التطوير يصل إلى وسط القاهرة: هل نقول وداعا للمدينة التي نعرفها؟

علق خبراء التخطيط العمراني والآثار على محاولات تطوير منطقة «وسط البلد» بالقاهرة، التي أعلن عنها رجل الأعمال الإماراتي «محمد العبار»، رئيس مجلس إدارة شركة «إعمار». إذ وصفوا المشروع الذي يسعى لتحويل وسط البلد إلى نسخة مشابهة لـ”داون تاون دبي” بالـ«غامض»، في ظل عدم وضوح الخطة الرسمية واشتراطات ترميم صارمة للمنطقة التراثية.
من جانبه، أكد الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، أن الحكومة بصدد تطوير المنطقة بالشراكة مع الصندوق السيادي، مع ضمان احترام الطابع التاريخي وفتح الباب للاستثمارات المحلية والدولية.
مقترح غامض
علقت د. سهير حواس، أستاذ العمارة والتصميم العمراني بكلية الهندسة جامعة القاهرة، على طبيعة مقترح رجل الأعمال الإماراتي العبار، وقالت لـ”باب مصر”: “هذا المقترح غير واضح ولم يتضمن إيضاحا لما هو المقصود منه، وما هي طبيعة الرسومات أو الخطة التي سيتم تنفيذها، وكيفية تنفيذ هذا التطوير”.
ووصفت عضو مجلس إدارة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، منطقة وسط البلد بالقاهرة، بأنها بمثابة متحف مفتوح لتراث القاهرة الخديوية، مشيرة إلى أن هذه المباني تخطط لها الفكر الأوروبي مثل باريس. وعن عقد المقارنة بين المدينتين، أوضحت صاحبة موسوعة القاهرة الخديوية: “كان من الممكن وصفها بإعادتها مثل باريس، باعتبار أن القاهرة خططت كـ”باريس الشرق”. وعند المقارنة، أقارنها بنفس المدينة التي تم تصميمها وفق نفس المدرسة التخطيطية”.
مدينة تاريخية
وأضافت لـ”باب مصر”: “لا يمكن قياس النجاح بعدد السياح فقط. السياح يزدادون عندما توجد عوامل جذب حقيقية، مثل توفير خدمات ممتازة، سيارات أجرة لا تستغل الركاب، شوارع يمكن المشي فيها بأمان، وعدم التعرض للمتسولين في الأماكن العامة. هذا هو نوع التطوير الذي يجذب السياحة، حيث تتوفر مقومات السياحة، لكن التركيز يكون على تقديم الخدمات التي تخدم هذا القطاع.”
وعلى حد وصفها، أي مدينة ناجحة تحتوي على الخدمات الأساسية اللازمة ستتمكن من تحقيق هذا النجاح. لماذا لا نرى مدنا مثل باريس أو إسطنبول أو الرباط التي تتمتع بعراقة كبيرة؟ تم التعامل مع هذه المدن بطريقة جعلت معدلات السياحة فيها تتضاعف”.
وعن المقارنة العمرانية بين المدينتين، أوضحت أن دبي مدينة جديدة تعتمد بشكل أساسي على الأبراج، قائلة: “لا يمكننا تقليدها في مدن تاريخية ولا يمكن بناء أبراج على المواقع التراثية. تتميز دبي بشوارعها الواسعة جدا والمقسمة بشكل خاص”.
اشتراطات التطوير
وفيما يتعلق بالتطوير العقاري، استكملت: “عندما نتطرق إلى مدينة قديمة وعريقة، يجب أن نضع في اعتبارنا الحفاظ على طابع المكان، والعمل على إحياء ذاكرة المكان، والالتزام بتخطيطه التاريخي، وتعزيز معالمه الأساسية، مع التركيز على حماية التراث”.
أما بالنسبة لإسناد مشاريع التطوير لمستثمرين غير مصريين، فتقول: “لا يهمني من يشتري أو يمتلك طالما أن المباني لا تُنقل مع مالكها الجديد. هناك قوانين واضحة واشتراطات صارمة لتطوير أي منطقة، ولا يمكن لأي شخص أو مطور تجاوز هذه القوانين. منطقة القاهرة الخديوية، على سبيل المثال، تعتبر منطقة تراثية مسجلة وفقاً للقانون رقم 119 لعام 2008، وبالتالي هناك اشتراطات حماية يجب الالتزام بها”.

إحياء القاهرة التاريخية
من جانبها، تساءلت الدكتورة جليلة القاضي، أستاذ التخطيط العمراني في القاهرة وفرنسا، عن ماهية التطوير التي تحدث عنها رجل الأعمال العبار. وقالت لـ”باب مصر”: “لقد تحدث عن تطوير وسط البلد، لكن لم يوضح أي حي بها، لأن هناك أحياء كثيرة مثل الأزبكية، التوفيقية، قصر النيل، بالإضافة إلى منطقة عابدين وجاردن سيتي”.
وتابعت: “كل حي له تاريخه والطابع الخاص به، والتدخل في حي يختلف عن التدخل في حي آخر. حي الوزارات على سبيل المثال يختلف عن حي قصر النيل، أو مخطط مختلف تماما مثل جاردن سيتي”.
على حد وصفها، فإن مقترح التطوير الذي طرحه مبهم وغير واضح، وأضافت: “فيما يتعلق بفكرة التطوير في المناطق التاريخية، فإن الهدف هو إحياء هذه المناطق وإعادتها إلى رونقها الأصلي مع الحفاظ على أصالتها. لكن عند الحديث عن التطوير، هناك غموض في المفهوم، حيث لا يبدو أن هذه الفكرة تتناسب مع بعض المناطق التاريخية، وهو أمر قد يثير القلق واللبس. هذا القلق يزداد خاصة عندما نتحدث عن وسط البلد، نظراً للتجارب السابقة المرتبطة بمصطلح “التطوير”.
باريس الشرق الأوسط
واستكملت: “عند الحديث عن إحياء وسط البلد، فإن ذلك يتطلب تخطيطاً دقيقاً قد يمتد على مدى 20 إلى 30 سنة. الأمور لا تتم بشكل سريع، خصوصاً إذا كان الهدف هو إعادة السكان الذين غادروا المنطقة وجعلها مكاناً مفعماً بالحياة، بدلاً من أن تتحول إلى مجرد مناطق تضم فنادق ومراكز تجارية كما هو الحال في دبي. وهذا ليس ما نطمح إليه”.
وأكدت “القاضي” أن القاهرة تتميز بتراكم تاريخي عميق يعود إلى نشأتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتتمتع بتاريخ وهوية وطابع خاص. وأوضحت أن الفكرة الأفضل في تطوير المنطقة التاريخية هي إعادة إحيائها بشكل مشابه لمدينة باريس، إذ استعان الخديو إسماعيل بمهندسين فرنسيين لتخطيط مناطق الأزبكية وقصر النيل وعابدين، ثم حضر بعد ذلك معماريون من أوروبا واستقروا في مصر وصمموا عمائرها. مشيرة إلى أنه إذا كان الهدف من إحياء وسط البلد هو تحويلها إلى صورة تشبه باريس كما خطط لها الخديوي إسماعيل، فإن المقارنة تصبح مقبولة.
إعادة تأهيل
أكدت دكتورة جليلة القاضي أن منطقة وسط القاهرة شهدت تدهوراً ملحوظاً، وأن الهدف الآن هو إحياؤها وإعادة تأهيلها لتستعيد أصالتها، باعتبارها جزءاً من التراث ذو الطابع الفريد الذي يجب ترميمه والحفاظ عليه. واستشهدت بتجربة بناء مدينة برازيليا في البرازيل، إذ ظلت العاصمة القديمة ريو دي جانيرو كما هي، ولم يتم هجرها بل ظلت هي العاصمة الأساسية الحية ولم يتم العبث بها أو تغيير هويتها ولم تترك للتدهور. احتضنت العاصمة الجديدة الخدمات الإدارية العليا والقصر الرئاسي مع وجود سكان هم الموظفون العاملون بها.
فيما تحدثت القاضي عن أهمية البدء في تحسين خدمات منطقة وسط البلد. واقترحت: “ضرورة الاهتمام بتطوير الفراغ العام ككل، والذي يعد جزءا منه الرصيف، الشارع، التشجير، أماكن عبور للمشاة، والمناطق الخضراء. كل ذلك يدخل ضمن مفهومً تنسيق الفراغ العام، وتحويل الأراضي الفضاء إلى حدائق صغيرة لعدم وجود في المنطقة سوى حديقتي جروبي والأزبكية التي يتم تطويرها حالياً. كما يجب جعل الشوارع أكثر جاذبية من خلال تنظيفها وتحسين واجهات المحلات”.
وأوضحت أنه من الضروري التعامل مع مشاكل مثل المناور والمصاعد وكل ما يتعلق بكفاءة تشغيل المباني، وكذلك تنظيف الأسطح التي تم تحويل بعضها إلى مقالب للزبالة. وأشارت إلى أن محاولات التطوير منذ زلزال 1992 كانت تقتصر على دهان الواجهات، ما أدى إلى تحسين المظهر الخارجي للمباني، لكن دون تنفيذ المواصفات المطلوبة، مما يعني أن هذه المحاولات لم تكن كافية.
متطلبات القاهرة التاريخية
وتطرقت القاضي إلى اشتراطات التطوير والتدخل في المناطق التاريخية، والتي تتم وفقاً لمبدأ أساسي هو الحفاظ على ما هو موجود. وتحدثت عن مناهج التطوير، حيث في بعض الحالات، يمكن تغيير محتوى المبنى من الداخل دون المساس بالواجهة الخارجية. وهو منهج تم تطبيقه في العديد من الدول الأوروبية، لكن تم التخلي عنه بعد اكتشاف أنه يؤدي إلى تغيير هوية المباني بالكامل من الداخل.
وأشارت إلى أنه من الضروري أن يكون هناك سكان وأنشطة متنوعة في منطقة وسط البلد، تشمل الأنشطة الخدمية والإدارية والتجارية، بالإضافة إلى النشاط السياحي. كما يجب الاستفادة من تجارب الدول الأخرى، خاصة وأن هناك العديد من المتخصصين الذين درسوا عمليات إحياء المناطق التاريخية منذ الستينات، مشيرة إلى أهمية وجود تمويل لهذا النوع من المشاريع.
واختتمت حديثها، بالإشادة بنموذج ناجح في منطقة وسط البلد وهو إعادة إحياء ممر سينما راديو الذي نفذته شركة الإسماعيلية، وقالت: “تم إحياؤه مع الحفاظ على شكله التاريخي، وهو نموذج ناجح يعكس كيفية الحفاظ على أصالة المكان مع تحسينه”.
تخطيط المدينة
فيما أوضح خبير الآثار الدكتور عبدالرحيم ريحان، عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، رئيس حملة الدفاع عن الحضارة المصرية، أن العبار لم يأت بخطة محددة حتى الآن، سواء من الناحية العمرانية أو المعمارية أو الفنية أو المجتمعية، حتى نناقشها وفق هذا الإطار، ولم تعرض أي خطة رسميًا أو نوقشت في مجلس النواب.
وتابع لـ”باب مصر”: “كل ما ذكره رجل الأعمال الإماراتي محمد العبار: «إن استثمارنا مع شركة «ميدار» في مشروعنا بمنطقة التجمع في القاهرة يقع على مساحة 500 فدان باستثمارات تتجاوز 3 مليارات دولار، وسُددت دفعة مقدمة في بداية المشروع، مؤكدًا أن الموقع يبشر بالخير وشراكة جيدة مع «ميدار» التي لديها أراض كثيرة، وهو التعاون الأول بينها وبين «إعمار» وأنه يسعى للتوسع في المشروعات بمساحات كبيرة تصل إلى 2000 فدان”.
وأوضح الدكتور ريحان أنه لا وجه مقارنة بين دبي والقاهرة التاريخية، لأن دبي مدينة حديثة بكل مفهوم الحداثة في تخطيطها وطرزها المعمارية. واستكمل حديثه: “القاهرة التاريخية، باريس الشرق، لها طرازها المعماري والفني المميز والمرتبط بالهوية من خلال حكايات شوارعها وميادينها وارتباطها بأحداث سياسية وثقافية واجتماعية كجزء من ذاكرة مصر الحديثة والمعاصرة”. وعن القاهرة الخديوية بوسط مدينة القاهرة، أضاف أنها تمتد من منطقة القلعة شرقاً إلى الأزبكية وميدان العتبة غرباً، وبلغت مساحتها في مخطط الخديوي إسماعيل نحو 20 ألف فدان، واستغرق إعداد وتصميم وتنفيذ مشروع القاهرة الجديدة خمس سنوات.
ونوه الدكتور ريحان بتميز القاهرة الخديوية بطرز معمارية فريدة ساهم فيها معماريون فرنسيون وإيطاليون وألمان ومصريون، فقد أنشأها الخديوي إسماعيل عقب زيارته للمعرض العالمي بباريس عام 1867، وعلى غرار تطوير باريس على يد هاوسمان، قرر الخديو الاستعانة بالمعماري الفرنسي نفسه لتخطيط القاهرة، وتعيين علي باشا مبارك وزيراً للأشغال العمومية للإشراف على تنفيذ المخطط العمراني للقاهرة على غرار باريس.
ومن هذا المنطلق يرفض ريحان تطوير القاهرة على نمط دبي، لأن كل مدينة لها طابعها المميز والمتميز.
مشروعات جارية
وأوضح ريحان أن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، برئاسة المهندس محمد أبو سعدة، يقوم حاليًا بأعمال تطوير منطقة وسط المدينة وإعادة إحيائها بهدف تحويل القاهرة الخديوية إلى وجهة سياحية وثقافية عالمية. مع تعزيز رونق العاصمة التاريخي والحضاري، وتحسين الصورة البصرية، وتنسيق الفراغ العام.وأضاف، أن وزارة السياحة والآثار كانت قد أعلنت من قبل عن مشروع «القاهرة الكبرى الثقافي»؛ لجعل العاصمة مزاراً جاذباً للسياح، وزيادة مدة التجربة السياحية بالقاهرة إلى 12 يوما. من خلال توفير تجارب متنوعة للسياح عبر زيارة المواقع الفرعونية والأثرية والتاريخية.
وفي ضوء هذا، يطالب الدكتور ريحان بالدعم المادي لأي مستثمر لاستكمال مشروع تطوير القاهرة الخديوية تحت إشراف الجهاز القومي للتنسيق الحضاري. وقبل أن يتم أي مشروع، يجب تسجيل كل المباني التراثية بالقاهرة الخديوية بالتعاون مع المحافظين. ووضع آلية واضحة ومحددة لتطبيق القانون 144 لسنة 2006 واللوائح المنظمة. وذلك لحماية التراث المعماري والفني الفريد المتميز بمصر عامة، والقاهرة خاصة.
خبرات مصرية
وأشار إلى ضرورة الاستعانة بخبراء في التراث والفنون من كليات الهندسة والفنون الجميلة والتطبيقية، وخبراء آثار في تطوير القاهرة الخديوية. أي أن الخبرات البشرية متوافرة ويمكنهم وضع مخطط للتطوير يحافظ على قيمتها التراثية كـ”باريس الشرق” دون تغيير معالمها التراثية.
وقال: “أما موضوع الأبراج وما شابه، فيمكن أن ينجح في العاصمة الإدارية باعتبارها عاصمة حديثة”. واختتم حديثه: “حملة الدفاع عن الحضارة المصرية، التي يشرف على رئاستها، قد نشرت بالفعل خطة لتطوير القاهرة التاريخية عن طريق مستشارها للصيانة والترميم، خبير الترميم الأستاذ حمدي يوسف. ولديهم الكوادر المؤهلة للمساهمة بشكل تطوعي في تطوير القاهرة الخديوية”. أما بخصوص 10 ملايين زائر. أوضح “ريحان” لـ”باب مصر”: “القاهرة بالفعل سكانها، علاوة على زوارها، يفوقون هذا العدد”. متسائلا: “ولكن هل هناك طاقة فندقية بالقاهرة الخديوية تستوعب 10 ملايين زائر؟”.
واختتم حديثه قائلا: “من الممكن أن يتحقق هذا إذا أعدنا توظيف العديد من المنشآت التراثية بالقاهرة الخديوية كفنادق تراثية، وهي أعلى الفنادق أسعارًا في العالم. حلوان، على سبيل المثال، تحتوي على العديد من المواقع التراثية المهملة من عصر أسرة محمد علي، ومعظمها أصبح مأوى للمجرمين الآن. إذا أحسنا استغلاها وتحويلها إلى فنادق، ومقارنة مع باقي أحياء القاهرة، يمكن أن تستوعب هذا العدد. ولا يشترط أن تكون الفنادق كلها داخل حدود القاهرة التاريخية، بل داخل حدود أحياء القاهرة كلها. لتتحول القاهرة الخديوية إلى مواقع للزيارة غير متكدسة”.
اقرأ أيضا:
في ندوة بالسيداج: كيف أثرت «أم كلثوم» على السياسة العربية بعد النكسة؟