيس مدينة إسماعيل رغم هذه العمليات العمرانية ورغم شق الشوارع الجديدة في نسيج المدينة القديمة – راجع الحلقة الثالثة – وهو ما حدا بجان لوك أرنو إلى الجزم بأن الإجراءات العمرانية قبل إسماعيل لاتزال تعتبر “بعيدة عن منطق التعمير المستمر” بما يعني أن هذه المحاولات التنموية لم يكن لها التأثير الكبير على المدينة الأم.
بلغ عدد سكان القاهرة في أول عهد إسماعيل 270 ألف نسمة يسكن أغلبيتهم في المنطقة الواقعة مابين جامع عمرو بن العاص والحسينية – شمال المدينة – واتسمت التركيبة السكانية بالتجانس الكبير غير أنها تعرضت لتغير خطير كان مبعثه إصدار اللائحة السعيدية في عهد سلف إسماعيل محمد سعيد باشا. على رغم عما انطوت عليه هذه اللائحة من فكر إصلاحي فإنها سمحت للأجانب بحق تملك الأراضي والعقارات في مصر وهو ما أدى إلى انفتاح البلاد على “رؤوس أموال جديدة حملها القادمون من أوروبا” بحسب تعبير أندريه ريموند.
هذا الانفتاح لم يكن فيه خيراً للمصريين حيث قويت به شوكة الأجانب فشكل بعضهم كيانات دينية وعرقية صارت فيما بعد دولًا داخل الدولة. استمتع الأجانب بامتيازات عدة جعلتهم فوق السكان الأصليين مجتمعيًا واقتصاديًا وحقوقيًا. كان لهذا التمييز بين الأجانب والمصريين نتائجه الخطيرة على مسار الأحداث فيما بعد فساهم مع عوامل أخرى سياسية واقتصادية وطبقية في اشتعال الحوادث الكبرى في تاريخ المصريين الحديث فنشبت أولا ثورة عرابي باشا 1881 ومرورًا بثورة 1919 والإضرابات العمالية 1946 حتى انتهت التراجيديا بحريق القاهرة الكبير 1952 وبعده زال حكم أسرة محمد علي وإسماعيل إلى الأبد.
اقرأ أيضا:
القاهرتان (5): الخديو إسماعيل…مشروع طموح ونهاية درامية