الساكن الأخير في «بيت مدكور»: حي ينتظر الموت بين أنقاض الهدد
بدا كل شئ طبيعيا في صباح الثالث من أكتوبر 2022، لكنه لم يكن كذلك على سكان العقار رقم 13 في شارع التبانة المعروف باسم «بيت مدكور باشا» الأثري. اقتحم ساحة المنزل الكبيرة خمسة عمال، بدأوا في الهدم دون إعطاء فرصة لنقل الأثاث، ست عائلات فرت، لكن واحدًا منهم رفض المغادرة، وبدأ الصراع من أجل البقاء.
تخريب «بيت مدكور»
قررت زيارة «بيت مدكور» في محاولة للبحث عن وضعه الحالي، في البداية رفض العمال الخمسة بقائي واستمرت محاولاتهم لإبعادي عن محيطه. كان المشهد الأول عند دخول البيت، بقايا حجرية متناثرة تملأ ساحة المنزل، توجد الأبواب الخشبية والحلي المعدن على اليسار. أما الأثاث كان محطما ومبعثرا في كل مكان.
المشهد العام يُوحي للزائر بأن هذا البيت عبارة عن بقايا لا تصلح إلا للهدم. خاصة مع تعدد الطرق لإفساد البيت، وكان أولها عامل يحرق أشياء غريبة بجوار الجدران ليتصاعد عليها الدخان الأسود، غير معروف سبب الحريق الذي يشعله. لكن بحسب سكان البيت السابقين هذه محاولة إفساد الجدران العتيقة التي تنتظر مصيرها للإعدام بعد بقاء دام 600 عاما.
بالتجول في “بيت مدكور باشا” المقدر مساحته 2000 مترا، وتحديدا في الطابق الأرضي. تظهر رسومات على الجدران والأسقف وزخارف أصلية شامخة. خاصة في قاعة “الشماسي”، ويظهر بها النقوش العتيقة بألوانها الزاهية ما زالت على حالتها الأصلية.
المواطن الأخير في بيت مدكور
بعد مغادرة «بيت مدكور» لحق بي رجل مسن يتحدث في خوف، يرتجف جسده دون سبب، وتنقطع أنفاسه بعد كل كلمة. عيناه يشوبها بياض، وبشرته يكاد يختفي لونها الحقيقي. جسده النحيل مرهقا من كثرة الترجي والسعي لتوفير حياة آمنة، ينطق كلمة ويتوقف للحظات. هذه حالته الصحية التي تدهورت بعد طرده من غرفته في مطلع الشهر. ورفض الحديث معي أمام البيت خوفا من مطاردة عمال الهدم أو إصابته بسوء منهم.
خمسة عشر يوما مرت على أحمد سيد بدران كأعوام طويلة، لا يمتلك مصدر دخل، أو معاش شهري، أو سكن بديل. حتى الغرفة التي كان يعيش فيها أصبحت تحت مطارق معاول الهدم.
“بصارع طول عمري، هعيش دلوقتي عشان إيه”. لم يجد الرجل الستيني كلمات ليعبر بها عن المأساة التي يعيشها، وقفنا معا للحظات دون حديث. لم يستطع أن يتكلم لسوء حالته الصحية وصمت أنا لسوء حاله.
سرعان ما أخرج من جيبه “بخاخة زرقاء اللون” وقال عنها: “معلش بستخدمها بقالي أسبوعين من النوم في المخزن بعد ما اطردت من البيت”. وعلى الرغم من الصراع القائم بين محبي التراث لبقاء المنزل وقرار الورثة بهدمه. تظل روح “أحمد سيد بدران” عالقة للبحث عن حياة.
أحمد سيد بدران، أو «المواطن الأخير» في «بيت مدكور باشا»، يعيش بين أنقاض الهدم. يجاوره الرماد والحجارة والأثاث المُهشم من كل مكان. عند زيارتي لبيت مدكور لاحظت وجود ممر على يسار المدخل، رفض عمال الهدم الخمسة اجتيازه، اتضح أنه مكان إقامة بدران المؤقتة.
حياة بين الأنقاض
يقول لـ”باب مصر”: “فرت كل العائلات من هنا خوفا من الزيارات والتهديدات وبدء العمال في الهدم، لكنني على عكسهم.. أسرتي الوحيدة هي نفسي، لا يوجد ما أخاف عليه أو أخشى أن يُفقد مني.. هنا عشت منذ الستينات.. وهنا سأموت أيضا حتى وإن كان بين الأنقاض”.
كغصن الشجرة – يصف نفسه- لا ينفصل عن مكانه، وإن انفصل سيكون مصيره الموت. ويستكمل: “طُردت من المنزل كغيري من السكان وبعد تجمع الأهالي وترجي العمال للبقاء وافقوا أخيرا لبقائي في المخزن، ولكنها إقامة مؤقتة لحين الانتهاء من هدم المنزل بأكمله”.
كواليس هدم “بيت مدكور”
كشف بدران كواليس هدم «بيت مدكور» ويقول: “حضر العمال 6 مرات للهدم بواسطة عقد مزور يرجع تاريخه إلى عام 2013، حقيقة هذا العقد أنه بتاريخ عام 2011 لكن تم تعديله إلى عام 2013، وتم تعديله يدويا مرة أخرى إلى عام 2014، مع العلم أننا حصلنا على وقف تنفيذ القرار الصادر في عام 2011، ومعي ما يثبت ذلك”.
ويتابع: “حاليا صدر أمر تشغيل على القرار القديم، وعلى أساسه شهدنا نوبات مفاجئة للهدم غير المبرر، مرة سلم البيت، وأخرى الواجهة، وأخيرا سرقة الشبابيك المعدنية وإزالة التختبوش الأثري والخشخيشة. وبهذا يشعر كل زائر للبيت أنه خرج من الطراز المعماري الذي ينفرد به، صمدنا للنفس الأخير، ولكن بسبب الخوف والترهيب المستمر فر الجميع”.
واستكمل: بعد مناشدات مستمرة، حضر مسؤولون من محافظة القاهرة للبحث في قضية هدم البيت الأثري، وعلى حد وصفه حضر مسؤول من المحافظة وأمرهم بوقف أعمال الهدم، وبالفعل توقفوا لحظيا أمامه، ثم استكملوا الهدم لاحقا، وما يثبت ذلك أشرطة كاميرات المراقبة لدى اثنين من المتاجر المطلة على بيت مدكور.
تحدث معه بدران، وشرح له موقفه وحالته وعدم وجود مكان بديل يعيش فيه، “لما اتواصلت معاه تاني بقى مش بيرد عليا”.
بلا مأوى أو مصدر دخل
يعاني أحمد سيد صاحب الـ64 عاما، من أزمة أخرى، بخلاف أن الشارع أصبح مصيره للحياة في سنوات عجزه التي من المفترض أن يعيشها في منزل دافئ، إلا أنه يعاني من غياب مصدر للدخل ولا يعمل منذ 10 سنوات، ونظرا لعدم إتمام عامه الـ65 فإنه لا يحق له معاش تكافل وكرامة.
يحتفظ بدران بكل الأوراق التي تثبت بطلان قرار الهدم، ومحاولات التلاعب به، ومن بينها عقد الإيجار، وأول قرار لهدم البيت الذي صدر وقت ثورة يناير 2011، وحفظ بالأدراج وظهر بعد تعديل تاريخ صدوره من 2011 إلي 2013، ويستكمل عن هذا القرار أنه تم إيقافه وعاد بتاريخ جديد 2014، مع ظهور التعديلات والتاريخ أعلى القرار لم يتغير.
يُتبع ….