“التحطيب”.. كيف قاد فروسية الرجال إلى العالمية؟
في تلك اللحظة التي تتلامس فيها العصيان، من أجل أداء رقصة التحطيب، يستحضر المشتركان العديد من الذكريات والقصص التي حفظوها عن تاريخ هذه اللعبة، التي يسمونها “غية الرجال” أو “فتح باب”.
أجدادهما كانوا يعتبرون ما يمارسه الأفراد الآن على أنه رقصة، رمز من رموز الرجولة والقوة والفروسية، يمارسونها من أجل الصيت وتلقي الإعجاب.
نجح التحطيب في الوصول لسجل العالمي عبر توثيقه بواسطة اللجنة الحكومية الدولية لليونسكو، باعتباره تراث مصري شعبي متوارث منذ عهد الفراعنة، جاء ذلك بعد عامين من المحاولة بعد أن رفضت لجنة اليونسكو الملف الأول بسبب نقص اكتمال معايير التأريخ.
وخلال احتفالية أقامها متحف النسيج التابع لوزارة الآثار بالتعاون مع إدارة القاهرة التاريخية، تحت عنوان “التحطيب تراث مصري يصل للعالمية” قالت الدكتورة نهلة إمام، رئيس قسم العادات والمعتقدات والمعارف الشعبية بالمعهد العالي للفنون الشعبية، رئيس الوفد المصري المشارك في اجتماع اللجنة الحكومية الدولية لليونسكو، إن ملف التحطيب قدم للمرة الأولى من أجل التسجيل في اليونسكو في عام 2014، لكن الملف الذي كتبته الجمعية المصرية للمؤثرات الشعبية رُفض لعدم اكتمال المعايير المطلوبة.
تتابع إنه لتسجيل أي عنصر تابع للتراث المصري يجب أن يشتمل على خمسة عناصر، أهمها تحديث قوائم الجرد الخاصة بالتراث المصري في لجنة اليونسكو كل عامين، الى جانب مدى تأثير تسجيل هذا العنصر في الوعي الثقافي بالتراث وأسباب تسجيله، بالإضافة الى الدور الفعال للمجتمعات المحلية والأفراد في تدعيم هذا التراث وعدم اقتصار الأحياء على دور الدولة فقط، وهذه الأسباب وجدتها لجنة اليونسكو مفقودة في الملف الأول.
وأضافت إمام “منذ عامين- عند الإصدار الأول للملف- سحبنا الملف من أجل تعديله وإثرائه، ومن ثم في عام 2015 شاركنا بعنصر السيرة الهلالية لتوثيقه، ولأنه يشترط عدم المشاركة إلا بعنصر واحد سنوي، أعدنا بث عنصر التحطيب في السنة اللاحقة مع لجنة حكومية للمناقشة، وتفنيد أسباب الاعتراض والرفض”.
كان من أكبر تساؤلات اللجنة، كما تقول إمام، هو دور النساء في التحطيب، وهو ما أجابت عنه “على الرغم من عدم مشاركة السيدات في اللعبة بصورة مباشر، إلا إنهن كن يبعثن بأبنائهن لتعلمها منذ سن العاشرة، كما كان التحطيب من أهم الأسباب الرئيسية لاختيار الأزواج، فهو دليل على القوة والرجولة.
ومن المُثبت في العديد من كتب التاريخ أن الرجال كانوا يدعون حبيباتهم لمشاهدتهم أثناء التحطيب، كدليل على مدى قدرته على تقديم الحماية لها وإثارة إعجابها، وبهذا عدم مشاركتهن المباشرة في التحطيب لا ينفي دورهن المؤثر والفعال في هذا التراث.
تعود ثقافة التحطيب إلى العصر الفرعوني، فقد انتشرت لعبة المبارزة بالعصا كلعبة خشنة ما بين الشبان في مختلف الطبقات الاجتماعية، تؤكد ذلك العديد من النقوشات التي وجدت تجسد التحطيب على جدران معابد الفراعنة من أبرزها معبد الكرنك.
ومن ثم اختلف شكلها وهيئتها على مر العصور، وأصبح أبناء الطبقات الُعليا يمارسون المبارزة بالسيف، بينما اقتصر التحطيب بالعصا على أهل الريف والصعيد.
ووثق حسام الدين محمد في كتابه التحطيب في الصعيد وتعليمه أن لعبة التحطيب لها مضمون درامي يعود بشكل أساسي ورئيسي للسيرة الهلالية وارتباطها بمفهوم الفروسية والبطولات الشعبية.
وعلى الرغم مما قد يظهر أنها نوع من أنواع القتال العنيف، الذي قد يودي إلى الموت إلا إنها مسجلة على مر العهود بأنها مجرد رياضة، وتحولت مؤخرا إلى نوع من أنواع الرقصات.
في دراسة بحثية أجراها جوناثين ريدل ذكر فيها أن التصادم بالعصي، رياضة مشتركة بين مختلف الدول في أفريقيا، لكن بصور مختلفة تميز كل قطر عن الآخر، لكن المشترك ما بين الاختلافات جميعها أنها تعلم ممارسيها سمات المحاربين وهي السرعة والقوة والشجاعة.
بالنسبة لمصر ذكر ريدل أن بداية التحطيب جاءت بسبب أن الفراعنة كانوا يدربون أبناءهم بصورة دائمة على القتال، وكان هذا من أهم التدريبات في حال حدوث أي حرب ونوع من أنواع التأهب لمواجهة المخاطر. كما أن بداية ظهورها تختلف عن السمات الحالية.
واتفق معه عبد العزيز سالم، أستاذ الآثار والفنون الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة، في تاريخ ظهورها، إذ يقول إن التحطيب عند الفراعنة كانت لعبة ذات شأن عظيم يحضرها الملك بنفسه ويخصص جوائز للفائزين، وكانت عصا التحطيب مكونة من ورق البردي المقوى في ذلك الوقت.
واستدل على ذلك بوجود مصورات فرعونية عديدة في مقابر بني حسن وسقارة ومعبد رمسيس الثالث، ومعبد بني حسن تجسد لحظة فوز أحد اللاعبين اثناء تكريمه من الحاكم بينما يتوجه الخاسر إلى الجمهور ليحييه.
اختلفت بعض سمات التحطيب على مر العصور، منها نوع العصا وطريقة ممارسته، ومع توالي العصور الإسلامية ظلت ممارسة اللعبة مقتصرة على عِلية القوم، لكن كان أهم تغيير طرأ عليها هو أنها تمارس من على ظهر الخيل.
كما تحولت المادة المُصنعة للعصا من ورق بردي إلى الخيرزان والخشب، وكانت تختار العصىا تبعا لمدى إتقان المشتركان في اللعبة ومدى قوة المنافسة بينهما، حتى وصلت إلى ربط عصايتان بعضهما ببعض.
استمرت اللعبة ضرب من ضروب الفروسية الممارسة من فوق ظهر الخيل خلال العصر الفاطمي والأيوبي والعثماني، أما حاليًا فقد اقتصرت على الوجه القبلي في الصعيد.
وعلى الرغم من تأكيد عبد العزيز بأنه ما زال التحطيب يمارس في الوجه البحري إلا أن استمراريته والتركيز عليه بصورة أكبر توجد في الصعيد بسبب الثقافة المجتمعية المرتبطة بقوة الرجال وشجاعتهم وإقدامهم في الصعيد.
وبالنسبة للفئة الاجتماعية الممارسة لها، فتحولت من الطبقات العليا لعامة الشعب، وحل محلها رياضة المبارزة بالسيف- وهي أحدى الرياضات المشتقة منها- مقتصرة على العلية.
ووثق عبد العزيز في كتابه “مصر” أنه رغم سهولة إيذاء المشاركين إلا أن التحطيب من أقل الألعاب الرياضية على مر العصور تسجيلا لضحايا.
وعلى الرغم من قدم التراث إلا أن ارتباط أهل الصعيد به مازال حاضرًا بقوة، وهو ما جعلهم يستمرون في إرسال أبنائهم إلى مركز مدحت فوزي لفنون العصا، وهو أحد أهم مراكز تعليم فن العصا للصبية في ملوي بالمنيا.
وعلى مدار 25 عاما، علّم المركز العشرات من الفتيان الرقصات المختلفة الممارسة في الموالد والاحتفالات، بالإضافة إلى تقديم العروض الدولية في مختلف الدول العربية والأوروبية، كذلك على المستوى العالمي، أصبح التحطيب أحد الفنون القتالية التي تمارس ويتم تعلمها في أوروبا سواء للسيدات والرجال ومنها فرنسا.
اما بالنسبة لصفات المحطبين، فتذكر الكتب والدراسات التي تناولت تاريخ اللعبة أن التحطيب يدل على الشجاعة وقوة المواجهة والإقدام وفي نفس الوقت يعكس الروح الرياضية والأخلاق.
وعلى الرغم من أنه لا يوجد ثأر لمن فقد حياته أثناء التحطيب، إلا أنه من المعروف أنه في اللحظة التي يفقد فيها أحد المنافسين عصاه يبتعد الآخر عن رأسه خشية إيذائه.
اقرأ أيضًا:
إضافة “التحطيب” إلى قائمة التراث الثقافي لـ”اليونيسكو”
فيديو وصور| التحطيب.. من الشعبية إلى العالمية بعد اعتراف اليونيسكو
العصا من نبوت الفتوة إلى لعبة التحطيب
مركز فنون العصا في ملوي.. قبلة الحياة الأخيرة للعبة الأجداد
16 تعليقات