التزوير والتزوير المضاد: حكاية بناء بني هلال لجامع السلطان حسن
نعرف أن التاريخ الرسمي كثيرا ما امتلأ بالتزوير، منذ أقدم العصور، ومن أشهر الأمثلة ما فعله تحتمس عندما طمس تاريخ الملكة حتشبسوت، وقام بإزالة صورها من الآثار والنقوش والتماثيل والخراطيش والقائمة الرسمية للحكام في مصر.
وهناك الكثير من الحكايات المشابهة، والتي قام فيها الحاكم بتزوير التاريخ. لكن الغريب، هو قيام الجماعة الشعبية نفسها بتزوير التاريخ. وقد اهتممنا كثيرا بالتزوير الرسمي، ويجب أن نهتم بالتزوير الشعبي المضاد.
نعرف أن التاريخ الرسمي كثيرا ما همش الشعوب، وقام بنفيها خارجه، ولم يُبق منها إلا ما كان ضروريا لرسم الصورة الرسمية للحاكم الذي يجب أن يعظمه التاريخ الرسمي مهما تسبب في المظالم أو الكوارث.
نفس الأمر تقوم به الجماعة الشعبية. حيث تقوم بتجريد الحاكم من أهم رموزه، وآثاره، وتنسبها لنفسها، وبشكل يتعارض مع التاريخ الرسمي الثابت بمنتهى الفجاجة.
هذا ما فعلته السيرة الهلالية، عندما استولت على جامع السلطان حسن، وقامت بتحريف التاريخ وجعل الجامع من منشآت بني هلال.
***
ومن المعروف أن جامع السلطان حسن يعتبر من أعظم ما شيده البناؤون المصريون، ويأتي في مقدمة المساجد الجامعة التي جمعت بين روعة العمارة وشموخ المآذن. لدرجة أنه يعد فريدا في مفرداته المعمارية كمسجد ومدرسة وخدمات عامة، ليس في مصر فقط. وإنما في كل العالم الإسلامي.(1)
لقد خلد السلطان المملوكي (حسن بن محمد بن قلاوون 735 هـ 1334 م / 762 هـ ت 1361م) ببناء هذا المسجد الكبير الذي لا نظير له في كل العالم الإسلامي. كي يقوم بتخليد نفسه، ويُدفن فيه بعد موته.
واللافت للنظر أن هذا السلطان المملوكي لم يكن من السلاطين الذين أشاعوا العدل. وما كتب عنه في المصادر التاريخية لا يجعله في صفوف الحكام العظام. لدرجة أنه حينما عزله شقيقه الملك الصالح لم يُعرف مكان وفاته أو قتله، ولم يعرف له قبر. لكن بقى مسجده علامة بارزة في تاريخ العمارة الإسلامية.(2)
هذا هو التاريخ الرسمي الثابت، لكن الجماعة الشعبية لها تاريخ آخر. قد يخالف المنطق، لكننا يجب أن ننظر إليه بمنظار رمزي، لأن الصياغة الشعبية تحمل دلالات جوانية معقدة، ولا تحمل معلومات تاريخية بمعنى الكلمة.
***
تعيد السيرة الشعبية كتابة تاريخ هذا الجامع العظيم، وتنسب لبني هلال قيامهم بإنشائه. وذلك في طريقهم إلى تونس، عندما توقفوا في مصر. ونشب الصراع بينهم وبين حكمها الذي تتجنب نسبته إلى حاكم معروف تاريخيا، وتختار له اسما على مزاجها، وهو “فرمند مصر”.
تذهب السيرة الهلالية إلى قيام الحرب بين الهلالية وفرمند مصر وابن أخته الأمير محمود، إلى أن قتل أبو زيد محمودًا، وسقطت القاهرة في أيدي الهلالية الدخلاء. يقول النص:
«فلما رأى المصريون تلك الأحوال خابت منهم الآمال، وأيقنت الهلاك والوبال، واجتهدت أن تخلص جثة ملكها فما قدرت، وقد أهالها ما رأت وأبصرت وامحلت عزايمها، وتأخرت واشتد عليها الحصر، وخاب أملها في النصر. فرجعت وهي على أسوأ حال لا تعرف اليمين من الشمال، فتبعتهم بنو هلال على الأقدام، وفي مقدمتهم أبو زيد ودياب وزيدان شيخ الشباب، وحكموا فيهم ضرب السيف القرضاب على الأجسام والرقاب، حتى دخلوا البلد وهم في حالة الذل والنكد. فلما رأت أكابر المدينة والأعيان ما جرى، وكيف أن الفرمند شرب كأس الهوان، وما خرجوا إلى عند السلطان حسن بن سرحان، وطلب منه العفو والأمان، فأجابهم إلى ذلك الشأن، وأوصى الأبطال والفرسان، لا ينهبوا من أمتعة المدينة لا رخيصة ولا ثمينة، بل يكونوا في هدوء واحتشام إكرامًا لمزارات الأولياء، ومقامات العلماء والعظماء.
وكان للفرمند، ولد مقتدر اسمه الأمير منذر، فأحضر إليه قبلة بين عينيه، ثم ولاه مكان أبيه بحضور أكابر البلد والذوات والعمد بعد أن أوصاه أن يتصرف بحسن السلوك، ويتخلق أخلاق الملوك. ثم قامت الأفراح، وزالت الهموم والأتراح، وكان السلطان حسن قد استحسن مصر كل الاستحسان لكبرها، وما فيها من الأبنية الحسان. فصمم أن يبني له فيها على اسمه جامعًا ليكون ذكرى له على طول الزمان، فأمر البنايين والمهندسين ببناء الجامع المذكور في ظرف ستة شهور، فأجابوه إلى ذلك المرام. وبعد أن تم بتمام، أمر أن يفرشوه بنفيس الفرش، وينقش حيطانه بأحسن النقش، فامتثلوا أمره في الحال كما قال. فكان جامعًا عظيم المنال، يزهو كالهلال، وكان مكتوب على بابه بالذهب هذا جامع الأمير حسن الهلالي سيد العرب».
وبالطبع، فإن الجامع ما يزال قائمًا إلى أيامنا — كما ذكرنا — ويعرف بجامع السلطان حسن.(3)
***
لماذا قامت السيرة الشعبية، بمحو أثر السلطان المملوكي، وضم أثره العظيم إلى مقتنياتها. وكيف تجرأت على مخالفة التاريخ على هذا النحو الصارخ؟
يجب أن نتخلى عن المنطق في إدراك سلوك الجماعة الشعبية. يجب أن نتخلى عن التفسير الحرْفي لهذا السلوك، لأنه ينتمي إلى عالم الرمز لا الواقع الفعلي.
يمكننا الإجابة على السؤال بانتقام الجماعة الشعبية من الحكم المملوكي بشكل عام. وذلك بمحو اسمه والحكم عليه بالغياب في عالم النسيان. وقد اختارت السلطان حسن بن قلاوون بعناية، لأنه أولا لم يكن عادلا. وثانيا لأنه ترك أثرا كبيرا يعبر عن عظمة العصر المملوكي بشكل عام.
فكرة التمرد الشعبي أو الانتقام الشعبي الذي تحقق في حلم الجماعة الشعبية المجسَّد في سيرة بني هلال، تبدو وجيهة. لكن هل هذا هو السبب الوحيد أم هناك سبب أو أسباب أخرى؟
هوامش
1ـ مكس هرتس بك، جامع السلطان حسن، عربه عن اللغة الفرنسية علي بهجت، تقديم محمد صابر عرب، القاهرة، دار الكتب والوثائق القومية، 2009، مقدمة الكتاب.
2ـ السابق، مقدمة الكتاب.
3ـ شوقي عبد الحكيم، سيرة بني هلال، فصل الهلالية في مصر، الطبعة الثانية، مؤسسة هنداوي 2017.
اقرأ أيضا:
خاتمة المحققين: «قطة الصعيد التي غلبت جمل البِحيرة»