«الشامي» نقاش الأختام: أتمنى عودة التراخيص كي نعمل بدون مضايقات
خلف طاولة خشبية تضم بعض الأدوات البسيطة يجلس الأسطى إبراهيم أبوبكر الشامي، نقاش الأختام بأحد الشوارع في منطقة المبيضة بالفيوم. تلك المهنة التي ورثها الشامي عن أجداده الذين لا يعطون أسرارها لأحد ويحتفظون بها لأنفسهم وأجيالهم من بعدهم. مازال بعض الأميين خاصة كبار السن والأرامل يستخدمون تلك الأختام النحاسية في المصالح الحكومية المختلفة.. «باب مصر» يتعرف على هذه المهنة.
جيل بعد جيل
يستند الشامي بظهره على جذع شجره عتيقة قد يكون عمرها أكبر منه بكثير. إذ تجاوز الأربعين بقليل أما الشجرة فتعود لعشرات السنين حيث كان يجلس أجداده. وهو بذلك قريب من مسجد الروبي وعلى بعد أمتار من مسجد قايتباي أو مسجد خوندا أصلباي.
عراقة الشارع تأتي من كونه أشهر شوارع الفيوم التجارية قديما، حيث كان يجلس مبيضي النحاس، وباعة سوق الغلال، وورش الحدادة، كما أنه قريب من شارع الصاغة، وغيرها من الحرف، التي كان يأتي إليها الناس من أماكن كثيرة من الفيوم وخاصة القرى، فهنا كان قلب مدينة الفيوم القديمة، وهنا أيضًا كان يجلس الختامين، ومنهم عائلة الأسطى إبراهيم.
يقول الشامي: “جدودي الأوائل كانوا من الشوام الذين جاءوا زمن محمد علي باشا، واستوطنوا الفيوم، وعملوا نقاشين أختام في نفس المكان، حتى وصلت لوالدي وأنا من بعده، وتداولنا جميعًا أسرار المهنة من بعضنا البعض. وإلى الآن يطلقون علينا لقب الشامي”.
وتابع: الآن يجلس ولدي في غيابي ويساعدنا والدي أحيانا نظرا لظروفه الصحية. فنحن لا نُعلم أسرار المهنة للغرباء، ويجب أن تظل في العائلة جيل بعد جيل. تغيرت الأحوال كثيرا، فهذا المكان كان يتجمع فيه الختامين، ويصطف أمامهم الناس من كل مكان، فكان هناك من يجلس بجوارنا لتسجيل الأسماء في كشف، وتنظيم الناس أمامنا، أصبح عددنا الآن لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، كما قلت الزبائن أيضًا. فقد يأتي زبون أو اثنين فقط خلال اليوم وهناك أيام قد لا يأتي فيها أحد.
حب المهنة وأدوات بسيطة
يتحدث الشامي عن المهارات التي يجب توافرها في صانعي الأختام. ويقول: “البداية يجب أن يحب الختام المهنة كفن وصنعة في نفس الوقت. ثم لابد أن يمتلك مهارة الخط والكتابة فهي أساس عملنا، وليس بالضرورة أن يكون الختام خطه جميل، لكنه يجب أن يكون ملُما بأنواع الخط وطرق الكتابة”.
يستخدم الختامين أدوات بسيطة للغاية، يرصها الأسطى إبراهيم أمامه على المنضدة لاستخدمها لاحقًا، وتتكون من ( المبرد، قلم حفر صلب مخصص للأختام، وملزمة وهي تشبه الكماشة مصنعة من الخشب يضع بها الختم عند نقش الاسم عليه كي يستطيع التحكم فيه).
يضيف الشامي: يصنع الختم من خامة النحاس التي نجلها من الختامين بالقاهرة، مشيرا إلى أنه يشتري الأختام الخام من المسابك بالقاهرة ويطلق عليها “أختام غشيمة” من حارة اليهود بالتحديد، فلا يوجد إلا مكان واحد فقط يبيع هذه الأختام ويشترى منه جميع الختامين في مصر وهو الخواجة عريان. إذ يعمل في هذه المهنة وأولاده فقط على سطح أحد المنازل القديمة هناك.
خطوات التصنيع
وحول خطوات التصنيع يقول الشامي: ” لا تستغرق كتابة الاسم وتجهيزه سوى دقائق معدودة، ونبدأ بإحضار الأختام الخام، ونقوم بتعديلها حيث بعضها يكون متعرج فنصلحه وننظفه وننعمه من عيوب الصناعة باستخدام المبرد حتى يكون جاهزا للحفر عليه. وهناك الكثير من الختامين يهملون هذه الخطوة لكنى أقوم بها حتى يخرج الختم في أفضل صورة”.
ويتابع: يوضع الختم في آلة تشبه الكماشة تسمي “ملزمة” من الخشب حتى يتم التحكم فيه جيدًا، وهي أداة بدائية مصنعة يدويًا، ويتم كتابة وحفر الأسماء من جهة الشمال بطريقة معكوسة، بواسطة قلم الحفر، وتكتب في الغالب بالخط الرقعة وهو المعمول به والمصدق من قبل المصالح الحكومية. حتى يستطيع الموظفين هناك قراءته بسهولة، ويمكن كتابة أربعة أسماء داخل الختم إذا لزم ذلك كالتوقيع على أوراق أو مستندات بنكية. إذ أنها تتطلب الاسم رباعيًا، وهنا تأتي مهارة النقاش في الكتابة على تلك المساحة الصغيرة.
ويوضح الشامي أنه يستخدم الختم الآن فئة قليلة من الناس، منهم من لا يجيدون الكتابة والقراءة أو كبار السن، إضافة إلى فئة كبيرة من ذوي الهمم، وخاصة في معاملاتهم مع البنوك أو المصالح الحكومية التي تطلب الختم النحاسي القديم المتعارف عليه لإتمام مصالحهم.
تاريخ الأختام في مصر
“ختمتي بيتي” لقب مصري قديم يعني “حامل أختام مصر العليا”. حمل هذا اللقب أحد الموظفين الكبار في مصر القديمة، والذي كان قريبًا من الفرعون وظهر هذا اللقب في الأسرة الثانية لفترة بسيطة، ولم يظهر مرة أخرى بعد انتهاء فترة حكم تلك الأسرة.
وتم تداول واستخدام الأختام قديما في المعاملات التجارية بين دول العالم القديم، كما استخدمت في توثيق العلاقات السياسية والاقتصادية. وقد عثر في منطقة الحرجة بالفيوم على ختم سمي بالختم ” السوري”، وهو ختم هرمي الشكل ولم يعثر على مثيل له في باقي الأماكن بمصر، حيث أتي من خلال التبادل التجاري؟ وقد عثر على الكثير من الأختام المصرية في العديد من دول الجوار ومنها أختام ملكية.
وبعيدًا عن تاريخ الأختام العريق في مصر منذ العصر الفرعوني، يأتي الختم الأهم في حياة المصريين وهو ” ختم النسر”. إذ اختار القائد صلاح الدين الأيوبي سلطان مصر في العصر الأيوبي النسر ليكون شعار الدولة المصرية، ويوجد إلى الآن صورة له تزين أحد جدران قلعة صلاح الدين بالقاهرة.
وبدأ استخدام هذا الختم عام 1914 لأول مرة، وأصبح الختم الرسمي للدولة المصرية طبقاً للمرسوم الصادر في 10 ديسمبر 1923، وأصبح شعار الدولة وخاتمها في جميع المعاهدات والمراسيم وأوراق الاعتماد والوثائق الرسمية. وتعد مصلحة سك العملة، هي الجهة المنوط بها صناعة أختام شعار الجمهورية، ويحمل كل ختم رقم تسلسلي، أو بصمة تختلف باختلاف الجهة الرسمية.
صعبة التزوير
كما أنه يصعب تزوير تلك الأختام النحاسية، لأنه يتم حفر الأسماء عليها بطريقة عشوائية، لذا فإنه يشبه البصمة، ولا يشبه ختم آخر، وبعد أن يتم صناعة الختم، كان قديما يتم تسجيله وفق دفاتر رسمية خاضعة لإشراف مديرية الأمن، وهو الأمر الذي تغير الآن ولا يعلم أحد السبب.
يعاود الشامي حديثه ويقول: “قديما كان يلتزم والدي بتوثيق الأختام للناس، فكان يتطلب توثيق الختم وجود اثنين من الشهود، يحملون بطاقات شخصية، وكان يوجد لدينا دفتر رسمي لتسجيل الأسماء للتوثيق، وبعد أن يمتلئ الدفتر يُسلم إلى مديرية الأمن قسم الأموال العامة”.
وتابع: الآن لم يعد التوثيق ساريًا، حتى تراخيص المهنة تم وقفها منذ الثمانينات فلا أحد يحصل الآن على ترخيص ” نقاش أختام”، وهو ما كان في السابق ضروريًا لممارسة المهنة، وبالرغم من أن الترخيص موقوف من قبل المسؤولين، إلا أننا نتعرض في الكثير من الأحيان إلى مضايقات من شرطة المرافق والإشغالات، وعمل محاضر وغرامات، وطالبنا كثيرًا بفتح تراخيص المهنة حتى نمارسها بشكل قانوني.
أنواع الأختام
ظهرت في السنوات الأخيرة مجموعة من الأختام الجديدة، ليست كالأختام النحاسية التقليدية، بل أختام تستخدمها بعض الجهات الخاصة، مثل المكتبات، الأفران، المصالح الحكومية، وتصمم تلك الأختام على الكمبيوتر، فلا يتدخل فيها ” نقاش الختم” فهي لا تتم بشكل يدوي.
وعن أنواع الأختام التي يُصنعها الشامي. يقول: “هناك الختم الشطرنجي، ويستخدمه وكلاء النيابة في تشميع الأحراز، وهناك الختم البيضاوي، والختم التقليدي الدائري، وجميعها من خامة النحاس، لكن يُطلب منا بعض الأشخاص أختام خاصة مثل الأختام المصنوعة من الفضة، وبجانب الاسم نقوم بنقش بعض الرسومات، حيث يستخدمه بعض الأعيان كنوع من الوجاهة”.
كما يأتي إلينا الشباب أيضًا لتصنيع أختام مبتكرة، كأن يكتب اسمه واسم حبيبته أو خطيبته وإضافة قلب، أو حروف وتواريخ، كشكل تذكاري.
يختتم الشامي حديثه ويقول:” نفسي التراخيص ترجع زي زمان عشان نقدر نشتغل براحتنا من غير مضايقات، فأنا لا أريد ترك مهنتي التي لا أعرف غيرها، أو ترك مكاني ومكان أجدادي”.