«العمارة الجنائزية»: مقترح بحفر أنفاق تفاديا لاختراق جبانات القاهرة في المحاور الجديدة
خلال معرض فوتوغرافي وندوة «العمارة الجنائزية في مصر المعاصرة: جبانات القاهرة التاريخية» التي أقيمت بمكتبة القاهرة الكبرى. طرح خبراء حلولا لإشكالية إزالة أجزاء من جبانات القاهرة التاريخية من أجل خلق المحاور المرورية الجديدة. تستهدف الحلول المقترحة تقليل المرور داخل الجبانات بواقع 10% أقل من المرور العادي، من خلال استبدال جميع الطرق التي يُحتمل أن تخترق المناطق التراثية والجبانات بالأنفاق -مثل بعض التجارب بأوروبا- حتى لا يتم تشويه المنظر العام للمدن والأحياء التراثية. كما ركز المعرض الفوتوغرافي على عرض وتوثيق جبانات القاهرة التاريخية المهددة بالهدم خلال الفترة المقبلة.
جبانات القاهرة
تقول الدكتورة جليلة القاضي، أستاذ التخطيط العمراني بجامعة باريس ومديرة الأبحاث بالمعهد الفرنسي للأبحاث من أجل التنمية(IRD): “الجبانات في مصر ليست مكان لدفن الموتى فقط. لكنها تمثل حالة ربط بين الحاضر والماضي. إذ لها طقوسا خاصة بها، فدائما ما يتردد الزوار عليها لزيارة قبور موتاهم في المناسبات وغيرها. كذلك فهي لها أغراض أخرى مثل “التنزه” فهناك موالد وحياة بداخلها. وهذه القيم الاجتماعية هي التي يجب الحفاظ عليها، بجانب القيمة الثقافية لهذه المنطقة تحديدا لأن من شيدوها قد اهتموا بـ”الأبهة” المتمثلة في نقوشها وخارفها، وهي ما تمثل ميزة لمقابر المصريين المعاصرين”.
وتابعت: بناء تلك المقابر تم بطرز معمارية مختلفة لذلك يجب الحافظ عليها. فهي امتداد لثقافة المصريين القدماء، ولو أراد كل حاكم يأتي هدم مقابر أسلافه لما عثرنا في نهاية الأمر على مقابر القدماء المصريين، لذلك يجب ألا يتم التعامل مع مقابر المصريين المحدثين كأنهم غير موجودين.
تراث الإنسانية
وأضافت، اليونسكو وضعت الجبانات سنة 1979 على قائمة تراث الإنسانية. وقد أدرجوا القاهرة التاريخية والقرافات ضمن هذا النطاق، الذي أصبح جزءا من التراث العالمي. وعندما أنشئ الجهاز القومي للتنسيق الحضاري سنة 2002، بدأ تسجيل الجبانات والأحواش التي تحمل قيمة تاريخية ضمن هذا النطاق، لذلك فهذه الجبانات لها حماية “عالمية” المتمثلة في القانون العالمي.
وكذلك لها حماية “محلية” متمثلة في القوانين “المحلية”. وبجانب ذلك فهي تمثل تراث “أسر” فهذا المكان ينتمي إليه الكثيرون وهو الوطن الذي ينتمي إليه الإنسان، مهما ارتحل خلال حياته وذهب، فهو يوصي بأن يدفن بجوار آباءه؛ وهذا هو مفهوم الوطن، فهو تراث عائلي شخصي، توسع مفهومه ليصبح تراث إنساني.
تذكر القاضي أن الجبانات في مصر تواجها عدة تحديات ومشاكل كبرى، فأهم هذه المشاكل أن هناك تجمعات سكنية قد نشأت داخل الحيز الجغرافي داخلها وحول المنشآت الجنائزية الكبرى والأضرحة مثل المجموعة السكنية المحيطة بالإمام الشافعي والإمام الليث، وغيرهم الكثيرين، والتي تتوسع من الداخل وتأكل من أرض الجبانات نفسها. فهناك الكثير من التحديات التي تواجه الجبانات، وهي نتيجة عوامل إهمال “متراكمة”. فمنذ أول مخطط عمراني للقاهرة الكبرى سنة 1956 لم يشمل أي مخطط منها التعامل مع مدينة الأحياء ومدينة الأموات على حد سواء، سوى مخطط 2050 الذي جاء فيه أن سيتم إزالة تلك الجبانات بشكل كامل.
مشروع صادم
تذكر القاضي أنه في السنة الماضية استباحوا هذه الجبانات وقاموا بعمل محور الفردوس، الذي اخترق جبانة المماليك من الشرق، وصولا إلى الغرب. وقد أزال المحور مجموعة من الأحواش الهامة، فأول محور تم بالمنطقة كان محور “صلاح سالم” والذي أكل من “حواف” الجبانة. وبعده الاوتستراد والذي استقطع منها أجزاء من الحواف أيضا. ثم جاء محور الفردوس، وهو أول محور يخترق الجبانة من الشرق، وصولا إلى الغرب. وقد أزال مجموعة من الأحواش الهامة والمسجلة “تنسيق حضاري وتراث إنساني”.
وتابعت: فمشروع المحور الجديد عندما نشر عنه كان بالنسبة لنا بمثابة “مشروع صادم”. فقد أزال تاريخ مصر المتمثل في مقابرها مثل مقابر: رموز مصر الفكرية في الأدب والفكر والفن، وبشوات محمد علي وأسرة محمد علي نفسه وأحفاده. فالإزالة لا تقدم أية حلول، إنما يجب أن يتم خلق بدائل لهذا المشروع لتقليل الخسائر بقدر الإمكان ولتحقيق المنفعة العامة بالنسبة للحركة.
وفي نفس الوقت تحقيق المنفعة العامة بالنسبة للحفاظ على التراث. فالهدف من هذا المعرض هو عرض الكنوز التي تحويها الجبانات. بجانب تقديم حلول للحفاظ على تلك الجبانات من خلال مواجهة التحديات التي تواجهها المنطقة. فهناك مشروعات بديلة أخرى يمكن تقديمها وعرضها، لكن لا يمكن بأي حال أن يفرض علينا أحد تصوراته للمنطقة. فنحن لم نتعلم هذا الأمر في “علم التخطيط” وبالتالي نحن نحتاج لطرح بدائل أخرى.
قيمة روحية
الدكتور حسام إسماعيل، أستاذ الآثار بجامعة عين شمس، تحدث عن القيمة الروحية التي تحملها جبانات القاهرة، وقال إنه ارتبط بالقرافات منذ صغره، خاصة قرافة باب الوزير، والتي دفن داخلها جدوده من ناحية الأم، وكذلك قرافة البساتين والتي دفن فيها جدوده من ناحية “الأب”، فالصحابة والمتصوفة دفنوا داخلها.
ويقول: “القرافة تمثل حالة من تتبع إنشاء القاهرة التاريخية، من أول عمرو بن العاص الذي خطط لمدينة الفسطاط. إذ كان له بعد استراتيجي جعل من جبل المقطم حصنا طبيعيا من ناحية الشرق. وكذلك حصن بابليون من ناحية “الجنوب” ونهر النيل من “الغرب” لذلك فهذا امتداد طبيعي لعواصم مصر في العصر العباسي والفاطمي”.
وقد جاءتنا في الروايات أن عمرو بن العاص عندما تفاوض مع الحاكم البيزنطي “المقوقس” على تسليم مصر. فقد وافق المقوقس على تسليم مصر باستثناء “المقطم” لأنه كان بالنسبة إليهم جبل مقدس وهو بمثابة “غراس الجنة”. وعندما عرض الأمر على عمر بن الخطاب قال له عمر “نحن أولى بغراس الجنة” ومن هنا كانت بداية قصة القرافة.
جبانات القاهرة
كذلك فكلمة “قرافة” تنتمي لقبيلة “بني قرافة” العربية. إذ أن مساحة المدينة كانت توزع على القبائل. وطبقا للرواية فقد بدأوا في دفن موتاهم في هذه البقعة. وقد دفن فيها أيضا عقبة بن نافع، وغيره الكثير من الصحابة. ومع امتداد مدينة الفسطاط ظهرت مدينة العسكر العباسية. وهنا ظهرت لنا قرافة السيدة نفيسة، ووصلت إلى منطقة ما قبل ميدان السيدة عائشة -حاليا- ومع بداية عصر المماليك، بدأت القرافة تمتد أكثر.
وتابع: مع اتساع القاهرة في عصر المماليك وخاصة المماليك “البرجية” بدأت تظهر قرافة “قايتباي”. فهذه المناطق أيضا تتميز بأنها سمت على اسم فقيه أو شيخ. فهناك قرافة سيدي عقبة وقرافة الإمام الليث. ثم قرافة “سيدي جلال”، إلى أن نصل إلى قرافة قاتيباي وبرقوق والتي دفن بجوارهم الكثير من المتصوفة. إذ إنهم أحبوا أن يدفنوا تحت أقدام أولياء الله الصالحين وفقا لعقيدتهم، لذلك دفنوا في البداية حول مقابر الصحابة. ثم بعد ذلك دفنوا بالقرب من “الإمام الشافعي”، والذي دفن حوله أيضا “الإمام ورش” وهو أحد من سميت باسمه قراءة من القراءات السبع للقرآن الكريم.
وبعد ذلك دفنوا موتاهم بالقرب من الإمام الليث بن سعد؛ لذلك فقد ارتبطت القرافة بفقهاء الصوفية. وفي عصر المماليك تحديدا بدأت القرافة تأخذ شكلا جديدًا. إذ سعى المتصوفة من العالم الإسلامي كله وخاصة منطقة “وسط آسيا” للدفن بداخلها.
وعندما بدأ الجهاد ضد المغول بدأ السلاطين والأمراء في ذلك الوقت بناء مباني للمتصوفة داخل هذه الأماكن. لذلك نلاحظ أن قرافة المماليك هي امتداد طبيعي للقاهرة، لأن السلاطين أنفسهم كانوا يبنون داخل القاهرة التاريخية. وعندما امتلأت القاهرة القديمة بالمباني ولم يعد من الممكن بناء المزيد من المباني داخلها، قام الناصر محمد ببناء خانقاه داخل قرافة “العفيفي”. وبعده قام قايتباي بإقامة مباني للصوفية. وكذلك “برقوق” والذي أوصى بالدفن عند المتصوفة في هذه المنطقة، لذلك فالقرافة دائما ارتبطت بأولياء الله الصالحين.
تجمعات أثرية
يضيف إسماعيل: عندما بدأوا تسجيل القاهرة سنة 1979 كنت أنا الأثري التابع لبعثة اليونسكو فقد سجلنا أكبر قدر ممكن من المواقع وقتها. وقد حددنا 6 مناطق والتي تحتوي على تجمعات أثرية داخل القاهرة. وفي سنة 1980 تبنت السيدة جيهان السادات مشروع لتسجيل القاهرة بأكملها على قوائم التراث العالمي. وقد أدخلنا “القرافة” ضمن حدود القاهرة التاريخية.
فنحن نرتبط بهذه المنطقة وجدانيا. وهي تتبع امتداد لنشأة القاهرة، وكان من المفترض أن تسجل ضمن عداد الآثار، لكن للأسف انتهت أعمال لجنة حفظ الآثار العربية سنة 1954. وبعدها لم تذكر هيئة الآثار عملية التسجيل بالمنطقة، رغم وجود الكثير من الدراسات الأثرية التي تصدر عن الجامعات والتي أوصت بتسجيل الكثير من الأماكن بالقرافات.
قيم اجتماعية
وتحدثت المهندسة والمصورة عليا نصار، عما تمثله القرافة من قيم اجتماعية تمتد منذ عصر القدماء المصريين وعبر العصور وصولا إلى الوقت الحالي. إذ قالت إن قدماء المصريين اعتبروا أن البيوت بمثابة “بيت للأبدية” وقد عبروا عن هويتهم من خلال مقابرهم، فوضعوا أسماءهم، وألقابهم.
وقد امتدت هذه العادة حتى الآن. إذ حاول المصريون وصف وتوثيق الحياة التي عاشوها، فعبروا عن هويتهم من خلال مقابرهم، وبجانب ذلك فقد أرادوا حماية مقابرهم. فخلال العصر القديم قام المصري بحماية مقابره من خلال التعاويذ أو من خلال “متون الأهرام” لحماية الميت كي يعبر إلى الحياة الأخرى. وقد نقشت على جدران المعابد أو المقابر أو على البرديات، وقد ظلت هذه العادة حتى الآن فوضعت صلوات وأدعية للمتوفين.
تراث لا بديل عنه
يقول المهندس الاستشاري طارق المري: هناك نقطة خلاف في الدولة والمتمثلة في كلمة “آثار” والتي كانت موجودة بالفعل منذ أواخر القرن الـ19، وذلك عندما أراد الفرنسيون الحفاظ على الآثار، كي يضعوها داخل “فاترينة”. لكن مع بداية القرن الـ20 وبعد الحرب العالمية اﻷولى والثانية، ظهرت أفكار جديدة في التطبيق. إذ تم تحديد قواعد وقوانين للحفاظ على المنشآت القديمة فتم وضع “ميثاق البندقية”. وقد اجتمع حينها كبار المتخصصين في العالم ووضعوا الخطوط العريضة الأساسية للتعامل مع المناطق التراثية، والمباني التراثية القديمة. ومنذ ذلك اليوم اختفت كلمة “آثار” واستبدلت بكلمة “تراث” فالتراث هي كلمة أشمل.
وتابع: في سنة 1972 أخرج اليونسكو ورقة باسم “اتفاقية التراث العالمي” ولم تردد كلمة “آثار” بعد ذلك إلا في مصر، لكن ما أود أن أشير إليه أن لجنة حفظ الآثار العربية حين جاءت في نهايات القرن الـ19 كانت مكلفة بتسجيل الآثار المباني الإسلامية التابعة لوزارة الأوقاف.
وقد سجلوا الآثار التي من الممكن أن يتم وضعها في “فاترينة”. لكنهم تناسوا أن هناك أشياء قيمة لكنها أقل درجة من المسجل إلا أنها تستحق أن نحافظ عليها. فعندما أنشئ الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، تم وضع لوائح جديدة للحفاظ على المباني التراثية، لكن ما أود أن أشير إليه أنه عندما سجلت القاهرة كتراث عالمي سجلت كمدينة، وليست كمباني. فقد تم تسجيلها بشوارعها وميادينها، لذلك فهذه مشكلة يقع فيها غير المتخصصين الذين يؤكدون على أنهم لم يزيلوا “آثار” لكنهم في نفس الوقت يزيلوا أشياء في درجة الآثار.
وتحدث المري عن أن هناك مقابر مسجلة مثل مقابر أسرة محمد علي، والتي تحمل تراكيب زخرفية بديعة، لكن هناك تراكيب أفضل منها كثيرا في المنطقة المحيطة بها وهي غير مسجلة، لذلك نحن نحتاج لإزالة كلمة “آثار” ووضع كلمة “تراث” بديلا عنها.
حلول مطروحة
وقدم المري حلا لا يتجاوز القيمة التراثية لهذا الموقع من القرافة. إذ تحدث عن أن جميع المناطق العالمية المسجلة كتراث عالمي يتم “تقليل” المرور داخلها بواقع 10% أقل من المرور العادي، ويحاول تفادي اختراق المنطقة القديمة حتى لا يشوه “المنظر” في هذه المدن القديمة. ويظهر هذا في جميع المدن الرئيسية في أوروبا، يتم استبدال جميع الطرق التي من المحتمل أن تخترق المناطق التراثية، من خلال استبدالها بـ”أنفاق”.
وتابع: عندما تم إنشاء محور الفردوس في العام الماضي هدم الكثير من المناطق. لكننا نتحدث هنا فيما هو آت فالهدف من المشروع الجديد هو توفير تدفق مروري جيد لطريق صلاح سالم، كي يعبر منطقة غرب القاهرة دون وجود “وقفات” لذلك فالمفترض أن ينحرف صلاح سالم عن مساره الطبيعي، ويدخل في مسار جديد وهو “الجبانة الجنوبية”، دخولا إلى منطقة عرب آل يسار.
بالإضافة إلى أنه سيتم استحداث طريق داخل جبانة السيدة نفيسة. وهذا الطريق بالطبع سيهدد الكثير من الآثار الواقعة بهذا النطاق. وهذا سيؤثر على المباني التراثية الموجودة، نتيجة عوادم السيارات، بخلاف المباني التي سيتم إزالتها في الطريق لأنها “غير مسجلة” وفقا لما يتم ذكره دائما.
لكن بشكل عام من الممكن تلافي المشكلة من خلال تقليل التدفق المروري بالمنطقة. وكذلك إزالة بعض المباني الوزارية وعمل موقف سيارات بديلا عنها لمنع الازدحام المروري من هذه المنطقة. وبخصوص ميدان السيدة عائشة فهناك اقتراح بسيط وهو تنفيذ “نفق” من عند سفح القلعة وهذا النفق لا يتطلب النزول تحت الأرض لعمق كبير فيكفي 10 أمتار فقط، وطول هذا النفق سيكون.1.9 كيلو مترا فقط. أي إنه أقل طولا من نفق الأزهر بحوالي كيلو متر. وبالتالي فنحن حافظنا على الجبانات بشكل كامل، واستطعنا أيضا حل مشكلة التدفق المروري دون اللجوء لإزالة أي مبنى نعتز به.
اقرأ أيضا
قضايا التراث العمراني: خبراء يناقشون التحديات في مصر وفلسطين وتونس