الرياض في زمن التحولات والتناقضات.. مشاهدات زائر مصري
تصورات مسبقة تسكن عقل المرء عن الرياض؛ عاصمة المملكة العربية السعودية، لكن الزيارة على الأرض كفيلة بإطاحة كل التخيلات المتوهمة والتعامل مع الحقائق الصلبة على الأرض. مع فتح الباب أمام تسجيل المشاهدات وتدوين الملاحظات في لحظة فارقة في تاريخ المدينة؛ التي تمر بتحولات عمرانية وتوسعات هائلة. لكن ما تحت السطح يظل هو الأعمق في فهم المدينة التي تخلق تناقضات اجتماعية مسكوت عنها، لكنها ملاحظة لمن يعرف الملابسات والتواريخ القديمة.
الاشتباك مع تحولات الرياض له ما يبرره، ففي النهاية نحن أمام واحدة من عواصم العرب الرئيسة التي تلعب أدوارا أساسية سياسيًا وثقافيًا وترفيهيًا واقتصاديًا في دنيا العرب في يوم الناس هذا. لذا كان من المهم التوقف عند ما يجري في المدينة التي تستقطب ملايين العرب بحكم العمل أو الترفيه المستجد. خصوصا عندما تكون المشاهد والانطباعات من مصري زار المدينة لأول مرة في مطلع 2024، في لحظة تخلع فيها الرياض ملابسها القديمة وترتدي حلة جديدة.
***
عمليات التوسع العمراني في الرياض جارية على قدم وساق. فالمدينة تستقبل نسخة “إكسبو 2030″، أي بعد ست سنوات، وهي مناسبة تريد الحكومة السعودية أن تستغلها لتدشين وجه جديد للمدينة والمملكة ككل. فهناك رغبة في جعل منطقة الرياض “منطقة متعددة الوظائف الاقتصادية، وجاذبة للاستثمار، وذات تنمية متوازنة مكانيًا”. تشكل فيها الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية المحور الأساسي لوضع إستراتيجية تنموية للمنطقة. بحسب ما هو معلن بشكل رسمي في المخطط الإقليمي لمنطقة الرياض.
تقدم الحكومة السعودية معادلة بسيطة تقوم على تقديم معايير دولة الرفاه في الرياض مقابل الانفراد بالقرار. ويقبل مواطن المدينة هذه المقايضة، لذا يطمح في مزيد من رفع كفاءة معايير جودة الحياة. لكن هذه ليست إلا جزءا من الصورة، إذ تبدو أحياء المهمشين في الجنوب أساسًا. بل وحتى في أحياء شرق المدينة مثل أم الحمام، معبرة عن التناقضات التي تسكن المدينة الكبيرة، وتنتقص بعض الشيء من الصورة اللامعة لها. كما أن الزحام في شوارع المدينة يكشف عن أزمة عميقة في مدينة لا تزال تخطو خطواتها الأولى في توفير وسائل النقل الجماعي.
***
لكن التغيرات لا تتوقف عند بناء أبراج بغرض الإبهار، أو تعزيز فرص الاستثمار، فالرياض تمر بتحولات اجتماعية عميقة بعد خلع رداء التشدد الوهابي. هذه الأيام؛ نادرًا ما تجد فيها ذكرًا لهيئة الأمر بالمعروف والنهي على المنكر. تلك الهيئة التي مثلت التشدد والجمود الديني في أعلى صوره، فتركت ذكرى سيئة في نفوس العديد من أبناء المدينة. إذ تدخلت في أدق تفاصيل الحياة اليومية لأهالي المدينة. فلم يكن يسمح مثلا لأبناء الأسرة الواحدة بتناول الطعام معا في مكان عام، فللنساء مكان وللرجال مكان آخر. بينما تقف سيارات الهيئة أمام المولات التجارية لمنع دخول أي رجل أو شاب بشكل منفرد، فكأنها تعتنق مبدأ سوء النية دائمًا.
الآن؛ يتنفس أهالي الرياض الصعداء وهم يمارسون الحياة بشكل طبيعي. بعد أن طويت صفحة الهيئة من قبل السلطات السعودية، التي تتبنى الآن وجهة نظر مختلفة لتقديم صورة مغايرة للمملكة. ما انعكس على طبيعة الحياة اليومية في المدينة، فأصبح الوجه الترفيهي أحد المكونات الرئيسة فيها. بل الأكثر جذبا للسياحة، خصوصا مع نجاح تجربة موسم الرياض في خلق مقصد للسياحة الترفيهية على مستوى إقليمي وعالمي في مدى زمني قصير جدا. ومشاهد طوابير الطويلة للسيارات المتوجهة كل يوم إلى بوليفارد سيتي، معبر جدا عن مدى إقبال أهالي المدينة وزائريها على المنتجات الترفيهية التي تسعى على ما يبدو لمنافسة نموذج ديزني لاند.
هذا التحول السريع لا يمر بدون خلق تناقضات عميقة في المجتمع. فالشباب والنساء يؤيدون هذه التحولات التي تعزز مكاسبهم. خصوصا المرأة التي حصلت على مكاسب عدة أبرزها قيادة السيارة في شوارع المدينة. في مواجهة شرائح أخرى لا تقبل هذه التحولات السريعة والمتلاحقة. فهناك ممثلون للتيار المحافظ الذين لا يعجبهم سرعة التحولات التي خلقت واقعًا جديدًا يتحكم فيه أهالي الرياض في أجسادهم وأفكارهم بصورة أكبر، بعيدًا عن الرقابة البطريركية المدعومة بتصورات متطرفة في تطبيق الدين.
***
هناك نهضة ثقافية ملحوظة مع ازدياد عدد المكتبات التي تفتح أبوابها في الرياض. لا تكتفي دور النشر بنوافذ المكتبات لعرض الكتب، بل توفر مساحة أساسية لعقد الندوات التي تناقش قضايا ثقافية مختلفة. حتى هنا نجد الدعم الحكومي حاضرًا عبر برنامج الشريك الأدبي الذي تقوم عليه وزارة الثقافة السعودية (تأسست في 2018)، وتقدم من خلاله حوافز مالية للمكتبات التي تستقبل ندوات مستمرة طوال العام. هذا نجح في خلق حراك ثقافي في بلد عرف ظاهرة المنتديات الأدبية والصالونات الثقافية في زمن آخر.
بيضة القبان في إدارة كل هذه التحولات والتناقضات ومنعها من الانفلات أو الانفجار، هو قدرة السلطات السعودية على تطبيق القانون بحزم يثير الإعجاب في مدينة نصف ساكينها من المغتربين الذكور. ما يخلق بطبيعة الحال أمراضا اجتماعية تحتاج إلى حزم وكفاءة في الإدارة. وهو ما يتحقق على الأرض فالمدينة تخضع لنظام صارم، فلا تجد إلا الالتزام المروري في شوارع تعج بمختلف الجنسيات، والنظافة سمة أساسية لشوارع المدينة، والاحترام الكامل لقانون البلاد راسخ. والذي ترى أثره واضحا رغم أنك لا ترى رجال الشرطة في الشارع كثيرًا، لكن استخدام التكنولوجيا في الرقابة يجعل تدخلهم سريعا وحاسما عند أي طارئ.
***
الرياض مدينة كبيرة لديها طبقات مختلفة تستحق التأمل. فمن سعي حكومي لخلق صورة جديدة تعتمد على الترفيه وخلق مقاصد سياحية واستثمارية. وتعزيز الشعور بتراث يتم تعزيزه بكل الوسائل الممكنة، إلى مجتمع يشهد لحظة تحول دراماتيكية من الانغلاق الوهابي إلى الانفتاح الثقافي. وطبيعة الحياة في الأحياء الغنية والأقل دخلا وبما بينهما من تناقضات، وليس انتهاء بالعلاقات بين أبناء المدينة والمغتربين والعمالة الوافدة. تمتلك الرياض في كل هذه العديد من القصص التي تكشف عن تنوع هائل قد لا يعكسه الشكل المعماري للبنايات الحديثة. الذي يجعل المدينة تبدو للوهلة الأولى كأنها معرض لعمارة ما بعد الحداثة. فخلف الزجاج اللامع لبنايات المدينة تقبع حيوية هائلة تستحق الرصد والاشتباك معها والتأمل فيها وفي مآلاتها المستقبلية.
اقرأ أيضا:
«ابن الطويل».. واستعادة الفسطاط الضائعة