خُط الصعيد وخُط الدلتا: اللقب الطقسي والجذور السحرية
«الخُط» لقب طقسي لأنه يحتوي على طاقة رمزية، و يتكرر بانتظام في حالات معينة، ويتمتع بأصداء أسطورية تضرب بجذورها في البدايات السحرية البعيدة.
تغيير الاسم أو الحصول على لقب جديد ليس حدثا عاديا. بل يأتي نتيجة جهود، ويظهر بالأساس في مجال المقدس، مثل الرحيل إلى بيت الله الحرام وأداء مناسك الحج، كما هو الحال مع لقب (الحاج). ومثل الانتظام في الخدمة الكنسية بشروطها الصارمة كي يحصل المسيحي على اسم كهنوتي له جذوره المقدسة.
الحصول على اللقب الجديد، يعني الحصول على ميلاد جديد، وصورة ذهنية جديدة. تختلف كثافتها الرمزية بمدى قرب أو بعد الميلاد الجديد عن الميلاد القديم.
عشماوي
لقد انتقل اللقب من مجال المقدس الواضح إلى مجال الدنيوي الذي يحتفظ بعلاقات مباشرة وغير مباشرة بالمقدس. أو ينهض على ثقافة تقليدية راسخة، وتنعكس عليه ملامحها الشعبية، كما هو الحال مع وظيفة الرجل الذي يدير غرفة الإعدام في السجون.
الجلاد هو المسمى الوظيفي للشرطي الذي يقوم بوضع الحبل في عنق المجرم. وهو مسمى قديم، ولا علاقة له بعمله، كما أنه يلقب بـ “عشماوي” مهما كان اسمه، نسبة إلى رائد تلك الوظيفة في وزارة الداخلية في ميلادها الحديث.
كذلك الأمر بالنسبة للقب (خط الصعيد) الذي تعودنا على ظهوره مع ظهور المجرمين الكبار، أو رؤساء العصابات في الصعيد تحديدا.
لا يوجد لقب « الخُط» في الدلتا. لقد صار اللقب علامة حديثة تميز بين الوجهين البحري والقبلي، وهي علامة غريبة في ظل عصر يقوم على التشابه والانصهار في بوتقة حضارية واحدة.
خُط الدلتا
خط الصعيد علامة لا تخلوا من دلالات تتعلق بأوضاع الصعيد بشكل عام وعلاقتها بمنظومة الدولة، لماذا يوجد (خط الصعيد) ولا يوجد (خط الدلتا)؟
يرجع لقب « الخُط» إلى محمد منصور، أخطر مجرم في سجلات وزارة الداخلية. وقد بلغ شأنه حد اهتمام الملك فاروق بمحاولات القبض عليه، وقد قام رئيس الوزراء بعقد اجتماع تحت رئاسته لوضع حد لتحدياته، وسطوة صورته المرعبة، وقد لقي مصرعه على يد الشرطة سنة 1947، وصار أبا مؤسسا لصورة المجرم الصعيدي في أكثر تجلياتها ضراوة.
شهرة محمد منصور ارتبطت بحدود دائرة محل إقامته في أسيوط. كما ارتبطت بدائرة النخبة التي كانت تقرأ وتكتب وقتها، وتتابع أخباره التي تنشرها الصحف والمجلات. وفي بقية الصعيد لم يكن معروفا إلى الحد الذي يجعل أحد الأشخاص ينتسب إليه، ويترك لقب العائلة أو القبيلة التي ينتمي إليها.
اللقب باختصاري إعلامي، شبه رسمي، رغم أن الأخبار تنسب للمجرمين تسمية أنفسهم بالخط، أو اعتزازهم باللقب، لكن الثابت هو نشر أخبار المجرمين باسم الخط.
لقب وقناع
تختلف رمزية اللقب باختلاف المانح، فالشخص نفسه حين يتباهى باللقب فهو يحصر الدلالات الرمزية في القوة، والبطولة، والشجاعة وغيرها من الصفات الإيجابية. أما حين يصدر اللقب عن مؤسسة عامة، رسمية أو شبه رسمية، فهو يعني الفوضى، والجريمة، والانحطاط الإنساني في أبشع صوره.
اللقب هنا يعني استدعاء صورة محمد منصور بكل أصدائها الأسطورية، لتلعب دورا في منع تعاطفنا بشكل سحري مع المجرم الجديد. وتدفعنا للنظر إلى سقوطه باعتباره انتصارا للعدالة.
تنظيم الفوضى
لقب «الخُط» قناع يدمج صاحبه مع صاحب اللقب الأصلي في كيان واحد، يجرده من خصائصه المميزة، وينقل إليه صفات السلف القديم، وذكرياته، ومصيره المحتوم. اللقب يلعب دورا في تنظيم الفوضى، لأنه يضع أشقياء الصعيد في نمط بعينه، ويجعل من سجلهم الإجرامي سجلا طبيعيا. كما يجعل مصيرهم طبيعيا، هم شيء واحد مهما كانت الفروق التي تميز حياة أو موت كل واحد فيهم.
وإذا كانت رمزية اللقب تعتمد على الثقافة الشعبية بأبعادها المسيحية والإسلامية، إلا أن أصلها الكاشف نجده في ثقافة مصر القديمة، والتي احتفت بالأسماء والألقاب احتفاء كبيرا، وجعلت لها وظائف دينية وقانونية وسحرية كبيرة.
مصر القديمة
لقد كان تبديل الأسماء في مصر القديمة نوعا من العقاب، وهذا ما نجده في وقائع محاولة اغتيال الملك رمسيس الثالث، وكانت أول خطوة لعقاب المجرمين هي تغيير أسمائهم لتعكس صفاتهم الكريهة.
على سبيل المثال أطلق على أحد المتآمرين اسم (الذى يبغضه رع), و على آخر اسم (الشرير في طيبة) و على ثالث اسم (الشرير).
لقد كانت الأسماء البغيضة في حد ذاتها عقابا للمجرمين. وكان محو الاسم الأصلي أليما جدا. لأن خلود الاسم ضروري لكى يخلد صاحبه. وحين يفقد المتوفى اسمه و يمحى أو ينسى فان ذلك يعنى الموت الثاني, و هو ما يعنى فناؤه؛ بمعنى فقدانه لهويته الفردية في العالم الآخر.
لا ينجح لقب الخط في تجريد المجرم من اسمه الأصلي. لكنه يزاحمه، ويسرق منه الضوء، ويعكس صورته الكريهة، ويفقده هويته كإنسان عادي، ويظل نوعا من العقاب، وطقسا يدمجه ـ بشكل سحري ـ في سلالة هؤلاء الذين يستحقون الفناء.
اقرأ ايضا:
أبوفياض: خط الصعيد الجديد بين نار الدولة وجنة القبيلة
خصومات الصعيد وفن التحطيب بالبندقية