الست كريمة.. نساجة بالفطرة انتصرت على مأساتها بـ”الحرب”| حكاية من مركز «رمسيس ويصا»

من طفلة تعمل بالزراعة إلى فنانة بالفطرة جابت أعمالها العالم، سارت على خطى أجدادها المصريين القدماء الذين قدموا فنونا بالفطرة دون دراسة. إنها النساجة كريمة علي (1943 – 2023)، إحدى النساجات المبدعات من الجيل الأول بمركز «رمسيس ويصا واصف» للفنون بالحرانية، التي غيبها الموت قبل أيام عن عمر يناهز ثمانين عاما.

رمسيس ويصا واصف وأطفال الحرانية

تركت فنانة النسيج الراحلة “كريمة علي” أو كما يناديها الجميع – الست كريمة – وراءها إرثا فنيا. إذ تعد واحدة من أوائل الفتيات اللواتي عملن بمركز «رمسيس ويصا واصف» للفنون بالحرانية بعد تأسيسه في عام 1952.

خمسة عشر صبي وفتاة شكلوا النواة الأولى لفنون المركز المستمرة حتى الآن. ويروي إكرام نصحي، المدير الحالي لمركز «رمسيس ويصا واصف» بداية الجيل الأول بالمركز وكيفية اختيار النساجين ومن بينهم كريمة علي.

على حد وصفه لـ«باب مصر»، ما يميز الجيل الأول أنه جيل لم ير أي حرفة يدوية طوال حياته، لا نسيج أو أي حرفة أخرى. وكان هذا هو السبب الرئيسي لاختيار رمسيس ويصا قرية الحرانية بالجيزة لإقامة المركز، لأنه بحث عن قرية لا يوجد بها فنون يدوية من الممكن أن تؤثر على الأطفال، وهو ما تحقق بالحرانية التي يعمل أهلها في الزراعة فقط.

كانت كريمة واحدة من 15 صبي وفتاة دفعهم الفضول للتردد على “الأفندي” الذي يزور القرية أسبوعيا خلال عام 1951. حين كان يأتي برفقة زوجته صوفي حبيب جورجي وابنتيه، لم يتجاوز عمرها حينها 10 سنوات، وجمعتهم صداقة بعائلة رمسيس ويصا حتى بدء العمل بالنسيج في عام 1953.

 فرصة “فتحت بيوت”

لكن كيف ائتمن الأهالي رمسيس ويصا الغريب عن القرية على أطفالهم واقتنعوا بفكرة تنفذ لأول مرة لحرفة لم يروها من قبل؟ كان السر كله في علاقة الصداقة التي نشأت بين عائلة رمسيس وأهالي القرية بعد شراءه الأرض حتى بناء أول مبنى بها. بالإضافة إلى سبب آخر وهو توفير مقابل مادي للأطفال نظير النسيج.

ويتابع المهندس إكرام نصحى: “استقبله الأهالي لتعلم شيء آخر بخلاف الزراعة، وهو بالفعل كان غريبا عن القرية اشترى قطعة أرض زارها الأطفال باستمرار بدافع الفضول. خاصة مع وقت الفراغ الكبير الذين شعروا به لعدم وجود مدرسة”.

وحرص رمسيس أيضا على وجود عناصر جذب للأطفال. مثل تخصيص قطعة أرض لتصبح ملعب، كان يجلب لهم وجبات وغداء، وألعاب جماعية مثل الكرة، والأطفال علموا أنه يحضر أسبوعيا فكانوا ينتظروا مجيئه وزوجته.

ومن هنا بدأت فكرة الجيل الأول، موضحا: “لم يكن هناك أي اختيار لطفل دون الآخر. فالفكرة الأساسية التي حال رمسيس إثباتها من تجربته أن كل شخص لديه طاقة إبداعية، وانضم الأطفال كلهم للمركز بموافقة الأهالي الذين وثقوا في عائلة رمسيس ونشبت علاقة صداقة بمرور الوقت”.

كان لدى رمسيس ويصا الشجاعة لإعطاء الأطفال حريتهم للاختيار، حين سألهم للمرة الأولى: “تحبوا تعملوا حاجة مفيدة وتأخدوا عليها فلوس؟”. وبعد موافقتهم قدم لهم النول الخشبي وخيوط الصوف والقطن. بالإضافة إلى مقابل مادي يعادل المقابل الذي يحصل عليه الصبي للعمل في الأرض الزراعية أو للعمل مع نجار أو حداد.

كريمة علي.. قصة نساجة بالفطرة

انجذب الأطفال وبينهم كريمة للفكرة، قدم لهم رمسيس النول والخيوط والمقابل المادي التوجيه. وترك لهم الحرية في تنفيذ أي شكل يختارونه دون تدخل منه، وكان لكريمة طابع خاص في النسيج، وتنوعت أعمالها منذ الخمسينات حتى توقفها عن النسيج بعد عام 2010.

كانت تعشق كريمة المواويل والسيرة الهلالية وقصص أبوزيد الهلالي وأيوب والفرسان، والأغاني التراثية والمواويل. وكانت تغنيها بصوتها الجميل خلال نسيج السجاد.

وجسدت العديد من الأشكال مثل الخيل والأحصنة والجمال والحياة الاجتماعية والمولد أيضا عبر تطور زمني على مدار ما يزيد عن 60 عاما. إذ تغيرت ميولها فتغيرت الأشكال التي تنسجها، سجادة يدوية تحمل صورة ماعز في الخمسينات، لسجادة أخرى ضخمة طولها متران وعرضها ثلاثة أمتار تحمل اسم “الحرب” في السبعينات.

الحرب.. سجادة انتصرت بها كريمة على مأساتها

سجادة “الحرب” الشهيرة لها قصة طويلة ترجع إلى أزمة نفسية مرت بها الست كريمة خلال السبعينات حين تزوج زوجها شيخ الخفر امرأة ثانية. ثارت كريمة وغضبت “بشتغل وأصرف على البيت عشان يجيبلي ضُرة !”.

اتخذت كريمة قرارا بالتوقف عن العمل نظرا لأن دخلها كان أكبر من زوجها، وكانت تعيل الأسرة. وبالفعل ظلت في المنزل 3 أشهر دون عمل، ثم تحدثت معها السيدة صوفي زوجة رمسيس ويصا. وقالت لها: “زواجه مرة ثانية أمر مشروع، لكن قعادك في البيت من غير شغل ونسيج أنتي كده بتضري نفسك. ارجعي واشتغلي وكلنا مستنينك”.

وبالفعل عادت كريمة للعمل. واختارت لتنفيذ أول سجادة بعد الأزمة، الخيل – أكثر ما تحبه – ونفذت سجادة الحرب الكبيرة واستغرقت وقت كبير يتجاوز عاما منذ منتصف عام 1973 حتى بداية عام 1975.

ويقول: “نفذت السجادة خلال وقت كانت غاضبة فيه، وجسدت مشاعرها في هذه السجادة ونجد فرسان ساقطين على الأرض ودم وحرب. واستغرقت عام فالأزمة مرت، فنجد نصف السجادة العلوي به سماء وبركة مياه تشرب منها الخيل. وغروب الشمس كأنها يوم من العمر ومر ويأتي فجر جديد”.

«حماتي لقت مخرج لأزمتها بالفن» هكذا يقول نصحي، مشيرا إلى أن دور المركز لم يكن للفن فقط. لكن حل للمشكلات الشخصية أيضا، فالهدف الأساسي من مركز رمسيس ويصا واصف هو العلو بالإنسان وإبراز طاقته الإبداعية، والتي تغير من طريقة تفكير الإنسان.

بـ”الملس والعباية”.. نساجين الحرانية يجوبوا العالم

حرص رمسيس على تشجيع الجيل الأول بالمركز عبر رؤية أعمالهم في المعارض الفنية في مصر وخارجها. وشاركوا في العديد من المعارض والفعاليات وأول معرض لمركز رمسيس كان في عام 1958 بمدينة بازل السويسرية. وكل المعروضات كانت قطع متواضعة لا تزيد عن 80 سم للطول و80 سم للعرض.

كان هذا العرض بداية إدراك الغرب لأهمية الفن المختلف الذي يقدمه مركز رمسيس. لأنه حرص أن تكن كل سجادة من خيال الطفل نفسه بدون توجيه أو رسم مُسبق. كالفن القبائلي الذي تتسم به كل منطقة لتعبر عنها.

ويستكمل مدير المركز: “كانت “الست كريمة” معروفة بأسلوبها الفريد في تصوير الحيوانات والطيور والحقول. وتجسيد الحياة الاجتماعية للقرية والقصص الفولكلورية للفرسان”.

أما السمة التي اشترك فيها فنانو مركز “رمسيس ويصا” هو الافتخار بمصريتهم. وظهر ذلك في ارتداء الزى المعتاد للرجال والنساء، مثل “العباية الرجالي” و”الملس” للنساء وهو جلباب أسود واسع.

اقرأ أيضا:

قرية الفخار تصارع للبقاء في الفسطاط.. وحفيد الشيخ عابدين: إذا هُدمت سنعتزل