«الروضة».. وما اغتنت

في صبانا، حينما أشرفت نشرة أخبار المذياع على الختام، أصغينا إلى ما يفيد «أن مقياس النيل بالروضة قد سجل ارتفاع النيل…» حيث عرفت بجزيرة المقياس أو دار المقياس، وعرفت أيضا بجزيرة الفسطاط، وجزيرة الصناعة، حيث كانت منشأة لصناعة السفن، وأخيرا جزيرة الروضة حيث زخرت بالحدائق والبساتين التي حفلت بالأشجار والأزهار، وازدهرت العمارة آنذاك، فكانت البنايات والقصور تطل على النيل في زمن الوزير الفاطمي أمير الجيوش بدر الجمالي.

آنذاك تضافرت الجزر التي تدنو من الروضة، فشهدت الأنحاء والروافد المجاورة، مثل المنيل والزمالك وبولاق، وصارت وقتذاك متنزهاً للناس من كافة الشرائح الاجتماعية.

وشيد حسن باشا المناسترلى قصرا شاهقا بها، حيث شغل محافظ القاهرة. وعندما كانت كائنة في وسط النيل زمن الأمراء والملوك، شيدت عديد من الجسور والطرق، مثل كوبري قصر النيل في عهد الخديوي إسماعيل عام 1879، وكوبري الجلاء. وفي عام 1908، شيد كوبري الملك الصالح والجيزة في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني.

***

وظلت جزيرة الروضة مفعمة بالحيوية في حقول العمران والزراعة زمن فيضان النيل، حيث تسري في البلاد مظاهر الازدهار والنماء. وفي آونة أخرى، تأتي الأقدار بما نشتهي، فيغرق الفيضان كافة الأرجاء، ولا يبقى سوى البؤس والأسى.

ومن مآثر جزيرة الروضة، أنها رغم ما شهدته من نكبات وكوارث، إلا أنها ظلت تتمتع بالحدائق والقصور والبيوت الراقية. فكان التمدين والعمران ظاهرة وسمت بها؛ حيث سكنتها الشرائح الاجتماعية العليا من المجتمع.

في ظلال تلك الوقائع والأحداث التي ذكرت في الخطط والآثار التي أوردها المؤرخون عبر عصور عديدة مضت، برزت الأسطورة التي تراوحت بين الحقيقة والخيال، حيث اعتاد المصريون أن يلقوا بفتاة صغيرة في النيل كل عام كتعبير عن الامتنان للخير الذي يحمله النيل إليهم. ويروى في سياق آخر أن الاحتفال السنوي بالتضحية بعروس النيل استبدل بعروس من طين تكسى ثياب العروس.

***

غير أن هناك تاريخا آخر لـ”دولة” الروضة مغاير ومعاصر لم يكتب أو يّدون بعد. تاريخ حياة البشر الذين عاشوا في أنحاء الروضة. فقد سكن شارع الإخشيد د. محمد مندور، أحد أعمدة النقد في مصر، والموسيقار كمال الطويل، والشاعر عبدالرحمن صدقي، مدير دار الأوبرا، وكانت فيلا قوت القلوب الدمرداشية، وأقام بالروضة الكاتب السوري اللاجئ السياسي خير الدين الزركلى. وفي شارع الفتح كانت مطبعة الفتح لصاحبها محب الدين الخطيب حيث كانت تصدر مجلة “الفتح” الإسلامية. وسكن أيضاً أحمد حسين، رئيس حزب مصر الفتاه، والشاعر علي الجارم، وموطناً لقصر المناسترلى.

وفي جزيرة الروضة كانت حادث اغتيال عبدالقادر طه، أحد الوطنيين المصريين قبيل عام 1952 على يد الحرس الحديدي. وفي أعقاب نجاته سعد زغلول من حادث القصاصين، اختار الاستشفاء في أجواء جزيرة الروضة.

والآن، نحن في حاجة إلى نخبة من نشطاء الباحثين للكشف عن الخفي في الكنز الدفين للروضة المعاصرة. وربما يسفر السعي إلى إنجاز دراسات وبحوث عميقة تحمل “ديوان الروضة المعاصرة”.

اقرأ أيضا:

علامات في المدينة

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر