القاهرتان (14): تمييز صارخ
ازدهرت المدينة الجديدة في أوائل القرن العشرين حتى أصبح صخبها دليلًا على حالة سياسية ومجتمعية لم تعرفها القاهرة الأم منذ قرون. لكن مع هذا الازدهار اتسع البون بينها وبين المدينة القديمة برغم الحاجز الجغرافي الدقيق الذي يفصلهما. وكان نمط المعيشة المتباين بين المدينتين مثار حيرة النخبة المثقفة في مصر. من بين هؤلاء كان شاعر النيل حافظ إبراهيم الذي بعد أن تعرض في قصيدته “إلى مصر” – منشورة في مجلة المنار 1904- لجيل الشباب في زمنه بقوله “يقولون في النشء خير لنا.. وللنشء شرٌ من الأجنبي” تساءل في استنكار: “أفي الأزبكية مثوى البنين… وبين المساجد مثوى الأب”.
في البيتين جيلان متعاقبان، الآباء والأبناء، ينتمي كل منهما إلى حيزين عمرانيين: الأزبكية كممثل عن المدينة الجديدة والمساجد السمة الأصيلة للمدينة القديمة. كأن حافظ إبراهيم ينوه على أن نمط الحياة في المدينة الجديدة والذي يستقطب الجيل الناشئ من المصريين ينذر بكارثة أسوأ من الاحتلال الأجنبي، ذلك أن تغلغل النمط الغربي يسلخ الأمة عن هويتها كما يسهم في نشوء انفصال بين جيل الأبناء وجيل آبائهم الذي فرض عليهم عجزهم عن مسايرة الأوضاع الجديدة القبوع في المدينة القديمة.. بين جدران مساجدها العتيقة. كأن الفجوة العمرانية بين القاهرتين أسفرت عن انفصال مجتمعي طالت أثاره جيلي الآباء والأبناء داخل الأسرة الواحدة.
ومن الطريف أن فكرة ربط علاقة القاهرتين بصلة الأب وابنه عند حافظ إبراهيم قد ظهرت فيما بعد في قنديل أم هاشم– راجع الحلقة الثانية عشر– حيث تناول يحي حقي نفس التيمة.. بنفس جدليتها ومأساويتها وهو ما نعتبره جديرا بالتأمل في أن تترأى نفس المفاهيم المجتمعية والعمرانية لأجيال الانتلجستيا المصرية على اختلاف مشاربها خلال النصف الأول من القرن العشرين فيحدث ذلك التناص العجيب في كتاباتهم!
***
لكن من الإنصاف أن نقول أن ازدهار المدينة الجديدة لم يكن خَطِّيًّا أو على نفس الوتيرة الصاعدة فقد شهدت المدينة الحديثة أيضًا هبوط بعض المناطق لصالح مناطق احتلت الصدارة في فترة وجيزة: مثلًا نجد أن الأزبكية لم تعد “مَثْوَى للبنين” بعد سنوات قلائل من وفاة حافظ إبراهيم توفى سنة 1932– فخلال الفترة ما بين الحربين العالميتين فقدت الأزبكية رونقها لصالح أحياء كبرى في المدينة الإسماعيلية حتى أصبح التنزه مفضلًا للعامة في شارع فؤاد حيث المتاجر الكبرى كما أن شارع عماد الدين صار مركزا جديدًا للهو وقضاء أوقات الفراغ.
حسم جاك بيرك المسألة بقوله “أصبحت أيام الأزبكية الجميلة أثرًا بعد عين في أعقاب الحرب (الأولى) “. في الوقت نفسه، تعاظمت الاختلافات الثقافية والاجتماعية بين المدينتين حتى أصبح البون بينهما لا يحتاج إلى ملاحظة دقيقة لأنه أصبح ببساطة مدركًا بالحواس البشرية وأبرزها حاسة الشم التي يقول عنها أندريه ريموند حال عبوره بين المدينتين: “إنه لا يوجد حد مرئي بين الأحياء المصرية والأحياء الأخرى. تجاوزنا رائحة القلي، كما يعبر المرء الأسلاك الشائكة، إلى رائحة المخابز اليونانية والمعجنات السويسرية”.
وبلا شك فإن الأحياء المصرية المذكورة هي الكائنة بالقاهرة القديم، بينما نفهم الأحياء الأخرى على أنها المدينة الحديثة التي تبدو بمنتجاتها مدينة أجنبية يتمركز بها الأجانب. هكذا ظلت الاختلافات الجذرية بين المدينتين آخذة في الاطراد حتى أصبحتا في موقف المواجهة التي بلغت الذروة بحريق المدينة الحديثة الكبير في يناير 1952. ومن سخريات القدر أن تكون الأزبكية هي موقع الشرارة الأولى لهذا الحريق وتحديدًا المشاجرة التي تمت بين المصريين والأجانب بكازينو بديعة وانتهت بنهبه ثم حرقه ومن هناك امتدت ألسنة اللهب والتخريب لتشمل أحياء القاهرة الحديثة… لعدة ساعات.
***
أخيرا، فإن الصورة العامة للقاهرتين، لم تكن لتنفصل عن التمييز المجتمعي والعرقي كما تقول الكاتبة الرحالة ليسلي لاباديدي: “أنشأ إسماعيل مدينتين متمايزتين: القاهرة الإسلامية القديمة التي لم تتطور إلى جانب الأزبكية المعاد تشكيلها والإسماعيلية الجديدة. عاش المصريون التقليديون في المناطق الإسلامية والقبطية واليهودية القديمة، في حين تم تنظيم المدينة الجديدة المبنية في الغرب كي تكون مركزًا للأجانب وللمصريين الأثرياء الطامحين للحياة على النمط الغربي، وكي يكونوا بمعزل عن الوسط المصري (التقليدي) “.
إذن أدى إنشاء المدينة الجديدة إلى تمييز مجتمعي بين سكان القاهرة وبالتالي تعزز الشعور بعدم الثقة المتبادل بين سكان المدينة القديمة تجاه سكان الجديدة. في رأينا، هناك سببان لهذا الشعور: أولا، تتمركز أنشطة غير اعتيادية بالنسبة لسكان القاهرة القديمة في الفراغات العامة داخل أحياء المدينة الجديدة كما تؤكد لأباديدي “في الإسماعيلية والأزبكية، يختلط الرجال والنساء بحرية في الأماكن العامة، ولا يستهجن أحد تناول الخمور أو المقامرة”. هذه الأنشطة بلا شك شكلت لسكان المدينة القديمة صدمة أخلاقية يضاف إليها حفيظة هؤلاء المثارين لرؤية الأجانب لا سيما الإنجليز المحتلين في شراكة مجتمعية مع الطبقات الثرية من المصريين ليصبح الجميع رموزًا للاستعمار البغيض في نظر سواد السكان.
***
على أن التمييز المجتمعي لم يكن مرجعه اِقْتِصَادِيًّا أو سِيَاسِيًّا فحسب. بل كان مرتبطًا بالعرق السكاني أيضًا. وعلى سبيل المثال، كما يؤكد جان لوك أرنو فإنه قد نشأت في شمال الإسماعيلية مؤسسات أجنبية وقنصلية. يحمل موظفوها أسماء فرنسية أو إيطالية وبالتالي يُفهم أن معظم السكان والموظفين في هذه المنطقة من الأجانب، وهنا يجزم أرنو بأن هؤلاء «إنهم ليسوا مركزين بقوة في هذه المنطقة فحسب، بل يبدو أنهم يستبعدون أيضًا السكان الآخرين المنحدرين من أصول محلية أو الذين يمارسون أنشطة مخالفة لأنشطة منطقتهم».
غالبًا ما ترتبط الأذواق بأصول السكان وأماكن تمركزهم، بين قاهرة إسماعيل وقاهرة المعز تختلف الأذواق بين الغربي (الأفرنجي) والمحلي (البلدي). ينظر جاك بيرك إلى هذه المسألة بصورة مختلفة، فيرى أن الأذواق الأفرنجية انتشرت بين الطبقات المجتمعية العليا التي تسكن المدينة الحديثة كأنها «عدوى» حتى امتدت إلى أذواق الطبقات الدنيا التي تعيش في المدينة القديمة. أدى انتشار العدوى إلى سباق في اتخاذ أنماط الحياة الحديثة في أحياء الطبقة العاملة، مما تسبب في نشوء شعور بعدم الرضا لبعض سكان القاهرة القديمة تجاه أنماط الحياة في مدينتهم.
أماكن للخمور وأماكن للتسول!
ينبغي الجزم بأن التمايز الاجتماعي بين القاهرتين لم يكن عفويا ولا اختياريا من قبل السكان. لكنه يقع على عاتق الحكومة التي قررت التعامل مع أحياء القاهرة بتقسيمها فئتين. الأولاًاًاًى هي أحياء القاهرة القائمة قبل عام 1865، أي قبل عامين من بداية تشييد المدينة الإسماعيلية، بينما الثانية هي الأحياء الجديدة الكائنة بالمدينة الحديثة. وبهذه الطريقة، فإن الحكومة بحسب أرنو قد وضعت الأحياء التقليدية في موقف المواجهة مع في الأحياء الأوروبية. وفيما يتعلق بالتمييز بين الأنشطة، فقد اتبعت الحكومة نفس المبدأ لتصنيفها، وفقا لمعايير غامضة وظالمة معًا بحسب أرنو:
“تم فرض قيود على فئتين من الأنشطة لتؤكد فكرة الانقسام بين شطري المدينة الأم. كانت هناك أجزاء من المدينة مخصصة لمنشآت العامة كالمقاهي والمطاعم والملاهي والمسارح ويحق لهؤلاء بيوع الخمور لكن لا يسمح فيها بالتسول المحدد له أجزاء أخرى. من المدينة ومنذ عام 1891 تم منع تراخيص المنشآت العامة في المناطق المخصصة لسكنى العائلات وغير المفتوحة للتجارة. منذ بداية القرن العشرين نصت اللوائح على وجود أحياء أوروبية يحق لساكنيها الحصول على ترخيص لمنشأة عامة تسمح بتداول الخمور. يعني أن المشرع المسئول عن إدارة المدينة الحديثة قد قام أيضًا بتصنيف الشوارع في المدينة الواحدة.
***
قبل بضع سنوات، والكلام لأرنو، ومن أجل مكافحة التسول تم تحديد المنطقة المحظور فيها التسول بحيث تبلغ مساحتها نحو 150 هكتارا (بينما تبلغ مساحة المدينة كلها حوالي 2000 هكتار)؛ وتقع في الأحياء الجديدة المخطط لها في عهد إسماعيل [أي أحياء المدينة الحديثة]. هذا المحيط المحظور بتقاطع مع محيط الأحياء الأوروبية المعنية بالتشريعات تراخيص المؤسسات العامة. وبالنظر إلى لائحة المنشآت العامة وبيع الخمر مع تلك التي تحظر التسول يتبين أن الإدارة حددت منطقة يُسْمَح فيها بتناول الكحوليات فيما تحظر فيها ما تعتبره مصدر إزعاج: التسول “.
وأدى التمييز الاجتماعي بين سكان الأحياء الجديدة والقديمة إلى حدوث النزاعات منذ عهد إسماعيل، من ثم دارت المناقشات منذ عام 1875 بهدف ضبط القانون المدني بما يضمن التعايش بين القاهرتين. كانت النتيجة نشوء ثلاث فئات من المحاكم: المختلطة والمحاكم التقليدية المحلية ومحاكم الأحوال الشخصية. تأسست المحاكم المختلطة للفصل في النزاعات بين الأجانب والمصريين واتسمت بالتنظيم والدقة بعكس المحاكم المحلية التي تفصل في النزاعات بين المصريين وهي التي عرفها اللورد دوفرين بأنها «قبيحة للغاية، وغبية للغاية، وفاسدة للغاية» حتى بعد الإصلاحات القانونية لعام 1883، ظلت هذه المحاكم في رأيه «مرهقة للغاية ومزدحمة للغاية ومكلفة للغاية»!