الثأر في القاهرة: الخصوصية والقيمة الرمزية (1-4)
تؤكد مذبحة حدائق القبة، خطأ ربط الممارسات الثأرية بصعيد مصر وحده، والحقيقة أن العاصمة لم تكن خالية من الممارسات الثأرية. وهناك وقائع كثيرة جرت في العاصمة. ويمكن توزيع تلك الوقائع على ثلاثة أقسام هي:
1ـ القاهرة كمسرح للثأر: في تلك الحالة تنشأ الخصومة الثأرية خارج العاصمة، لكن القاتل يلجأ إليها هربا من الثأر، ويختبئ في زحامها فترة قد تطول وقد تقصر، إلى أن يتمكن أهل القتيل من العثور عليه وقتله هناك.
2ـ القاهرة كمكان صعيدي: في تلك الحالة يكون أطراف الخصومة من الصعايدة الذين انتقلوا إلى العاصمة. ويعيشون في الغالب على الأطراف. أو في شكل تكتلات ببعض المناطق الفقيرة. وهنا يكون المكان قطعة من الصعيد. صحيح أن المهاجرين يتفاعلون مع الواقع الجديد، ويتأثرون به ثقافيا، لكنهم يحتفظون بالكثير من مظاهر هويتهم ومنها إيمانهم بالثأر.
**
وتوجد وقائع كثيرة في هذا الشأن و ومن أشهرها مذبحة التجمع الخامس، والتي حدثت أثناء عودة أهالي أحد المتهمين بالقتل بعد تجديد حبسه في مجمع محاكم القاهرة الجديدة. حيث قام أهالي القتيل الذين ينتمون إلى محافظة المنيا ويقيمون في منطقة بركة الحاج في المرج، باعتراض سيارتهم ممسكين ببنادق آلية وأمطروهم بالأعيرة النارية، وقتلوا خمسة أفراد وأصابوا آخرين. فقام أهالي الضحايا الذين ينتمون إلى محافظة القليوبية عقب دفن جثث ذويهم، بحمل الشوم والمولوتوف والسكاكين وفرد الخرطوش، إشعال النيران في المنازل والمخازن المملوكة للصعايدة في المنطقة كلها بدون تمييز، وذلك بشوارع مؤسسة الزكاة، وشارع التروللى وعمر بن الخطاب وأحمد حسن وخالد بن الوليد ومحمود ربيع. الأمر الذي نتج عنه حدوث إصابات نتيجة الطعن والحرق وسرقة محتويات مخازن النحاس وتدمير كل ما يمتلك الجناة من منازل ومخازن والتي كانوا قد غادروها قبل ارتكاب المذبحة والتي يبلغ عددها وفق جريدة الأهرام “تسعة عشر منزلا ومخزنا الأمر الذي تحولت معه منطقة المرج إلي كتلة من اللهب”{1}
3ـ القاهرة كمكان ثأري في حد ذاته، وفي تلك الحالة يكون أطراف الخصومة من أبناء المدينة. وقد تكون لبعضهم جذور تربطهم بالصعيد لكنهم لا يعيشون في تكتلات عائلية بحيث تغلب هويتهم كصعايدة هويتهم كأبناء مدينة. وهناك حالات ثأرية كثيرة تقع في ذلك الإطار، لكننا نسكت عنها، ولا نتابعها جيدا، بخلاف الوقائع الثأرية التي تحدث في الصعيد. ربما لأن الثأر في الصعيد أقل تعقيدا، ويرتكز على مواقف واضحة وموروث حي، وربما لأننا نريد ربط الثأر بالصعيد وحده كي نبرر تخلفه في مجال التنمية. وعلى أي حال تبقى الوقائع الثأرية في العاصمة جديرة بالرصد والتأمل لبيان حجمها، وخصوصيتها، ومؤشرات صعودها وهبوطها، ومدى اتفاقها واختلافها عن الثقافة الثأرية في الصعيد.
العبرة بالقيمة الرمزية
وإذا كان الثأر يرتبط بجريمة القتل إلا أنه يحتاج إلى ظرف خاص يتمثل في القيمة الرمزية للقتل، وتلك القيمة لا تنبع من أطراف الخصومة فقط بل من المجتمع ككل. وهي ترتفع وتنخفض نتيجة أسباب تتعلق بطبيعة القتل والقاتل وولي الدم، فالقتل خطأ غير القتل العمد، والقتيل الذي يسقط أثناء ارتكاب جريمة كالسرقة غير القتيل الذي يسقط في مشاجرة، وانتماء القاتل إلى محيط الأسرة يختلف عن انتمائه إلى خارجها. فعندما يكون لصا عابرا، لا نعرف أقاربه، ولا تجمعنا به أية علاقات اجتماعية يختلف أمره عن القاتل الذي ينتمي إلى الجوار وتربطنا به منافسات أو صراعات. كما أن ولي الدم الذي يعيش في محيط يخلو من الجو العائلي، غير ولي الدم الذي يعيش بالقرب من أهله، ويتمتع بجذور قوية تربطه بالمكان.
وعندما ننظر إلى جرائم القتل في القاهرة سوف نجدها في الغالب تفتقد إلى قيمتها الرمزية. أي أنها لا تستفز الثقافة الثأرية بحكم طبيعتها لا بحكم ضعف الثقافة الثأرية.
وقائع قليلة واستعدادات خفية
نفتقد إلى إحصائيات رسمية تحتوي على معلومات كافية عن جرائم القتل وطبيعتها وأدواتها وأطرافها ومآلها القانوني. ولهذا سوف نلجأ إلى رصد جرائم القتل التي ظهرت في الصحف لتكوين فكرة مبسطة عنها. وسوف نكتفي بجرائم القتل التي حدثت في مثل هذا الشهر من العام الماضي (سبتمبر 2021) وفق ما ورد في بوابة الأهرام {2}.
وصل عدد جرائم القتل في القاهرة الكبرى إلى 34 جريمة قتل، ارتكبها 42 متهمًا، بينهم 11 سيدة وطفل. فيما بلغ عدد الضحايا 34 قتيلًا بينهم 11 سيدة و5 أطفال. أي أن عدد السيدات والأطفال بلغت نسبته 47% من إجمالي الضحايا.
وتنوعت دوافع القتل وتوزعت على تسعة دوافع، جاءت كالآتي: خلافات زوجية وأسرية وعائلية (14 جريمة)، السرقة (5 جرائم)، مشاجرات عادية (3 جرائم)، خلافات مالية (3 جرائم)، علاقات غير شرعية (جريمتان)، تربية الأبناء لسوء السلوك (جريمتان)، خلافات الجيرة (جريمة واحدة)، الثأر (جريمة واحدة)، المزاح (جريمة واحدة)، فيما تتسم جريمتان بالغموض.
**
شهدت القاهرة، وقوع 8 جرائم قتل نصفها في حي مصر القديمة. حيث قام شاب بقتل شقيقته بعدما اقترضت منه مبلغا ماليا ورفضت سداده. وقام شاب آخر بقتل صديقه بطعنه في الرقبة بسبب خلافات مالية بينهما. وقام أب وأم بقتل طفلهما أثناء ضربه بسبب سوء سلوكه. كما لقي طفل آخر مصرعه على يد والده لنفس السبب.
في مدينة بدر، قامت فتاة بقتل أمها المُسنة طعنًا بآلة حادة، لخلافات بينهما. وفي عين شمس. عثر الأهالي على كرتونة تخرج منها رائحة كريهة وبها أشلاء آدمية لشاب، بجوار صندوق قمامة بمنطقة الألف مسكن، بسبب علاقات غير شرعية بسيدة متزوجة حيث قامت باستدراجه إلى الشقة وباغتته بالضرب بقطعة خشب على رأسه. وقامت بمساعدة زوجها وابنها بتقطيعه وإلقاء الجثة بعدة مناطق.
ولقي شاب مصرعه بعيار ناري بالبطن في المرج، بعد مشادة كلامية مع صاحب محل موبيليا. وفي السلام، سقط صاحب فرن قتيلًا، بعد إطلاق الرصاص عليه من مجهول.
شهدت محافظة الجيزة 23 جريمة قتل، نفذها 27 متهمًا بينهم 7 سيدات وطفل، وراح ضحيتها 23 شخصًا بينهم 7 سيدات و3 أطفال.
**
شهدت مدينة 6 أكتوبر قيام تاجر بضرب زوجته حتى فارقت الحياة. وقام لصٌ بقتل خفير بسلاح ناري، أثناء سرقة موقع بناء، تحت حراسته. وقتل شاب بسلاح أبيض، خلال محاولته فض مشاجرة بين شخصين. وفي الشيخ زايد قام شاب بقتل مسن لسرقته، خلال ممارستهما الشذوذ.
أما كرداسة قتل مُسِنٌّ يعمل في تجارة الخردة، بسلاح أبيض، لسرقة الخردة. وقتل عاملٌ عشيقته ضربا حتى الموت، واستعان بشقيقه للتخلص من جثتها. كما قام مجهول بقتل سيدة عثر على جثتها ملفوفة في ملاءة، وملقاة بجانب الطريق.
قام عاملٌ بقتل صديقه بعيار ناري في العياط، بسبب خلاف على التنقيب عن الآثار. وفي الحوامدية قتل شخص بحجر، خلال مشاجرة بين عائلتين.
وبمنشأة القناطر قتلَ طالبٌ صديقه أثناء وصلة مزاح بالضرب. وقام رجل بقتل زوجته بآلة حادة وأشعل النار بنفسه. وفي العمرانية قتلت أم مريضة نفسيا ابنها. وقام فني دش بقتل عجوز، بكتم أنفاسها، لسرقتها.
وقتل رجل في الهرم على يد زوجته وابنته وخطيبها، وألقوا جثته في القمامة وأحرقوها. كما قتل عاملٌ زوجته طعنا بسلاح أبيض بسبب خلافات أسرية، كما قتل طفلٌ عمره 5 سنوات بيد شقيقه، بعدما اعتدى عليه بسلاح أبيض، أثناء لعبهما. وقامت سيدة بقتل نجار حرقا. وقام بائع خضار بضرب زوجته حتى الموت، بسبب خلافات أسرية.
**
قتلَ شابٌ في أوسيم والده المسن بزجاجة، بسبب خلافات بينهما. وفي الحوامدية قَتَلتْ فتاةٌ رضيعها من السفاح، وألقت جثته في القمامة.
طعنت ربة منزل طفلتها بسكين بسبب بكائها في بولاق الدكرور، وقتل شاب وسط أصدقائه، بعدة أعيرة نارية، على يد شخصين بسبب خلافات بينهم. وفي الوراق قام عاطلٌ وزوجته بقتل سائق توك توك خنقا، وتخلصا من جثته بنهر النيل لسرقته.
شهدت القليوبية في سبتمبر، وقوع 3 جرائم قتل، ارتكبها 5 متهمين بينهم سيدة، وأسفرت عن مقتل 3 ضحايا بينهم سيدتان.
أما قليوب، فقامت ربة منزل بقتل زوجها وتقطيع جسده إلى ثلاثة أجزاء وإلقائها في ترعة، بمعاونة عشيقها. وعثر على فتاة مقتولة في منطقة زراعية، مع سرقة ذهبها وهاتفها. وفي بنها. قام رجل بقتل زوجته بسبب خلافات أسرية بينهما. ونقل الجثة بتروسيكل صديقه إلى مقابر الصدقة.
تلك هي جرائم القتل التي حدثت في شهر سبتمبر 2021 بالقاهرة الكبرى، وفق ما نشرته بوابة الأهرام. وهي لا تكفي لإعطاء صورة كاملة عن القتل والثأر، لأن الجرائم تختلف من شهر إلى آخر، لكنها تكفي كمؤشر عن طبيعة جرائم القتل وأسبابها.
**
أول ما يعنينا هنا هو وجود القتل الثأري في حالة واحدة فقط. وهذا يعني انخفاض معدل جرائم الثأر، لكن ذلك لا يعني انخفاض الثقافة الثأرية أو الاستعداد للثأر، لأن أغلب وقائع القتل في المدن لا تحتاج إلى الثأر. وهناك عدد كبير من جرائم القتل حدث في نطاق الأسرة. وعدد من الجرائم حدث بسبب الشرف. وثالث حدث بسبب السرقة. وهناك جرائم مجهولة الفاعل. وفيها من قتل نفسه بعد ارتكاب الواقعة. أي أن غالبية الوقائع تفتقد إلى القيمة الرمزية الكافية للثأر. أي أنها جرائم القتل في القاهرة لا تستفز الثقافة الثأرية بحكم طبيعتها لا بحكم ضعف الثقافة الثأرية، التي تظل كامنة لتظهر في الوقت المناسب في أكثر صورها وحشية وشراسة.
لا يمكننا الحكم على الثأر في القاهرة من خلال البيان العددي وحده، وإنما من خلال الظروف التي تستدعيه مثل التكتلات العائلية في المناطق الشعبية، ومدى إيمان الناس بجدوى الحل القانوني لمشكلاتهم، وظهور فئة مثل فئة البلطجية التي تتسع وتتكاثر مع خروج السجناء بعد قضاء العقوبة إلى عالم البطالة بدون أي رعاية اجتماعية كما كان يحدث في السابق.
أما الحديث عن خصوصية الثأر في القاهرة. فيتطلب رصد الحالات الثأرية ودراستها بشكل كاف للخروج بملامح وسمات تلك الخصوصية، وهو ما سوف نحاول القيام به في مناسبة أخرى.
هوامش
1ـ هاني بركات ومحمد صبري، ضبط 2 من مرتكبي مذبحة التجمع الخامس وسقوط الباقين خلال ساعات، جريدة الأهرام، الخميس 22 من ربيع الاخر 1433 هـ، 15 مارس 2012 السنة 136 العدد 45755.
2ـ مصطفى عيد ذكي، جرائم القتل في القاهرة الكبرى تسجيل 34 واقعة خلال سبتمبر، بوابة الأهرام، 8/10/2021.
اقرأ أيضا
الشاعر لا يكذب أبدا: خرافة السراب الجميل