الصعيد في عيون المقريزي قبل 600 عام
ذكر العديد من المؤرخين والكتاب مصر في مؤلفاتهم، منهم من ارتحل داخلها كابن جبير وغيره، لكن تظل مؤلفات تقي الدين أحمد بن علي بن المقريزي، هي الأكثر تأثيرا، والمرجع الأهم فيما كتب عن مصر، كما لم تخل مؤلفاته من ذكر صعيد مصر بشكل تفصيلي. ولعل كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار قبل 600 عام يجسد ما كتب عن الصعيد.
صعيد مصر في كتب المقريزي
يقول المقريزي «الصعيد هو المرتفع من الأرض، أو الأرض المرتفعة من الأرض المنخفضة. وعرفت أيضًا بم لم يخالطه رمل ولا سبخه. وفي أقوال أخرى وجه الأرض والأرض الطيبة وكل تراب طيب».
ويرجع تسمية هذه البقعة من أرض مصر بالصعيد لما حدث في الإسلام. حيث سماها العرب ذلك كونها جهة مرتفعة عما دونها من أرض مصر، والأرض ليس فيها رمل ولا سباخ، وكلها أرض طيبة مباركة، وعرف الصعيد بالوجه القبلي، وفق المقريزي.
الصعيد الممتد
ذكر إبراهيم بن وصيف شاه تقسيم مصر وصعيدها. قائلاً: “ولما حضرت مصرايم الوفاة عهد إلى ابنه قبطيم وكان قد قسم أرض مصر بين بنيه. فجعل لقبطيم من بلد قفط إلى أسوان، ولأشمون من بلد أشمون إلى منف، ولأتريب الحوف كله، ولصا من ناحية صا البحيرة إلى قرب برقة”.
وقال لأخيه فارق: “لك من برقة إلى الغرب، فهو صاحب أفريقية، وولده الأفارق. وأمر كل واحد من بنيه أن يبني لنفسه مدينة في موضعه. كما قال ابن عبدالحكم فلما كثره ولد مصر وأولاد أولادهم، قطع مصر لكل واحد منهم قطعة يحوزها لنفسه ولولده. وقسم لهم هذا النيل، فقطع بابنه قفط موضع قفط فسكنها، وبه سميت قفط قفطًا».
وما فوقها إلى أسوان وما دونها إلى أشمون في الشرق والغرب، وقطع لأشمون من أشمون، فما دونها في الشرق والغرب، إلى منف، فسكن أشمون أشمون، فسميت به، وقطع لصا ما بين صا إلى البحر، فسكن صا فسميت به، فكانت مصر كلها على 4 أجزاء جزأين بالصعيد أي الوجه القبلي، وجزأين بأسفل الأرض أي الوجه البحري.
قرى ومدن
مسافة إقليم الصعيد الأعلى مسيرة 12 يوما بسير الجمال، وعرضه 3 ساعات وأكثر بحسب الأماكن العامرة، ويتصل عرضه في الكرة الشرقية بالبحر المالح وأراضي البجة، وهي القصير في البحر الأحمر، وفي الجهة الغربية بالواح، وهي كورتانا شرقية وغربية والنيل بينهما فاصل.
وأول الكرة الشرقية من مرج بني هميم، المتصلة أرضها بأراضي جرجا من عمل أخميم، وأخرها من قبلي الهو، ويليها أول أراضي النوبة، وفي هذه الكورة تيج وقفط وقوص، أما أول الكرة الغربية برديس التي تتصل أرضها بأرض جرجا، وفي هذه الكرة الغربية سمهود.
وأخر الكرة الغربية أسوان، بحافته ما أكثر النخل من الجانبين، لتكون مساحة الأراضي التي فيها النخل والبساتين تقارب 20 ألف فدانًا، والمستولي على إقليم الصعيد المشترى، بحسب ما رواه أبوالفضل جعفر بن ثعلب بن جعفر الأدفوي، في كتاب الطالع السعيد في تاريخ الصعيد.
ما قيل عن الصعيد
كان بصعيد مصر نخلة تحمل 10 أرادب تمرًا فغصبها بعض الولاة، فلم تحمل في ذلك العام ولا تمرة واحدة، وكانت هذه النخلة في الجانب الغربي، وبيع منها في الغلاء كل ويبة دينار، أما أمير المؤمنين هارون بن محمد الرشيد حين صورت الدنيا له لم يستحسن إلا كورة أسيوط من صعيد مصر، فإنها 30 ألف فدانًا في استواء من الأرض، لو وقعت فيها قطره ماء لانتشرت في جميعها.
ويوجد بالصعيد بقايا سحر قديم، بحسب ما يسرده المقريزي في كتابه راويًا حكي الأمير طقطبا، والى قوص في أيام الناصر محمد بن قلاوون، قال: أمسكت امرأة ساحرة فقلت لها: أريد أن أبصر شيئا من سحرك، فقالت: أجود عملي أن أسحر العقرب على اسم شخص بعينه، فلابد أن تقع عليه، ويصيبه سمها فتقتله. فقلت أرني هذا واقصديني بسحرك، فأخذت عقربًا وعملت ما أحبت، ثم أرسلت العقرب فتبعني، وأنا أتنحني عنه، وهو يقصدني.
فجلست على تخت وضعته على بركة ماء، فأقبل العقرب إلى الماء، وأراد التواصل إلي، فلم يستطع ذلك، فمر إلى الحائط، وصعد فيه وأنا مشاهده حتى وصل إلى السقف، ومر فيه إلى أن صار فوقي، وألقى نفسه صوبي، وسعى نحوي حتى قرب مني، في ضربته فقتلته ثم قتلت الساحرة أيضًا.
ثروات الصعيد
عرف الصعيد بكثرة المواشي من الضأن وغير ذلك، لكثرة نتاجه حتى أن الرأس الواحد من نعاج الضأن يتولد عنه في عشرة ستون ألفا وأربعة وعشرون رأسا، وذلك بتقدير السلامة، وأن تلد كلها أثاثا، و تلد مرة واحدة كل سنة، ولا تلد في كل بطن غير رأس واحد.
وإلا فان ولدت في السنة مرتين، وكان في كل بطن رأسان تضاعف العدد وتأمل حساب ما قلناه تجده صحيحا، بحسب المقريزي، وقد شوهد كثيرًا أن من أغنام الصعيد ما يلد في السنة ثلاث مرات ويلد في البطن الواحد ثلاثة رؤوس.
كما أن في مصر يختص كل جزء منها بشيئ دون غيره، يرجع ذلك لضيق عرضها وامتداد طولها، فالصعيد فيه من النخل والسنط والقصب والبردي، ومواضع إحراق الفحم.
وذكر الجاحظ وغيره أن عجائب الدنيا 30 أعجوبة، منها 20 أعجوبة في مصر. ومن تلك العجائب الجبال بالصعيد والقصور الفرعونية وغيرها.
أهل الصعيد
مما قيل عن أهل الصعيد أنهم أكثر حركة ورياضة من أهل المدن، ولذلك أصح أبدانًا، لأن الرياضة تصلب أعضاءهم وتقويها، وأخلاقهم أرق وكثر دخانية، وتخلخلاً، لشدة حرارة أرضهم عن وجه بحري.
كما أنهم يعتذون كثيرًا بتمر النخل، والحلاوة المعمولة من قصب السكر، ويحملونها للفسطاط وغيرها، فتباع هناك وتؤكل. كما أهل الوجه البحري يعتذون بالقلقاس والجلبان.
وكانت الكثرة والغلبة ببلاد الصعيد لـ6 قبائل وهم: بنو هلال، وبلي، وجهينة، وقريش، ولواته وبنو كلاب. وكان ينزل مع هؤلاء عدة قبائل سواهم من الأنصار ومن مزينة وبني دراج، وبني كلاب، ثعلبة، وجذام.
عمارة الصعيد
وفي أيام الناصر محمد ابن قلاوون وما بعدها. بلغ من عمارة الصعيد أن الرجل كان يمر من القاهرة لأسوان فلا يحتاج إلى نفقة. بل يجد بكل بلد عدة دور للضيافة إذا دخل دارا منها أحضر لدابته علفها وجيء له بالأكل ونحوه.
لكن ما بعد ذلك آل أمر الصعيد إلى ألا يجد الرجل أحدا فيما بين القاهرة وأسوان يضيفه لضيق الحال.
وفي سنة 776 تلاشى أمر بلاد الصعيد. حيث الشراقي في أيام الأشراف شعبان بن حسين بن محمد ابن قلاوون. وتزايد تلاشيه في أيام الظاهر برقوق لجوار الولاة.
وزاد الأمر في عام 806، إذ شهدت مصر قصور مد النيل”جفاف”. فدهى أهل الصعيد من ذلك بما لا يوصف، حتى أنه مات من مدينة قوص 17 ألف شخص. ومن مدينة أسيوط 11 ألف ممن غسل وكفن. ومن مدينة هو 15 ألف. وذلك كله سوى الطرحى على الطرقات، ومن لا يعرف من الغرباء ونحوهم. ثم دمر في أيام المؤيد شيخ فلم يبق منه إلا رسوم تبذل الولاة الجهد في محوها.
2 تعليقات