القاهرتان (17): أنا حرة وازدراء المدينة القديمة
يمكننا أن نفهم أن ازدهار المدينة الحديثة– قاهرة إسماعيل– خلال النصف الأول من القرن العشرين– كان مواكبًا لانفتاح الدولة المصرية على الحضارة الأوروبية وهو ما أثر سلبًا وإيجابًا على حياة القاهريين. لقد لعبت أنماط الحياة في القاهرة الحديثة دورًا في تطوير تطلعاتهم المجتمعية والاقتصادية آملين بذلك الوصول إلى حياة أكثر انفتاحًا وأكثر حرية. هذه التطلعات المشروعة انتشرت بشكل خاص بين القاهريين الذين يعيشون خارج المدينة الحديثة حيث مثلت لهم هذه الأخيرة بابًا من أبواب الحرية المنشودة. من هؤلاء القاهريين الطامحين كانت أمينة بطلة رواية أنا حرة لإحسان عبدالقدوس المنشورة عام 1954.
***
إحسان عبدالقدوس (1919-1990) كاتب وصحفي مصري. ولد في القاهرة لعائلة تركية الأصل. والدته الصحفية روز اليوسف أما والده فهو الفنان والمؤلف محمد عبدالقدوس. تأثرت طفولته بجده، الذي كان شيخًا محافظًا مثلما تأثرت بوالدته، التي تبنت أيديولوجية ليبرالية. بين الاجتماعات الدينية والندوات الثقافية نشأ عبدالقدوس بين قطبين متقابلين حاول كل منهما جذبه إلى جانبه، فيما وصفه هو فيما بعد بأنه «دوار ذهني». انعكس هذا الأخير على عبدالقدوس في رواياته التي تتناول معظمها الصراعات الأخلاقية والقضايا الفكرية للمجتمع المصري. وقد جلبت له كتاباته الأدبية وآراءه السياسية الجريئة متاعب جمة: فقد نجا من محاولة اغتيال في عهد الملك فاروق. ثم اعتقل في عهد عبدالناصر وأخيرًا أقاله السادات من منصبه كرئيس تحرير الأهرام.
تدور أحداث رواية أنا حرة في قاهرة الثلاثينيات وبطلتها طالبة شابة متمردة تعيش مع عمتها في حي العباسية المتاخم للمدينة الحديثة (حي الاسماعيلية). بعد بضع سنوات، تنتقل أمينة بطلة أنا حرة لتعيش مع والدها وتواصل دراستها في الجامعة الأمريكية الكائنة بميدان الإسماعيلية (ميدان التحرير حَالِيًّا). تسمح لها الحياة الطلابية في المدينة الحديثة بمواجهة مجتمع كوزموبوليناني، يمثل لها هذا الأخير تحولًا أَيْدِيُولُوجْيَا وَثَقَافِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا. بالطبع تعارضت هذه التغييرات مع قيم أمينة التي اكتسبتها من نشأتها في القاهرة القديمة.
***
خلال صفحات أنا حرة تصطدم بطلتنا أمينة، واسمها يحمل دلالتي الثقة والصدق، خلال حياتها الأولى بهيمنة الذكور على المجتمع الذي تحياه داخله عبر مجموعة من التجارب التقت فيها بمجموعة من الرجال الذين حاولوا قمعها أو امتلاكها. عبرت أفكار أمينة، مخاوفها وطموحاتها، عن الحركة النسوية في المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين: فوفقًا لأمينة، فإن التمرد النسوي ضد النظام الأبوي المهيمن والتقاليد المجتمعية البالية هو السبيل الوحيد لتحقيق الحرية والمساواة في الحقوق في المجتمع.
لكن رغم ذلك، تفاجئنا أمينة نهاية الرواية، أن تقع أمينة في حب عباس، الجار القديم والكاتب ذي الميول الوطنية. ثم تقرر طرح أفكارها ونضالها جانبًا لتتفرغ لرعايته “فضلت أن تهب نفسها وحريتها للرجل الذي اختارته “!هذه الرحلة، رحلة نضال الفتاة المتمردة ضد المجتمع المحافظ، تم تمثيلها عمرانيا عبر مجموعة من المشاهد التي رسمتها الرواية بين القاهرتين. ففي شارع البورصة وداخل أروقة الجامعة الأمريكية برزت المدينة الحديثة كرمز من هذه رموز الحرية المنشودة التي يتمتع بها مجتمع ليبرالي كوزموبوليتانية. بينما في القاهرة القديمة، وخاصة في شارع الخليج المصري حيث الحد الجغرافي بين القاهرتين، يقبع مجتمع تقليدي متحجر الفكر.
***
على مدار أربع سنوات، تستقل أمينة الترام رقم 22 إلى مدرسة السنية بالقاهرة القديمة، يعبر خط الترام رقم 22 شارع الخليج المصري الطويل. معلوم أنه قد تم افتتاح خطوط الترام في القاهرة عام 1896 وفيما بعد انتشرت خطوط الترام في القاهرة حتى بلغت حوالي 30 خطا في عام 1917. قبل ذلك، في يونيو 1900، تم مد خط الترام ليصل شارع الخليج. من خلال رحلاتها اليومية، تنقل لنا أمينة مشاعر الازدراء التي تكنها لترام شارع الخليج:
“إنها تكره هذا الترام المكون من عربة واحدة ترتعش فوق القضبان كأنها طفل مشرد مصاب بالسعال الديكي تكره مقاعده الخشبية الجافة كأنها ألواح” غسل “الموتى”.
يُعد ترام رقم 22، المار بشارع الخليج، واحد من أقدم الخطوط. إذ تم افتتاحه في عام 1897 لربط مناطق السيدة زينب وغمرة وقصر العيني. تدهورت حالة هذا الترام منذ افتتاحه، أي قبل أربعين عامًا من وقت أحداث الرواية (1936). ينقل لنا كلام أمينة مجموعة من الصور الصوتية تهيمن عليها حالة من الضوضاء المستمرة التي تحدثها اهتزازات الترام حتى أنها تشبه سعال مزمن ومزعج لطفل سقيم، كذلك تبدو لنا الصورة المرئية لاسيما مع وصف المقاعد الخشبية القديمة التي لا راحة في الجلوس عليها. المرض– السعال الديكي- والموت- ألواح غسل الموتى– صفتان متلازمتان تستحضرهما أمينة داخل الترام فيما يؤكد لنا مستوى تدهور وسائل النقل في المدينة القديمة. لم يمنع ذلك أن يتسم المشهد ببعض الحيوية لتحتل هذه الأخيرة جزءًا مُهِمًّا من أفكار أمينة:
“وتكره الباعة المتجولين الذين يقفزون من على اليمين ومن على اليسار تكرههم وتكره من بينهم بالذات هذا البائع الشاب الذي يقفز إلى الترام عند تقاطع شارع الموسكي وشارع الخليج؟ وما يكاد يراها حتى يرفع صوته بالغناء […] ثم يقطع أغنيته ويصرخ على بضاعته”.
***
نلاحظ هنا بوضوح حركة الباعة الجائلين داخل الترام، وهي الحركة الموصولة بفكر السعي لكسب لقمة العيش وعلى الرغم من أن ركوب الترام يساوي دفع تذكرة وأن صعود الباعة الجائلين غير مرغوب فيه في الترام نفهم بوضوح تحدي الباعة الجائلين لهذه القواعد في سبيل مواجهة الفقر إلى حد المخاطرة بالحياة نفسها بالقفز من الترام أثناء سيره! نكاد نسمع تصايح الباعة مدللين على بضاعتهم لكن انشغالهم لا يمنع بعضهم من معاكسة الفتيات اللاتي يجلسن في عربة الترام ربما من باب المداعبة… أو على الأقل من باب التنفيس أو الترويح عن النفس التي تعاني شظف العيش. وسط هذه الأجواء وعبر نافذة الترام تتأمل أمينة حال شارع الخليج لينال حظه هو الآخر من الازدراء:
وتكره شارع الخليج نفسه الذي يناسب ضيقا مظلما كثعبان يتلوى في طين مستنقع، وتكره البيوت المهدمة التي تقف على جانبيه.
***
كان شارع الخليج المصري، الذي لم يتجاوز عرضه عشرة أمتار في ذلك الوقت، جزءًا من نهر النيل قبل أن يتم تجفيفه أثناء إنشاء خطوط الترام عام 1897. قبل ذلك كان الشارع، الذي غالبًا ما غمرته الفيضانات «مستنقعًا» ومصدرًا لانتقال الأمراض. لم تكن إذًا الصورة التي استخدمها الراوي في وصفه للشارع “ثعبان يتلوى في مستنقع” مجحفة ولم تكن وليدة صدفة إذ إنها تتصل بماضي الشارع. صحيح أن أمينة لم تعاصر شارع الخليج أيام كان مستنقعًا ولكن يبدو أن تاريخ شارع الخليج كان كامنًا في الذاكرة الجماعية لسكان القاهرة القديمة. مما سمح فقط بمرور الترام. بعد سنوات قليلة من صدور رواية أنا حرة، وصف المؤرخ شحاتة عيسى إبراهيم في كتابه “القاهرة” شارع الخليج المصري بصورة تتوافق مع تصور راوي أنا حرة وهو ما يؤكد مشاعر أمينة تجاه الشارع:
“كان شارع الخليج المصري يمثل إهمال الحكومات السابقة وإخلال شركات الاحتكار بتعهداتها واهتمامها باستنزاف أموال الشعب وكانت شركة الترام قد قطعت على نفسها عهدا عندما استخلصت من الحكومة المصرية امتياز مد خطوطها على هذا الشارع، أن تملأه نورا وضياء بالليل، ولكنها ملأته ظلاما وقتامة. فأصبح المرء لا يجرؤ على السير منفردا، وإلا دهمه اللصوص وقطاع الطرق. هذا فضلا عن التواءه كأنه ثعبان الكوبرا، وقيام الخرائب والمنازل المتداعية على جانبيه وكان يضيق بعربتي ترام تسيران جنبا إلى جنب”.
نلاحظ بوضوح في الفقرة السابقة الحالة المتدهورة للمباني على جانبي الشارع وحالة الأمن المعدومة علاوة على التشكيل المعقد للشارع. لكل هذه الأسباب لا تشعر أمينة إلا بالعداء تجاه الشارع، الذي يمثل في رأينا المدينة القديمة: مبانيها المتدهورة ووسائل النقل المتداعية فيها وسلوكيات بعض سكانها المثيرة للدهشة، أو للغضب لسكانها.