«السمان والخريف والربيع».. قصة نجيب محفوظ المنسية
يلعب صلاح جاهين، يحب دائما اللعب الحر، في الشعر والرسم، كما في الصحافة، وعندما تولى فتحي غانم رئاسة تحرير مجلة «صباح الخير» خلفا لأحمد بهاء الدين، طلب منه جاهين مساحة حرة، محررة ينشر من خلالها مجلة خاصة به، هو رئيس تحريرها، ومحررها الأوحد.
وافق غانم فنشر جاهين مجلة «الأفكار» من ثماني صفحات، مجلة لا علاقة لها بصباح الخير، وإن كانت توزع معها، وحسب وصفه لها جريدة عادية هدفها الإعلانات، ولها خمسة قراء، ذكر الحروف الأولى من أسمائهم، وجميعهم من «المعذبين».
مجلات العدد الواحد
في عام 1961 أسس جاهين مجلة أخرى من مجلات العدد الواحد، اختار لها هذه المرة اسم «الجنون»، المجلة فنية نصف قرنية، جاهين هو رئيس التخريف لها، ومع كل عدد ثمة هدية «فطير مشلتت» يطلب من البائع.
لم يستمر جاهين طويلا فى صباح الخير، انتقل في عام 1963 إلى الأهرام، ليمارس بعض ألعابه هناك، ولكن استمر تقليد المجلة المحررة، وفي عام 1965 صدرت مجلة «الزفة» بمناسبة فصل الربيع، مجلة جريئة تصدر مرة كل مرة، ويرأس تحرير «واحد بيأخد 100 جنيه، ويحصل مدير تحريرها على أقل من رئيس التحرير». شارك في رسم المجلة عدة رسامين من بينهم إيهاب شاكر، ورؤوف، وشارك في تحرير المجلة عدة محررين، واستعانت المجلة بكتاب من الخارج كان من بينهم نجيب محفوظ، وهو أيضا عاشق للعب الحر، لم يتخل عنه منذ بدأ الكتابة، كتب في «الزفة» قصة قصيرة بعنوان «السمان والخريف والربيع». القصة غريبة عن عوالم نجيب محفوظ، بطليها الفقيرين يتصارعان على عقب سجاير، يذهب في النهاية إلى الشاويش عوكل، لا تخلو القصة على بساطتها من أسئلة محفوظ الفلسفية حول الوجود والإرادة.
هنا القصة الممتعة التي لم يضمها محفوظ إلى أي من مجموعاته القصصية.
السمان والخريف والربيع
الحياة كلها تحولت فجأة إلى حديقة، كل شيء ينبت مزدهرا كأنه زهر الفل على الأغصان، العيون تتحرك مفتوحة تتأمل صنعة الخالق المبدع مسرعة في طريقها نحو الأرزاق.
القلوب تتحرك نحو الحب، وبرعي قدمه تتحرك نحو الرزق، كوز الصفيح في يده، ورزقه محدود على مائدة الحياة، أعقاب السجاير هدفه وجمعها مهنته، والرزق وفير، فالدنيا ربيع والسهر ما أحلاه، ولكن عينيه تتحرك هي الأخرى على وهيبة، ساقها الملفوف مقشف ولكن مثير، عجزها أعجب ولكن مستدير، نهدها متهدل ولكنه رغم ذلك رجراج، وثوبها الممزق يكشف عن لحم لونه باهت ولكنه مشدود، وأفاق برعي من أحلامه على أصابع ضخمة تقذف عقبا في الطريق، فانطلق يعدو بأقصى سرعة كأنه كلب صيد نحو العقب المدخن كأنه باخرة على وشك الرحيل.
وانطلقت وهيبة هي الأخرى في نفس الاتجاه، وعلى العقب التقيا، وامتدت الأيدي نحو الأرض، والتقت الأصابع بالأصابع، ورفعت وهيبة عينيها نحو برعى وقالت بصوت منغم:
– فلتكن إرادة الله..
وتثاءب برعي في محاولة لطرد النوم من عينيه وقال في صوت خافت..
– إرادة الله ليست كل شيء في دنيا الناس، هناك إرادتنا نحن أيضا.. البشر لهم إرادة ونحن بشر على أيه حال..
وضحكت وهيبة في دلال وقالت:
– ولكن العقب البلمونت من نصيبي..
ورد برعي في حسم:
– فليكن من نصيب صاحب النصيب
وقالت وهيبة في خبث:
– وأنت تظنه أنت..
– أنا لا أظن شيئا، أنا تركت الظن من زمان
– إذن فأنت حكمت
– حكم لا يقبل النقض
– وددت لو أعرف منطوق حكمك
– ستعرفينه عما قليل
ومد برعي أصابعه النحيلة فألتقط العقب، ووضعه في الكوز، ونظر نحو وهيبة نظرة فيها حب وفيها حقد وفيها نشوة الانتصار، وقالت وهيبة وهي تعض على شفتيها:
– إذن فأنت أقمتها محكمة وحكمت فيها وأنت طرف في النزاع..
وقال برعي وهو يخفي الكوز في طيات ملابسه:
– أنت التي نطقت بالحكم..
وقال وهيبة مرتاعة:
– أنا؟!
– نعم، لا شك، قلت فلتكن إرادة الله.. أليس كذلك؟
– نعم قلت.. ولكن
قال برعى مقاطعا..
– انتهينا.. كانت هذه إرادة الله.
كان الفجر قد أخذ ينبثق متسلخا من رداء الظلام، وعصفور الصباح البري يحوم في الأفق، وقطرات الندى تغطي كوز وهيبة وتكسبه لونا فضيا براقا كلون الفجر الذي على الأبواب، وفجأة امتدت يد الشاويش عوكل فأمسكت برعي من قفاه، وامتدت يده الغليظة تصافح وجه في حدة، ولكنه سلخ نفسه من يد الشاويش وطار، وتدحرج معه العقب المدخن، وامتدت يد الشاويش عوكل فسحب العقب من فوق الأرض ووقف على جزع عمود النور يدخن في انبساط.
وبكى برعي وهو يجري وقالت له وهيبة وأنفاسها تتلاحق:
– لا تبك هكذا كالنساء
– ولكنه أخذ العقب
وقالت وهيبة وهي تكفكف له الدمع:
– إنها إرادة الله
2 تعليقات