«الجميع خائفون»
بعد هدم قبة كلزار.. لماذا تخلى أساتذة الآثار عن مسئوليتهم تجاه التراث؟

تستمر أعمال هدم المقابر التاريخية داخل جبانة الإمام الشافعي رغم وعود المسئولين بالحفاظ على الجبانات إلا أن النزف مستمر، وكانت قبة كلزار آخر الضحايا.
وكان الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء قد أعلن في أكتوبر الماضي بوقف هدم المقابر، عقب انتشار صور هدم قبة «نام شاز قادين». الصورة التي استفزت ملايين المصريين دفعت رئيس الوزراء للاعتذار عما حدث مع وعود أن الواقعة لن تتكرر، بجانب التأكيد على إيقاف أية عمليات هدم داخل نطاق الجبانات.
لكن في الواقع تبين أن هذه التصريحات لم تكن سوى مُسكن لامتصاص غضب الشارع، إذ استمرت أعمال الهدم بشكل أكبر، بل وصلت بلدوزرات الهدم إلى شارع ابن الفارض والطحاوية بمنطقة الإمام الشافعي (وفقًا لشهادات المهتمين بتراث القاهرة فقد تم منع أي محاولة لتصوير ما يجري داخل الجبانات ضمانًا لعدم تكرار مشاهد انتشار صور الهدم).
من جانبها اكتفت وزارة الآثار بالصمت، بل أعاقت تسجيل المقابر الفريدة داخل منطقة الإمام الشافعي. الأمر الذي دفع رانيا الشيوي مدير عام منطقة الإمام الشافعي للآثار للاعتذار عن منصبها في خطاب رسمي أرسلته للأمين العام للمجلس الأعلى للآثار الدكتور محمد إسماعيل بتاريخ 21 إبريل من العام الماضي بررت فيه اعتذارها عن إدارة المنطقة نتيجة طلباتها المتكررة بتسجيل المدافن الأثرية في المنطقة (تراجعت فيما بعد عن القرار بعد تدخل الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار وهي تشغل حتى الآن منصب مديرة منطقة آثار الإمام الشافعي)، لكن ورغم مرور ما يقرب من عام على قرارها إلا أن الوزارة أصرت على تجاهل تسجيل الآثار داخل المنطقة. واكتفت الوزارة بـ«تشوين» والسماح بتخزين بعض شواهد القبور ضمن مخازنها إلى حين نقلها إلى «مقبرة الخالدين»!
على الجانب الآخر لم يكن حال أساتذة الآثار والتراث أفضل حالًا من المسئولين داخل وزارة الآثار إذ اكتفى معظمهم -أيضًا- الصمت بدون إبداء أي تفاعل مع قضايا هدم التراث القاهري. هنا طرحنا المشكلة على بعض المتخصصين بهدف محاولة فهم وتفسير ما يحدث، وكذلك معرفة رأيهم في استمرار أعمال هدم مقابر القاهرة.
صورة فجة
سألنا في البداية على الدكتور محمد الكحلاوي أستاذ الآثار الإسلامية وعضو اللجنة العليا للتخطيط التابعة لمجلس الوزراء ورئيس اتحاد الآثاريين العرب وقلنا له.. لماذا الصمت من جانب أساتذة الآثار داخل الجامعات المصرية؟ أجاب: لا تسأل أو تتوقع من موظف «قاعد» على كرسي أيًا كان منصبه سواء عميد كلية، أو وكيل كلية، أو رئيس قسم، أو معيد أن يصدر بيانًا يدين فيه ما يحدث، لأنه ما دام موظفًا فلن تجد منه أي تصريح. الوحيد الذي فعل هذا كان الدكتور عليّ رضوان وهو أخر العظماء الذين كانوا لا يرجون لمصر إلا الخير. لكن بشكل عام وللأسف الشديد فقد تم تكتيف وتقييد الجامعات المصرية بصورة كاملة، والجميع يعلم السبب، لهذا لن تجد شخصًا يحاول الاعتراض عما يحدث من وقائع تدمير للتراث المصري، لأن كل ما يهمه هو الحصول على الترقيات وضمان استمراره في منصبه».
وبخصوص إزالة الجبانات قال إنهم كلجنة عليا للتخطيط رفضوا كافة أعمال الهدم التي تحدث داخل القاهرة. يقول: «الموضوع أكبر منّا إذ إننا لا نملك السلطة لمنع الهدم، فالقرارات يتم اتخاذها دون مراعاة للقيم الفريدة لتلك المواقع بل يتم تجاهل آراء المختصين. فعندما عرض علينا مشروع مقبرة الخالدين رفضناه أيضًا. ورغم هذا هناك استمرار لحالة الهدم واختراق الجبانات بواسطة الكباري ومحاور مرورية تهدد نسيج المدينة.
وهذا أيضًا ما قاله المهندس الدكتور ماهر استينو عندما ذكر أن العالم المتقدم لا ينفذ محاور مرورية سريعة داخل أيًا من المدن التاريخية بينما تكون مثل هذه المشروعات على أطراف المدن. فهدم قبة كلزار أمر يصعب استيعابه وموظفو الآثار لا يعنيهم الأمر. انظر لما فعلوه في مقعد الأمير ماماي السيفي ورؤيتهم لفكرة إعادة الاستخدام، هذه عملية «إفلاس» والهدف منها جلب المال بأي طريقة من خلال إعادة استخدام المواقع الأثرية بصورة مشينة! لقد تركوا الآثار التي من المفترض أن يحافظوا عليها.. تركوها للشركات الاستثمارية كي تتنازع عليها، وهذا ما حدث بصورة فجة داخل قلعة صلاح الدين الأيوبي.
موقف سلبي
وعن مقترح إنشاء مقابر الخالدين أجاب: ما يحدث تهريج. أنا ضد هذه التسمية أصلًا. من هو الخالد؟ ومن سيحكم في الأمر؟ المقترح أصلًا كان محاولة لتبرير الموقف السلبي بشأن هدم المقابر؛ لذلك كان المقترح هو تنفيذ مقابر للخالدين على غرار مقابر باريس. لقد سبق أن رفضنا عملية نقل قباب تراثية، وفشلت محافظة القاهرة في استصدار قرار موافقة من جانب المجلس الأعلى للتخطيط على هذا المشروع. نحن الآن نخسر منطقة فريدة لن يتم تعويضها أبدًا. والقاهرة التاريخية بشكل عام يتغير وجهها بصورة كاملة. أرى أنها لن تصبح مدينة تاريخية بل ستكون مدينة عشوائية. وسبق أن قلت منذ عام أنه إذا استمر الهدم فيها بهذه السرعة فلن يتبقى أي أثر داخلها خلال 50 سنة مقبلة، بينما الواقع يقول إنني ربما كنت متفائلًا لأنه على الأرض تم محو جزء كبير جدًا داخل القاهرة خلال العام الأول من الخمسين الذين ذكرتهم.

ويضيف الكحلاوي: أما بخصوص ما يحدث داخل منطقة الإمام الشافعي وغيرها من مخططات. فهناك نية لتغييرها ورفعها من داخل المدينة بغض النظر عن تسجيلها من عدمه سواء في اليونسكو أو غيرها من جهات مصرية ودولية. لذلك رفضنا أيضًا داخل اللجنة العليا للتخطيط كافة الاعتداءات على التراث المصري، ومنها هدم المقابر وتنفيذ مشروعات عملاقة داخل القاهرة التاريخية.
خوف جماعي وإذعان عام
الدكتورة جليلة القاضي أستاذة التخطيط العمراني بجامعات باريس ترى أن المشكلة في الوقت الحالي وفي السنوات الأخيرة أن الحكومة لم تكن أبدًا صادقة ولم تتمتع بالشفافية. تقول: «لم تعطينا الحكومة أيًا من المخططات المزمع تنفيذها داخل المنطقة، هذا بجانب أن ما يحدث داخل جبانة الإمام الشافعي كارثة. كارثة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فضلًا عن تخوفنا من أن يمتد التطوير إلى الجبانة الشرقية، وباب الوزير. فخطورة ما يحدث أنه لا يوجد أحد يريد التحرك على الأرض لأخذ موقف حقيقي وواضح. «لقد تخلى أساتذة الجامعات والمخططين والمعماريين عن دورهم في الحفاظ على تراث مصر، الجميع خائفون، وأيضًا اللجنة التي شكلتها نقابة المهندسين دفنت وشبعت موت قبل أن تظهر نتائج تحقيقاتها أو رأيها الاستشاري».
ترى جليلة أن صمت أساتذة الجامعات والمعماريين سببه هو حالة الموت الإكلينيكي الذي تعرض له المجتمع ككل في السنوات الأخيرة. تقول عنه: الأمر لا يقتصر على مصر وحدها بل موجود في العالم كله. داخل أوروبا مثلًا هناك نقاشات حاليًا تخص نجاح تكميم الناس وقت جائحة كورونا والنجاح في السيطرة على الناس تمامًا واستغلال حالة خوفهم من انتشار المرض؛ لذلك يجري الآن دراسة حالة الإذعان التي تعرض لها الناس، وتطبيقها على الوقت الحالي بأدوات أخرى، لأن الهدف الحقيقي هو صرف انتباه الناس عما يحدث.
في فرنسا مثلًا هناك الكثير من المشاكل الحياتية، لكن تحركات المجتمع ليست على مستوى ما يتعرضون له؛ لذلك فهناك حالة كاملة من الموت والاستسلام لكافة المجتمعات، وهذا ما يحدث أيضًا داخل مصر الآن، والظاهر أن التعنت وعدم الاستجابة يجعل الناس يفقدون الأمل في نهاية الأمر، وعلى الجانب الآخر تتعرض الشعوب كلها لمطرقة الإعلام، سواء في مصر أو في أوروبا – لذلك فتأثير الإعلام أصبح سلبيًا لأنه يناقش قضايا ليست على أولويات المواطن، وهذا كله يردنا لفكرة الصمت عن هدم المقابر والجبانات!
وزارة شطب الآثار
المهندس محمد أبو العمايم الباحث الأسبق بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية، وعضو اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية الأسبق قال: قرافة مصر والتي تبدأ من السيدة نفيسة وحتى سيدي عقبة هي جبانة مصر الأولى والكبرى، وكانت في العصور الوسطى مزارًا يأتي إليه الناس من جميع بلدان العالم الإسلامي لما تحويه داخلها من رُفاة مشاهير وعلماء العالم الإسلامي بجانب الصحابة والتابعين المدفونين داخلها. ومن أجل هذا جرى تأليف كتب الزيارة والمؤلفات التي يعاد طبعها في الوقت الحالي من جانب المعهد الفرنسي.
يؤكد أبو العمايم أنه كان من الممكن الاحتفاظ بالقبة بدلًا من هدمها، وكذلك الحفاظ على كافة المباني الفريدة الموجودة بالمنطقة. «للأسف هذا لم يحدث. بل بالعكس جرى سرقة الشبابيك والتراكيب الرخامية لكثير من المباني الفريدة. لهذا أرى أن ما حدث مذبحة ومجزرة للآثار الإسلامية وسط صمت وتفريط سلطة الآثار. هذا بجانب تقاعس وزارة الثقافة، وكافة الجامعات المصرية».
يرى أبو العمايم أن بداية مشكلة التوقف عن تسجيل الآثار بدأت عقب سنة 1954 وذلك عندما جرى شطب العديد من الآثار المسجلة بحجة عدم توفر ميزانية للترميم. يقول: «رغم هذا فقد بقيت الخانقاه النظامية حتى الآن والتي تعود لعصر السلطان حسن، والتي أعيد استخدامها في عهد الفرنسيين الذين استعملوها كطابية عسكرية. وقد توقف التسجيل تمامًا باستثناء فترة فاروق حسني. وعندما كنت موظفًا في قطاع الآثار وخلال فترة تولي أحمد قدري للهيئة طالبوا بتسجيل مجموعة من الآثار، وهنا تقدمت بقائمة تضم قرابة 840 أثرًا يستحقوا التسجيل لكن ظل القرار حبيس الأدراج».
ويكمل: بالنسبة للقرافة فقد جرى تقسيمها خلال أربعينيات القرن الماضي لمناطق مثل: «منطقة الإمام الشافعي، عمر بن الفارض، والسادة الوفائية.. وغيرهم»، وحاليًا يتم هدم أحواش داخل القرافة تعود للقرن الـ 19 وهي لأعلام وعظماء وباشوات وقادة حرب قادوا حروبًا كبرى كحرب القرم وغيرها. لذلك المفترض أن تقوم وزارة الآثار بتشكيل لجان متخصصة وعمل مسح فوري للأرض وإثبات أن الأرض بما عليها على السطح وما تحمله بداخلها أرض أثرية بالكامل وأنها لا يجب أن تمس.
تراكيب رخامية فريدة
ويستطرد: جميع الجبانات في أوروبا والعالم تحولت بمرور الزمن لأماكن زيارة لا تمس أبدًا فمدينة إسطنبول مثلًا تضم داخلها ما يقرب من 90 جبانة، ولم يفكر أحد في تحويلها لشوارع. لكن المشكلة أن هيئة الآثار لم ترد الدخول في أيًا من معارك الحفاظ على القرافة. فالقرافة وأحواشها عبارة عن متحف نظرًا لما تضمه داخلها من تحف فنية وكتابات لا نظير لها. ولو تمت داخل المناطقة حفائر حقيقية سنجد أنها تضم داخلها آثارًا تعود للعصور الأولى.
ويضيف: حاليًا يتم محو قلب القرافة. وللأسف هناك صمت تام من أساتذة الآثار في مصر لا أعرف سببه. والمشكلة أيضًا أن كل ما يجري في المنطقة يتم بدون أي أعمال مسح من جانب منطقة الإمام الشافعي للآثار الإسلامية. أما فيما يتعلق بقبة كلزار والتي جرى هدمها مؤخرا فهي قبة خشبية فريدة من نوعها والوحيدة المتبقية من نوعها وزخارفها تشبه لحد كبير التكية المولوية وهي تعود لعصر محمد علي باشا. كما تحوي على تراكيب رخامية فريدة تشبه التراكيب الرخامية الموجودة داخل حوش الباشا.
اقرا أيضا:
أنقذوا «حنكوراب».. إنشاء فندق سياحي يهدد محمية «وادي الجمال»