الفئران المذعورة!
فصول من كتاب عبلة الرويني الجديد «لا سمع ولا طاعة» (2)
لم أشعر يومها أني ذاهبة للقاء رئيس الجمهورية، رغم أن اللقاء في قصر الاتحادية الرئاسي بمصر الجديدة، ورغم أن الدعوة رسمية لرؤساء تحرير الصحف المصرية، للاجتماع بمحمد مرسي بعد حلف اليمين الدستوري. بدا مرتبكا.. لا ثقة.. لا هيبة.. ولا حضور. غير مدرب بالتأكيد، وغير مطمئن! لم يجب على الكثير من الأسئلة، ليس بالضرورة من باب الحرص وحسابات السياسة.. في الأغلب لغياب الرؤية والعجز عن الإجابة!
لم يجب عن سؤال«المرأة» ولا سؤال«الأقباط» ولا سؤال«المجتمع المدني»!
كان يستمع إلى الأسئلة مجتمعة ثم يجيب بعد ذلك، وهي طريقة في الهرب من الإجابة!
سألت عن «الإخوان المسلمين» وتكاثرت أسئلة الجميع بصيغ مختلفة عن الإخوان ووجودهم.
دهش مرسي من حجم المخاوف والتساؤلات المتكررة عن«أخونة الصحافة» وربما«أخونة الدولة».. نافيا بشدة: مستحيل أن يحدث هذا! وحين طالبه الجميع برسائل التطمين.. ضحك قائلا: ومن الذي يطمئني أنا؟! لم يكن مرسي يضحك تماما، قدر ما كان يعبر عن مأزقه الوجودي.. المأزق الذي وجد نفسه فيه.. الجماعة التي منحتها (السرية) ومنحها (الحظر) و(المنع) لسنوات طويلة، بعض التعاطف. اليوم يمنحها (العلن) الكثير من الرفض والكثير من الكراهية!
***
صعد الإخوان المسلمون في المشهد السياسي المصري، وصعد أيضا النفور منهم والعداء لهم.. لم يعد الخوف والابتعاد عنهم ومحاولة تجنبهم، صار أكثر خوفهم وتوترهم وقلقهم!
بات العداء صريحا، والصراع علنيا أشعرهم بالفزع والخوف. خاصة والخصم هنا، يتجاوز السلطة والمؤسسة والجهات الأمنية، التي تدربوا على التعامل والتآمر معها وعقد الصفقات! هذه المرة الخصم هو المجتمع نفسه.. وجها لوجه أمام الناس، حين لا ينبغي إلا أن تكون صادقا ومخلصا وحقيقيا.. وهي قيم لا يعرفها الإخوان! علق صاحب مقهى في أحد شوارع القاهرة، لافتة ضخمة (أنا مسلم.. وممنوع دخول الإخوان المسلمين)!
لم ينس مرسي في خطابه الرئاسي الأول أن يشكر الجميع. من الإسكندرية حتى أسوان وحلايب. ومن القوات المسلحة حتى سائقي «التوكتوك» و«الزبالين»!. لكنه نسي سهوا أو عمدا «المثقفين». وتجاهل تماما الإشارة إلى مدنية الدولة (التي ما كان له أن يأتي إلا من خلالها). النسيان (سهوا أو عمدا) يكشف تاريخا طويلا لجماعة تخشى الثقافة، ترتعد من ذكرها، وتتحسس خناجرها!
جماعة تكره الموسيقى وتحارب الغناء. تغطي التماثيل، تقيدها بالحبال، تطارد الخيال وتحاكم المبدعين، تجرجرهم إلى ساحات المحاكم وتطعنهم مباشرة في وضح النهار. الخلاف مع الإخوان ليس كما يظن البعض خلافا سياسيا أو دينيا. لكنه بالأساس خلاف فكري ثقافي اجتماعي. خلاف في المنهج والمفهوم.
***
فور اختياره رئيسا، كانت أولى خطوات مرسي تغيير رؤساء تحرير الصحف القومية، واختيار المتوافقين بالطبع مع الطبيعة الجديدة لحكم الإخوان. وكان قرار مجلس الشورى المختص بشؤون الصحافة (8 أغسطس 2012) بتغيير 75% من رؤساء مجالس إدارات ورؤساء تحرير الصحف القومية! رغم صدور قرار المحكمة الدستورية العليا، بعدم دستورية قانون تشكيل مجلس الشورى أساسا. وبالطبع عدم دستورية قراراته!
وبالطبع كان خروجي من رئاسة تحرير «أخبار الأدب» وعلى إيقاع رقصة المولوية، حركة الراقص الدائرية ويداه المرتفعة لأعلى شوقا إلى العدل والحرية. كان غلاف أخبار الأدب «إلى مجلس الشورى.. لا سمع ولا طاعة». وهو نفسه عنوان مقالي الأخير في الجريدة. خرجت من أخبار الأدب مواصلة عمودي اليومي «نهار» في جريدة الأخبار. وكان خروج ياسر رزق من رئاسة تحرير الأخبار اليومية. وخروج رؤساء تحرير الصحف القومية الأخرى!
في اليوم التالي لقرار مجلس الشورى (أكثر من نصف أعضاءه من الإخوان المسلمين) اختار كتاب الأعمدة اليومية بجريدة الأخبار (جمال الغيطاني، جلال عارف، عبلة الرويني) تعبيرا عن احتجاجهم ترك مساحة أعمدتهم بيضاء. فقط توقيعهم دون مقال!… وهو ما لم يسمح به محمد حسن البنا رئيس تحرير الأخبار الجديد (المعين من قبل الشورى). وصدرت الجريدة في ذلك اليوم، دون الأعمدة اليومية!
***
في اليوم التالي واصلت كتابة مقالي «نهار» تحت عنوان «أخونة الصحافة» موضحة للقارئ أسباب الاحتجاج واحتجاب عمود الأمس. الأسباب التي أطاحت بـ55 رئيس تحرير في الصحف الأخرى، وأطاحت بي شخصيا!
لم يشأ رئيس التحرير الجديد، أن يبدأ عمله بمصادرة مقال. لكنه قام بحذف كل المفردات داخل المقال، التي تشير إلى الإخوان من قريب أو بعيد. حذف كل ما يشير إلى أخونة الصحافة، وبالطبع حذف عنوان المقال. أحال المقال إلى بنيان فارغ مثقوب. لكن الثقوب أوجعت، وأوجعت بشدة!
يوم.. يومان وبدأ عمودي اليومي يتحرك.. من يمين الصفحة إلى يسارها.. ومن مكانة الثابت إلى صفحات أخرى مختلفة. ثم إلى صفحة الرأي المكدسة بالعديد من المقالات. ومن شكل العمود الطولي إلى مساحة مربعة مختصرة!
غضبت بالطبع، معبرة عن استيائي في مقال «الملك عاريا». رفض رئيس التحرير نشره، وأعتبره تطاولا شخصيا عليه وتشهيرا به. خاصة بعد أن قمت بنشره في جريدة «الوطن» ومنها قامت بنشره صحف أخرى ومواقع إلكترونية، في حملة تضامنية اشتعل فيها غضب المثقفين تجاه الحضور الإخواني، ليس فقط في الصحافة، لكن في الواقع المصري. وامتد التضامن حتى خارج مصر.
عبر الكثير من الكتاب والصحف المغربية عن تخوفهم من الهجمة الشرسة على الثقافة والصحافة. كتبت القاصة لطيفة باقا: «ما يحدث يشكل تراجعا بشكل خطير عن المكتسبات التي حققها المثقفون في مصر، على مستوى حرية التعبير والرأي والصحافة والإبداع». وكتب الشاعر المغربي صلاح بوسريف على صفحات القدس العربي «رسالة إلى عبلة الرويني»: «لا أتصور أن ما قطعته المجتمعات من تحديث في الفكر والثقافة، وما يجري من اتصال بالعالم عبر الوسائل التقنية الحديثة، سيسمح بالتراجع إلى الوراء، أو بالعودة إلى زمن الخلافة، الذي ليس زمننا، ولن يكون أبدا».
***
لم أكن وحدي التي تمت محاصرتها. توقف الكثير من الكتاب عن الكتابة في الصحف القومية، تحديدا تم منعهم (إبراهيم عبدالمجيد، نبيل عبدالفتاح، نبيل عمر، محمود مراد، أحمد طه النقر، يوسف القعيد). منعت الكثير من المقالات وصودرت بعض الصحف والقنوات التليفزيونية، واقتحم رجال الأمن مطابع الأهرام وصادروا «الزنكات»!
لكن منع مقالي ومصادرتي ومطاردتي حتى أبواب البيت، كان حادا ولاذعا.. تجاوز منع مقال إلى منع الكتابة.. وتجاوز منع الكتابة إلى منع العمل. وفك كل ارتباط، وإبعادي تماما عن مؤسسة أخبار اليوم!
صرت حكاية وأمثولة لصدام بين الإخوان والصحافة. صرت معنى لتضامن الكثيرين من الكتاب والصحفيين داخل وخارج مصر. جبهة الإبداع بالمجلس الأعلى للثقافة.. اتحاد الكتاب الذي أعلن استعداده للتضامن قضائيا وإعلاميا، وهو نفس بيان «ورشة الزيتون» التي وصفت عزلي «بالفاشية»!
وفضلا عن تضامن العديد من مؤسسات المجتمع المدني تضاعف الغضب وتزايدت الوقفات الاحتجاجية، اعتصامات ومؤتمرات واجتماعات في المقاهي والنقابات والميادين. عشرات المبادرات الثقافية في اتجاه النزول إلى الشارع تعبيرا عن موقف المثقفين من الإخوان حكما وفكرا ومنهجا وسلوكا. فكرة تنطوي على حماية الثقافة والفن والإبداع بالقوة والفعل.. بالعقل والجسد مباشرة.. وتنطوي على ربط الثقافة بالناس.. تحويلها لمسؤولية عامة ورأي عام ونمط حياة.
***
كانت تظاهرة المثقفين في ميدان طلعت حرب تحت شعار «لا لقمع الحريات ومنع الأصوات» تعبيرا عن غضب عارم، وتنديدا بالهجمة الحادة على الثقافة. مصادرة بعض الصحف.. منع كتاب وصحفيين من الكتابة.. وكانت حدثا دالا ولافتا في (نزول المثقف إلى الشارع).. أحد أهم إنجازات ثورة يناير. انكسار حاجز الخوف من ناحية.. وحجم التحديات التي تواجه الثقافة في زمن الإخوان، أعاد تشكيل وصياغة صورة المثقف ودوره.. انتهت ثقافة الغرف المغلقة، العالية والمتعالية، المكتفية بذاتها، المعزولة والمنسحبة فعل أمتلك فرادته وإيجابيته، وأفزع الإخوان حقا، لأن المثقفين يخيفونهم بالفعل.. أو هم خصومهم الأساسيون الأكثر عداوة والأكثر كرها.
لم يستطع وزير الإعلام الإخواني صلاح عبدالمقصود، الصمت فكان تصريحه الغريب بأن جريدة الأخبار لم تحذف شيئا من مقال عبلة الرويني، بل هي من قامت بسب الصحفيين جميعا وإتهامهم بالخنوع و(لبس الطرح)!
لم يزعجني تصريح الوزير ولا إدعاءه، بقدر ما أزعجني افتراءه على لغتي بمفردات تعكر قاموسي! جهامة الإخوان، الكراهية والكذب وعنف الأداء.. سحب هواء المدينة وأصاب المزاج العام بالضيق والكدر.. وأصاب لغتي.. صرت أكثر حدة، أكثر عنفا، وأقل عذوبة.
وكان طبيعيا أن يصل الصدام المدوي إلى لحظة لا تسمح بالموائمة ولا التوافق.. لا هم قادرين على احتمالي ولا أنا أيضا. في 19 أكتوبر 2012 أرسل رئيس التحرير من يبلغني بإعفائي من كتابة العمود اليومي. وإعفائي من الكتابة عموما!
أصبحت عاطلة، حبيسة البيت عام ونصف (18 شهرا كاملين). بادر مجدي الجلاد رئيس تحرير جريدة «الوطن» بدعوتي للكتابة. وكان عمودي «اختيار» نفس عنوان مقالي الافتتاحي في جريدة أخبار الأدب، قبل الإطاحة بي. ونفس مساحة الحرية في كتابة ما أريد دون مساءلة، ودون عيون وبصاصين.
***
لم تكن مقالاتي في الوطن وحدها ما يمارس النقد والغضب والاحتجاج طوال حكم الإخوان ومرسي.. الصحف المستقلة جميعا.. الكتاب والمبدعين والمثقفين، يعبرون جميعا عن غضبهم بأشكال وطرق مختلفة. الأدق كانوا يجابهون ويناهضون بقوة حكم الإخوان، كان الإعلام (المستقل) والقومي (أحيانا) يطارد الإخوان المذعورين كالفئران. وبالفعل تقدمت الرئاسة، أو تقدم الإخوان ببلاغات عديدة إلى النائب العام (كتبت على أوراق الرئاسة) ضد الكثير من رؤساء التحرير والصحفيين، بتهمة إهانة الرئيس والسخرية منه، وإثارة الفتنة وزعزعة الاستقرار. بلاغات عديدة رفعتها الرئاسة، ضد عادل حمودة (جريدة الفجر). عبدالحليم قنديل (جريدة صوت الأمة). إسلام عفيفي (الدستور). ياسر رزق (المصري اليوم) مجدي الجلاد (الوطن) جمال فهمي( وكيل أول نقابة الصحفيين).
نزول المثقف إلى الشارع، لحظة فارقة ومهمة.. في مطاردة الفئران، وتنظيف المدينة من كافة أشكال التخلف والجحور. لحظة ملهمة وفاعلة، دفاعا عن إنجازنا الثقافي، هويتنا وحماية حريتنا.